الحائط
الحادي عشر من فبراير 2026
أمسك أولاف، الشرطي المخضرم بدائرة ميونخ، ألمانيا، بجريدة زودوتش تزايتونج-Süddeutsche Zeitung الصباحية. نظر للعنوان الرئيسي وقرأه بصوت عال على زميله المرافق له في المكتب:
- جريمة رهيبة! احتجزوه في شقة معزولة، عذبوه، وقتلوه.
ثم توقف وقد راحت عيناه تمران سريعاً على الكلمات، قبل أن يهتف:
- هنا! وقال الشرطي م. أ. أولاف، الذي كان أول من وصل لموقع الجريمة، أنه تلقى بلاغاً من....
يقاطعه زميله:
- حسناً، أولاف، حسناً. أعرف الآن أنك بطل!
ضحك أولاف بخشونة، قبل أن يرمى الجريدة لتستقر على المكتب:
- أخبرك، الناس مجانين يا رجل! لو رأيتَ ما رأيته هناك، لتقيأت دماً.
- أعرف ما تقوله.
- لا، لا تعرف، لا تعرف ببساطة. دم في كل مكان.
- أنت تبالغ كعادتك.
- لا.. المشهد كان رهيباً.
يهمهم زميله الذي كان مشغولاً بحاسوبه:
- صحيح.
- رائحة الموت، تعرف؟ شيء مرعب.
- نعم.
- ومنظر الجثة؟ شيء آخر. ثم.... ثم....
وبدا أولاف تائهاً، وقد أخذه تفكير عميق. ينظر له زميله بشيء من الفضول. يترك حاسوبه ويسأل:
- ثم ماذا؟
تتحشرج الكلمات في حلق أولاف الذي يحمحم ليقول:
- كانت عبارة صغيرة مكتوبة بالدم على أحد الحوائط. لن أترك وطني.
- وطني؟
- نعم. أمر طريف، لأن القتيل لم يُعثر له على جنسية. لم يتعرفوا عليه.
- أهو الذي كتب العبارة؟
- لا نعرف. بكل حال، قبضنا على الفاعل.
- لكنه لم يتكلم منذ البارحة.
- ولن يفعل على الأغلب. أتعرف؟ هذه الأشياء تجعلني أفكر، ما الذي من الممكن أن يكون قد حدث؟ كيف يمكن لبشر أن يفعلوا هذا ببضعهم البعض!
......
الأول من نوفمبر 2025
نظر السيد عمار السويعي إلى باب الوحدة السكنية أمامه. تحديداً إلى رقم عُلق على الباب ليميز الوحدة عن الأخري. زفر بضيق وزمجر بصوت خفيض. أطلق سبة وثانية وثالثة. صمت قليلاً، ثم أطلق الرابعة. في النهاية، مد يده النحيفة وطرق على الباب ثلاثاً، ثم قال:
- تحصيل. هل أنت هنا؟
سكون تام. يعيد السيد عمار سؤاله بصوت أعلى:
- هل أنت هنا سيد فتحي؟ تحصيل؟
لم يقطع الصوت المنهك الصمت إلا بعد لحظات:
- لا.
يتنهد السيد عمار وهو يسب سبة أخرى. لم يعرف لسانه الشتائم إلا على هذه الوحدة بالذات. كان أمام زوجته وأولاد حذر اللسان محترمه. لا يسب ولا ينعت بالحمار حتى. كان كما عرفه الجميع. وقار يمشي على قدمين. ارستقراطي محترم لا يعرف معنى انفعال، وبالتأكيد، لا يعرف معنى كلمة سبة.
حتى في أوقات الغضب والدهشة، يصمت ويصون اللسان والأفعال. ليس فقط أمام عائلته، بل كل الناس. طوال الشهر، يكبت ويكبت. لم يكن يدرك هذا، لكنه كان ينتظر نهاية كل شهر حتى يقف أمام هذه الوحدة بالذات، لسبب وحيد: أن يخرج كل ما كتمه طوال الشهر.
ظن أنه يكره تحصيل أجرة الوحدة، لكنه كان يعشقه، بل ينتظره. حينما سأله صديقه العزيز، السيد محمد ربيع، الشهير بربيع، عن أكثر ما ينغص عليه حياته في الغُربة، جاوب بدون تفكير وبسرعة، الوحدة 33، التي يسكنها فتحي المصري. راح في دقائق كاملة، يصف له كيف يكره فتحي وتأخره عن دفع الإيجار. عن شحه وقحته وفقره. تخرج الكلمات من لسانه وعقله الباطن يخبر شيئاً غير يخرجه اللسان. كانت وقفته أمام الوحدة 33، هي اللحظة الوحيدة التي يشعر فيها أنه حي دون قيود. لم يكن يدخن، لكنه كثيراً ما وجد نفسه يخرج سيجارة ويشعلها أمام باب الوحدة 33.
كان السيد عمار قد ورث العقار البسيط، الكائن في ميونخ، 10 شارع السلام، في ألمانيا، من والده. عشر وحدات سكنية. يسكن واحدة مع ولديه وزوجته، ويؤجر التسع الباقيات. أما العقار، فموقعه المتميز كان يضمن له الإيجار الدائم السريع، فإن رحل فلان، يأتي علان، وتستمر الدائرة. وحدة واحدة فقط كانت تثير جنونه أو أشياء أخرى: الوحدة 33، ذاتها التي يقف أمامها الآن.
طرق السيد عمار مجدداً:
- رجاءً، افتح.
يأتيه صوت فتحي المرتبك:
- لست هنا.
ينفعل السيد عمار كقنبلة في المكان. علا الصراخ كما لم يعلو قط:
- أسمع صوتك أيها المتخلف!
لا رد. يقول السيد عمار وقد خفض صوته وعلت حدة التهديد:
- اسمع يا بن الكلب، إن لم تفتح الآن، ورحمة أمي، لأجعلنك فُرجة لخلق الله.
____
المعجم: الفُرْجَةُ: مشاهدةُ ما يُتَسلَّى به.
____
لم يكن السيد عمار السويعي يقسم برحمة أمه أبداً. ليس سوى أمام باب الوحدة المنشودة. لم يكن أيضاً يسب الآخرين، وقطعاً، ليس الآباء والأمهات. شعر بنشوة خفيفة لم يدر بمصدرها حين وجد السكون والضعف في كلمات السيد فتحي:
- لا تغضب أرجوك.
تزيد النشوة داخل السيد عمار. لم يترجاه أحد من قبل. فقط السيد فتحي ساكن الوحدة، هو من يفعل. ترتجف شفتا السيد عمار من فرط الانفعال. يهمس في البدء، كصياد يختبر فريسته بحذر:
- افتح أيها العاهر.
يجد استسلاماً. يتجرأ أكثر فيعلو صوته:
- افتح أيها المخنث!
صوت بكاء رجل بالغ. أنين غريب وصوت متهدج يأتي من داخل الوحدة:
- أرجوك لا تطردني! أرجوك لا تطردني!
يرتفع حاجبا السيد عمار في دهشة. هذا جديد. هذا لم يحدث من قبل. يقول بصوت وميزان تغلب فيه كفة الخوف على التهديد والبأس:
- اخرج يا بن ال.......
هذا جديد. لم يسب هذه السبة من قبل! هذه قبيحة وقوية. ليست مثل السابق! يتعالى صوت البكاء:
- أرجوك! أريد أن أعيش.
تتسع عينا السيد عمار قليلاً. تغلب كفة التهديد والبأس كفة الخوف. الصوت لم يعد منخفضاً، بل صار أقوى:
- اخرج الآن يا.......
أنين مستسلم من داخل العقار:
- حسناً.
يقول السيد عمار بغضب مفتعل ليس له داع:
- الآن يا......
صوت ارتباك وسقوط هرولة يأتي من داخل العقار. يضحك السيد عمار:
- دبش يا بن ال......
.....
المعجم: دبش-تُطلق على الشخص الطائش كثير العثرات، أو الكلام الذي يخرج من شخص بدون مراعاة مشاعر الاخرين.
....
ينفتح الباب عن رجل نحيل غارت عيناه في محجريهما. أشعث وشاحب. يبدو قلقاً وفي عينيه نظرة خوف. في جسده ارتجافة خفيفة تسبب اهتزازاً في أطراف ملابسه الرثة الواسعة. يقول السيد فتحي:
- لا أملك المال يا سيد.
لثوان يقف السيد عمار متردداً. قبل أن يحسم أمره ويدخل الوحدة دافعاً السيد فتحي في طريقه. يتفحص المكان البسيط الخالي من أي أثاث يُذكر. هي فرشة نوم بسيطة جانب حائط. فوارغ طعام معلب مرمية بعشوائية. فوارغ مقرمشات. أوراق جرائد. وعاء بلاستيكي به ماء شرب. ثم لا شيء آخر. يقول السيد عمار:
- أنت لا تدفع الإيجار منذ أشهر.
يرتجف السيد فتحي. يمشي خطوات سريعة حتى يصير أقرب للفرشة. يلتصق بالجدار خلفها، فيقول:
- لا أحد يقبل بتعييني.
- ذات القصة القديمة.
بتردد، يقول السيد فتحي:
- لأن أوراقي ناقصة.
يصمت السيد عمار للحظة تفكير. أخبره شيء بأعماقه أنه يجدر به الضحك، ففعل مصطنعاً، ثم قال:
- ناقصة؟ بل لا توجد أوراق أصلاً.
يزداد السيد فتحي التصاقاً بالجدار:
- أرجوك.
- أويتك لأن الدم المصري واحد، ونحن أبناء غربة هنا.
وكأن السيد فتحي لم يسمع ما قيل، قال:
- أنا جائع.
تجاهل السيد عمار ما سمع بدوره، وقال يمشى ببطء في المكان:
- أتعرف نقطة ضعفي؟ المهاجرين غير الشرعيين، مثلك تماماً.
يقول السيد فتحي:
- أنا جائع.
يرد السيد عمار:
- لأشهر ظللت أصبر عليك. مال لا يدخل جيبي بسببك. أتعلم؟ زوجتي تقول إن ميونخ مكان قاسي فعلاً، وتدافع عنك كل مرة.
- هي امرأة.
- نعم. لكن حزر فزر، هي ليست موجودة هنا اليوم.
- ماذا؟
- يعني أنك اليوم، ستغادر هذا المكان.
تتسع عينا السيد فتحي. لم يسبق له أن سمع هذا التهديد من قبل. هذه الزيارة مختلفة عن كل الزيارات السابقة. يقول بعدم تصديق:
- ماذا؟
- كما سمعت. اليوم تغادر.
تتسارع أنفاس السيد فتحي، ويقول بنبرة أقرب للبكاء:
- لا أستطع أن أتركه... أريد أن أعيش!
- لا أهتم. انتهت فترة سماحك معي.
يلتصق السيد فتحي بالجدار:
- لا يا سيد عمار... أرجوك. سأفعل أي شيء. لا أستطيع العيش بدونه
ينطلق الأدرينالين في جسد السيد عمار. حانت اللحظة الحاسمة. يمد يده لجيب معطفه وهو يقول:
- صراحة، خمنت أن شيء كهذا سيحدث.
ويخرج السلاح الناري من جيبه مصوباً إياه ناحية السيد فتحي:
- لهذا أحضرت القاضي إلى هنا.
تزداد ارتجافة السيد فتحي، الذي أخذته المفاجأة، فعجز لسانه عن الكلام. يقول السيد عمار:
- بموجب القانون، أنت الآن تتعدى على ملكية خاصة.
ينهار السيد عمار:
- لا... أي شيء! أي شيء!
ازدادت انفعالات السيد عمار ونشوته. قال بنبرة حزم:
- اخرج! الآن!
تخرج الدموع من عيني السيد فتحي بغزارة. ينشج:
- أرجوك... كله إلا الجدار.
تترف عين السيد عمار:
- ماذا؟
يزداد التصاق السيد فتحي بالجدار:
- خذ كل شيء عدا هذا.
- حينما كنت تقول، لا أستطيع العيش بدونه، كنت تقصد هذا المكان، هذا المسكن، صحيح؟
- لا، قصدت الجدار.
- هل جننت أخيراً؟
يصمت السيد فتحي. يقول السيد عمار حين لا يسمع منه رداً:
- لماذا الجدار؟
من جديد، ليس من رد يصله. يصوب السلاح ناحية السيد فتحي، ويقول هائجاً:
- لماذا الجدار!
يرد السيد فتحي بسرعة وخوف:
- لن تفهم أبداً... أمثالك لن يفهموا أبداً!
- هل تقول إني غبي؟
- لا، أقول إنك لن تفهم أبداً لماذا الجدار.
يسبه السيد عمار ثم يقول:
- إذن تريد الجدار، ولا تريد الوحدة السكنية؟
- لا أهتم بالوحدة... إنه الجدار... هو الشيء الوحيد الذي يبقيني حياً.
- حائط؟ حائط يجعلك تعيش؟
يقول السيد فتحي بعد أن هدأت أنفاسه وتوقف نحيبه:
- خذ كل شيء عدا هذا الحائط.
ظن السيد عمار أن غريمه يلعب معه لعبة خبيثة. لا يمكن للمرء أن يحتفظ بجدار من مكان، إلا لو كان سيحتفظ بالمكان نفسه. يقول:
- لا تمازحني يا......
- لست أفعل.
نظر السيد عمار لعيني غريمه. رأى الصدق فيهما. لا يبدو أن السيد فتحى يمزح. إما هذا، وإما أنه مخادع كبير. يخرج من جيبه علبة تونة ورغيف خبز، ويقذف بهما إلى السيد فتحي الذي يلتقفهما بفرح، ثم يغادر مسرعاً.
....
جلست وهي تحادثه بالألمانية كما اعتادا أن يفعلا:
- هل أعطيته الطعام؟
يهز رأسه إيجاباً وهو يهمهم أن نعم. تقول بالعربية لما لاحظت شروده:
- ما لك يا حبيبي؟
ينظر لها، تحديداً في عينيها. زوجته جميلة. يعرف هذا. رقيقة القلب والمشاعر مثل أي أنثى. عملياً، هي التي تأوي السيد فتحي، لأنه ورغم كل شيء، هي التي تشتري طعامه وشرابه، أو ترسل له مع زوجها من طبخها إذا طبخت. فكر لنفسه "هي التي تبقيه حياً، ليس ذلك الجدار السخيف!"
كانا في شرفة الوحدة، يجلسان على كرسيين متقابلين، يراقبان أضواء المدينة البعيدة. أمامهما طاولة عليها شاي "كشري" كما يحبان. تقول زوجته وهي ترتشف من الشاي شيئاً:
- ما لك؟ أنت لست معي اليوم.
- لا شيء يا حبيبتي... إنه ذلك الرجل.
- ماذا عنه؟
- يتحدث عن ذلك الحائط... شيء غريب فعلاً.
- ماذا؟
يتنهد:
- يقول إن سبب حياته هو حائط، ليس السكن ذاته.
- حقاً؟
- لا أعلم، هذا ما قاله.
- مسكين... فقد عقله.... كنت أفكر.. يمكننا أن نذهب للسفارة في برلين وندفع له تكاليف العودة إلى مصر.. سيتكفلون هم بأمر الأوراق.
يقول مسرعاً:
- لا لا.... أحتاجه هنا.
تهتف محتجة برقة وهي تضع كوب الشاي من يدها:
- لم أفهمك يوماً يا عمار... تتذمر منه وفي ذات الوقت لا تريد أن تتخلى عنه. السبب الوحيد الذي يجعلني أرسل له الطعام هو أنك لا تفعل، وكأنك تعذبه!
لم تكن زوجة السيد عمار تدري أنه في لحظة العفوائية هذه، قد قيل أعمق وأدق ما يمكن أن يُفصح عن زوجها، السيد عمار. حينما قال "أحتاجه" كان صادقاً حتى النخاع، وحينما قالت "تعذبه" كانت لا تعلم مدى دقة وصحة كلامها.
قد كان بالفعل يحتاج للسيد فتحي، كما يحتاج السيد فتحي للجدار. غير أن احتياجه للسيد فتحي واضح وبسيط: هو متنفس لكبته وغرائزه المشوهة، أما الجدار، سأل السيد عمار نفسه "فلماذا يحتاجه فتحي إذن؟"
.......
وقف برهة أمام باب الوحدة. رفع يداً ليطرق بها، لكنه أوقفها وهي في الهواء. فكرة عدوانية تمرق بباله: لماذا يجب أن يطرق على باب داخل عقار يملكه! أخرج نسخة من مفتاح الباب، ففتحه بها. كان السيد فتحي نائماً، يلتصق بالحائط وكأنه وزغ عملاق. يقول السيد عمار وقد علا صوته:
- استيقظ أيها ال.....
ينتفض السيد عمار فجأة. يقف يطالع الزائر غير المتوقع. لم يسبق له أن دخل عليه الوحدة هكذا دون استئذان. كان عقله لا يزال يستوعب ما يراه. أمامه وقف السيد عمار، ممسكا بدلو بلاستيكي، وقلم تخطيط كبير. سأل:
- ما هذا؟
جاوب السيد عمار وهو يقترب من سائله:
- تريد الحائط؟ لك الحائط.
فلما اقترب بما فيه الكفاية، وضع الدلو أرضاً:
- هذا للفضلات.
ومشى يرسم أرضاً نصف دائرة قطرها الجدار. يقول بعد أن ينتهي:
- تعيش هنا.
لم يبد أن السيد فتحي يمانع. قال:
- أنا جائع.
يسبه السيد عمار، ثم يقول:
- اصمت واسمع. لا تخطو فوق الخط، وإن فعلت، سأقتلك.
يرد السيد فتحي:
- حسناً.
ثم وكأنه يؤكد على موافقته، يتحرك ناحية الدلو:
- أدر وجهك.
- ماذا؟
- سأختبر المرحاض الجديد.
ظن السيد عمار أن السيد فتحي يمازحه أو يسخر منه، رغم أن الأخير كان جاداً تماما فيما يقوله، وقد رأى الأول هذا في عينيه حينما نظر له، لكنه لم يهتم، كان يبتغي سبباً للتصعيد، فاقترب من السيد فتحي، ودخل المجال الذي رسمه، وصفعه فجأة. صفعة خفيفة غير مؤلمة، لكنها نزلت كقنبلة عليهما. قال السيد فتحي:
- لماذا فعلت هذا؟
قال وقد انكمش وجهه غضباً:
- يجب أن تحترمني أيها ال...... ولا تسخر مني أبداً!
ثم ابتعد كما اقترب. نزلت دمعة من عين السيد فتحي، وفكر أن يمشي ورائه ويرد له الصفعة، وقد شرع في هذا بالفعل، إلا إنه حين رفع قدمه فوق الخط المرسوم على الأرض، أجفل وتسارعت أنفاسه، ثم عاد بسرعة إلى الجدار، يلتصق به وهو يلتقط أنفاسه. كأنها الهرولة لدقائق ما كان يفعله. قال السيد عمار لما رأى الموقف:
- كلب مطيع. ابق داخل الدائرة عند جدارك.
انكمش السيد فتحي على نفسه، والتصق أكثر بالجدار. ضحك السيد عمار:
- فقدت عقلك! جدار، جماد لعين، استيقظ!
همس السيد فتحي:
- أخبرتك أنك لن تفهم أبداً.
أكمل السيد عمار ضحكاته وهو يجلب شيئاً من خارج الغرفة، فتردد صداها حيث كان. وسرعان ما عاد يرد على السيد فتحي وهو يسحب كرسياً:
- أوه... صدقني سأفعل. إما أنا أو أنت هنا.
اهتم السيد فتحي بالكرسي أكثر. أشار برأسه إلى ما بيد مضيفه:
- ما هذا؟
يرد السيد عمار بينما يغلق الباب ويجلس على الكرسي:
- ماذا؟ ظننت أني سأرسم الخط وأتركك؟ سأراقبك بالطبع.
يغمغم السيد عمار:
- أحب الصحبة.
ثم صمت لوهلة قبل أن يردف:
- لماذا لا تجلب امرأتك أيضاً؟ أريد شكره......
وقف السيد عمار بغضب وهو يسب السيد فتحي. أخرج سلاحه الناري وصوبه ناحية السيد فتحي:
- ماذا تقول يا بن ال.....!
- يرفع السيد فتحي يديه باستسلام وبهلع:
- أردت شكرها على الطعام فقط! أردت أن أراها ولم أقصد شيئاً.
سكن السيد عمار فجأة. قال بصوت خفيض بعد هنيهة صمت:
- امرأتي....
ثم اقترب حتى وقف على حدود الخط. قال بصوت هادئ:
- تعال.
تردد السيد فتحي في البدء، حتى قال السيد ولا يزال الهدوء في نبرته:
- اشترت لك طعاماً كالعادة.
ثم مد يده في جيب معطفه ليخرج قطعة حلويات وعلبة لحم معلب. لمعت عينا السيد فتحي واقترب بسرعة من محدثه. وما إن اقترب، حتى فوجئ بصفعة أخرى أقوى من السيد عمار. أخذته المفاجأة فوقع أرضاً ويده فوق خده. قال السيد عمار وهو ينظر من أعلى لأسفل نحو غريمه:
- لا تجلب سيرتها على لسانك أبداً.
غضب السيد فتحي كثيراً. وقف وهو ينوي الشر، وقد كان الأمر واضحاً في عينيه. ظل على حاله لحظات يراقب السيد عمار، ثم فجأة، عاد والتصق بالجدار. ابتلع السيد عمار لعابه، وسأل نفسه "هل بالغت؟ لا لا... هذا جيد... يجب أن أرى لأي مدى سيحتمل من أجل جداره"
جلس السيد عمار على الكرسي مجدداً وراح يطالع السيد فتحي بهدوء، وفعل الأخير المثل. قد مرت الساعات حتى انتصف الليل وهما يطالعان بعضهم البعض دون كلمة واحدة. احيانا كانا يقفان ليبدلا موضعهما أو وضعيتهما، غير ذلك، ظلت الوحدة السكنية صامتة من العصر وحتى منتصف الليل. وقف السيد عمار لما نظر في هاتفه الذكي وأدرك الوقت. قال:
- تذكر، لا تخرج عن الخط.
هز السيد فتحي رأسه مهمهماً أن نعم. كان متمدداً على فرشته يستعد للنوم. قال فجأة بينما يخرج السيد عمار:
- كلمة شكر لن تضر. امتناني يجب أن يصل لك ولصاحب الطعام.
توقف السيد عمار لبرهة، قبل أن يكمل طريقه ويغلق الباب خلفه.
...
قال صديقه الألماني:
- عربي مثلك؟
- مصري.
رفع الصديق يده بإشارة مُستخدمة في ذلك الزمان والمكان، وتدل على أن الأمر لا يستحق العناء، وقال إذ يفعل:
- لماذا تهتم؟
كانا يجلسان في إحدى حدائق ميونخ العامة، يلعبان الشطرنج ويتسامران. يقول السيد فتحي وهو يحرك قطعته ويضغط على ساعة الوقت:
- لأنه ليس غبياً.
"توضيح: في الشطرنج، يحرك اللاعب قطعته ويضغط على ساعة الوقت؛ لينهي وقت تفكيره، وليبدأ وقت تفكير خصمه"
يقول الصديق:
- لا أعتقد أن الذكاء يرتبط بالمشاكل النفسية... أظن أنك يجب أن تعرضه على طبيب نفسي.
- الذي لا أتقبله، كيف لرجل عاقل ذكي مثله أن يعطي جماداً كل هذا الاهتمام.
- كل المجانين أذكياء، عدا ذلك الجزء الذي يجعلهم مجانين.
يهمهم السيد عمار بصوت خفيض:
- الجزء الذي يجعلهم مجانين.. الحائط.
يقول الصديق متذمراً:
- ثم ما هذا! بالك مشغول وتلعب نقلات إبدعية مذهلة!
يضحك السيد عمار:
- تقبل الحقائق فقط، أنا أفضل منك. أنا نابغة منسية في هذه اللعبة.
- حقاً أيها السيد النابغة الذكي؟ لنأمل إذن أنك لا تملك ذلك الجزء الذي يجعلك مجنوناً.
ويضحكان سوياً.
......
- ما قصة الحائط؟ ينتابني الفضول فعلاً.
ينظر السيد فتحي للسيد عمار يستقرئ ملامح وجهه كي يستشف الجد من الهزل. لما وجد الجد يقول:
- أعرف وأدرك أنك لن تفهم، لذا لا أجد هناك داع لأقول.
كانا في الوحدة السكنية. كالعادة السيد عمار يجلس علي الكرسي ويراقب السيد فتحي الجالس استناداً إلى حائطه. كان الأول يكبت غضباً ويريد أن يعرف السر. يقول:
- جربني يا فتحي. سأفهم. أعدك.
يقول السيد فتحي:
- هو يحميني.
بملامح استغراب، يرد السيد عمار:
- من ماذا؟
يأخذ السيد فتحي وقتاً قبل أن يرد:
- من هذه البلاد. من الغُربة.
يجن جنون السيد عمار. يقف وهو يسب السيد فتحي ويقول:
- هذا حائط! جماد أيها الأبله! استيقظ!
يقف السيد فتحي ويقول بتردد وخوف:
- أخبرتك... أنك لن.. لن تفهم.
يأخذ السيد عمار نفساً طويلاً، ويزفره قائلاً:
- ما الذي يميز هذا الحائط عن بقية حوائط المنزل إذن؟
- لأنه هو هذا الحائط فقط.
- لماذا ليس الحائط المقابل مثلاً؟
- لأنه ليس كهذا.
- وما المميز في حائطك؟
- أنه يحميني.
- وبقية الحوائط لا تحميك؟
- تأذيني في الواقع.
- بقية الحوائط تأذيك، وهذا الحائط يحميك؟
- بالضبط.
يضحك السيد عمار:
- أتسمع نفسك؟
لا يرد السيد فتحي آثراً الصمت.
.....
كانا في الشرفة كعادتهما. تهمهم زوجته بكلمات اغنية ما لفيروز، ويجلس هو يفكر في حل المعضلة. يقول فجأة:
- ربما كلستروفوبيا!
تسأله ضاحكة:
- كلاس ماذا؟
يرد بجدية:
- تعرفين.. الخوف من الأماكن الضيقة.
تلمس خده بأناملها الرقيقة. تقول في حنان:
- حبيبي، ألازلت مع هذا الرجل؟ دعه يعود إلى مصر وتنتهي القصة.
ينظر لها:
- أي قصة؟ لا توجد قصة، الرجل مجنون.
- ولماذا يشغل المجنون بالك؟
يتنهد وهو يحيط أناملها بيديه. يقبل يدها وهو يقول:
- لا أعرف. حقاً لا أعرف.
تضحك زوجته في رضا. لم تكن تعلم إن كان يدرك هذا أم لا، لكن هذا الجانب الرقيق منه، هو ما يجعله زوجها الآن. هذه التصرفات العشوائية البسيطة، مثل أن يرد الحنان بالحنان، هي ما تجعله في عينيها، جدير بكلمة زوجها. مرق الخاطر على بالها سريعاً، لكنه كان قوياً لدرجة أنه جعلها تسأل نفسها سؤالاً: لو كان بهذا القلب الحنون حقاً، لماذا إذن لا يريد إطعام السيد فتحي؟ لماذا لا يريد أن ينهي معاناته؟ يسمعان صوت ركض يعرفانه جيداً، قبل أن يظهر أمامها سامي، ابنهما الأصغر في سن السابعة. يقول لاهثاً بالألمانية التي تربى عليها:
- أبي، دخل سمير الوحدة المهجورة. حاولت إيقافه لكنه....
يقاطعه السيد عمار وهو يقف من مكانه ويمشي مسرعاً:
- كيف دخل؟
- كان الباب مفتوحاً.
أسرع السيد عمار في مشيه حتى وصل إلى باب الوحدة 33 الذي كان مفتوحاً بالفعل. الباب لا يُفتح من مقبضه إلا من الداخل، وهذا لا يعني سوى أن السيد فتحي قد فتح الباب من الداخل. يدخل الغرفة مسرعاً ليري سمير، طفله بعمر التاسعة، يستند إلى الحائط جوار السيد فتحي. كان يبتسم في رضا ويجلس وقد خفف من ملابسه فصار يرتدي القليل في ذلك الشتاء القارس، وقد تكومت أمامه ملابسه الخارجية. لثوان وقف مصدوماً يراقب ابنه. ما أن انتبه ذلك الأخير لحضور والده، حتى وقف قائلاً:
- أبي، هذا رائع! هذا الحائط رائع. أيمكننا أن نحظى بحائط مثل هذا في منزلنا؟
قال السيد عمار بعد استفاقته:
- ارتد ملابسك! الجو بارد!
وتحرك يناول ابنه ملابسه، فيقول وهو يساعده على ارتدائها:
- فيم كنت تفكر! ألم أقل لك إن هذا المكان ممنوع عليك؟
يقول السيد فتحي:
- لماذا؟ لماذا ممنوع عليه؟
ينظر سمير إلى والده بحال من ينتظر الإجابة على فعل ليس له مبرر. يقول السيد عمار متجاهلاً السيد فتحي:
- هيا لنعد إلى أمك الآن.
كان الطفل الأصغر، سامي، يقف عند الباب يراقب ما يحدث. ينظر له السيد عمار:
- اذهب مع أخيك. هيا. خذ بيده.
يتحرك سمير وهو ينظر متوعداً شقيقه الأصغر وقد فهم أنه أوشى به. يقول السيد عمار:
- إذا لم تعودا إلى أمكما الآن لأي سبب، تعال وأخبرني يا سامي.
يهز الصغير رأسه إيجاباً. يقول سمير متذمراً:
- هذا ليس عدلاً.
يسحبه شقيقه الأصغر وهو يخبره أن يصمت قبل أن يتسببان في مشكلة لوالدهما. حينما يرحلان يغلق السيد عمار باب الوحدة 33. يسأل بهدوء:
- كيف فُتح هذا الباب؟
- كان مفتوحاً. أعتقد أنك نسيته.
- تعتقد؟
- وما أدراني؟ وجدت الولد أمامي فجأة.
ثم يقف مستنداً على الحائط يقول باستنكار:
- هل تعتقد أني خرجت من الغرفة؟ لن أترك الحائط أبداً!
- ومن أخبره بشأن الحائط؟
- كنا نتحدث...
وكمضمر الأذى الذي ينتظر وقوع أقل حادث ليُخرج أذاه، هجم السيد عمار على غريمه ليوسعه لكماً.
في نهاية ذلك اليوم في الوحدة 33، كانت توجد هناك بقع دماء متناثرة جانب جسد يستند إلى جدار. قد لُوث الجدار ببعض الدماء، وسكن الجسد إليه يلهث وهو لا يدري ما حدث.
........
راح السيد عمار يطالع نفسه في مرآة حمامه. ينظر للعينين. وحش قد خرج من القفص. رجل وجب أن يكونه منذ زمن. رجل شرس لا يرحم. كان شعر رأسه المتناثر، مع عرق جبينه، ولهاثه الخفيف، يخبرون أنه قد قام بمجهود ما. أما قبضتي يديه الملطختان بالدماء، فهما يحكيان قصة ذلك المجهود. يهمس لنفسه:
- الحيوان الأليف يجب أن يعرف من يملكه.
سكن قليلاً، قبل أن يسحب نفساً عميقاً ويزفره. يكرر همسه:
- الحيوان الأليف يجب أن يدرك ويرى من يملكه.
يُخيل له أنه يسمع همساً يرد:
- لكنك لست من يملكه.
كان الهمس وهماً ألقى بدلوه في رأسه ورحل. لم يسأل السؤال "ومن يملكه إذن؟" لأنه كان يعرف الإجابة. إن فتحي، القاطن الوحيد للوحدة 33، يملكه حائط في الوحدة 33.
.......
لم يرد سمير أن يأخذ الحلوى من والده في البدء، لكن سرعان ما ضعف أمام شكلها البراق، فكان أن مد ذراعاً خفية تنتزع الحلوى وتعود لتواجه الجانب الآخر المعاكس لوجه والده. يقول الأخير:
- هيا يا بني، لا تكن هكذا. أنا فقط قلق عليك.
يصمت الطفل بينما يردف الأب:
- أخبرني عن الحائط.
يكاد سمير يرد، لكنه يمنع نفسه عن الكلام في آخر لحظة.
- جدياً يا سمير، ما سر ذلك الحائط؟
لا رد. يقول السيد عمار بحنو بالغ لا يعكس ما فعله منذ قليل:
- اسمع، لو أخبرتني، سأجلب لك جهاز الألعاب المحمول ذاك.
تتفرج أسارير الطفل فيقول بذهول الفرحة:
- حقاً؟
يرفع السيد عمار إصبعه السبابة في وجه ابنه:
- لكن أمك تحدد متى تلعب ومتى لا تفعل.
يهز الطفل رأسه إيجاباً وهو يبتسم لا إرادياً. قد أنسته الفرحة الشرط قبل الجائزة، فقال السيد عمار:
- ما سر الحائط إذن؟
- لا يوجد سر. هو فقط يحتضنك.
وحينما قال جملته الأخيرة بالألمانية، أشار للحائط بضمير عاقل. قال السيد عمار:
- هو؟ هل هو رجل؟ هل هو شيء حي؟ من هو؟
احتار الفتى لوهلة، ثم قال:
- لا، ليس رجلاً.. هو فقط حائط.
- ولماذا قلت هو؟
- لا أعرف. أخطأت ربما.
ينظر السيد عمار لابنه مبتسماً وداخله شك مخفي داخل تلك الابتسامة. يقول:
- فليكن. كيف يحتضنك إذن؟
- تعرف... الجو بارد والحائط دافئ.
- دافئ؟
- مثل المنزل، هكذا.
يهمس السيد عمار:
- منزل.
......
لم يبرح الأمر باله قط. ظل طوال 42 دقيقة يسائل نفسه. حتى حينما دخل المتجر الكبير، حتى حينما سأل البائع عن الإصدار الأخير من جهاز الألعاب المحمول الذي وعد، حتى وهو يلقي التحية على الجيران ريثما يحضر البائع الجهاز، ظل يفكر: منزل، ما المنزل؟ لماذا منزل؟
حينما عاد البائع بالجهاز، رمش السيد عمار مرة، وانكسر شيء ما بين أفكاره، ثم قاطع البائع الذي كان يخبره بثمن الفاتورة:
- عذراً، أين أجد قسم الأدوات المنزلية؟
بهت البائع فجأة. لم يتوقع سؤالاً كذاك. رد وهو يشير في اتجاه ما في المكان الواسع:
- هناك.
يبتسم السيد عمار:
- شكراً. الآن اسمح لي أن أسألك إحضار بضعة ألعاب جيدة للجهاز، ريثما أشتري شيئاً من هناك.
- كم لعبة؟
يرد السيد عمار وهو يشير لمُلصق خلف البائع:
- عزيزي، لديكم خصم العشرة ألعاب ذاك؟
- نعم.
يقول السيد عمار بلطف:
- سأكون شاكراً جداً.
ويرحل مسرعاً من أمام البائع. ظل البائع يطالع السيد عمار حتى اختفى. لم يعتد هذا اللطف من أقرانه، وأيضاً لم يعتد هذه التصرفات المفاجئة. ورغم علمه من لهجة وهيئة السيد عمار أنه ليس ألمانياً، لم يمنع نفسه من الاندهاش قليلاً من تصرفات السيد عمار، غير أن الدهشة زادت كثيراً حين عاد السيد عمار. ليس لأنه حينما عاد كان يحمل مطرقة كبيرة، بل لأنه أثناء عودته، كانت ابتسامته عريضة وكأنه يستمتع بطرفة ما، ولأن تلك الابتسامة لم تبارحه قط، فحتى حينما تعثر في شيء ما وكاد أن يقع، لم تبرح تلك الابتسامة وجهه. لم يعد الأمر بالنسبة للبائع متعلقاً بكون الرجل مختلفاً عن بني جنسه، فليس لأنهم لا يبتسمون إلا نادراً في الأماكن العامة مثل ذاك الرجل، وليس لأنهم لا يخرجون كل ذلك الكم من الاحترام للغرباء مثل ذلك الرجل ، بل لأن ذلك الرجل، يبالغ في شذوذه عنهم. لأن الأمر يتعلق بابتسامة مجهولة السبب تأبى الرحيل. أما اللمسة الأخيرة، هي الإكرامية السخية التي تركها السيد عمار للبائع. نظر له البائع حينما ترك النقود الورقية على الطاولة. من الخارج بدا هادئاً، لكن عقله كان يصرخ: لماذا سأل عن عرض الألعاب بينما كان مستعداً لدفع أضعافه إكرامية؟ ومن يدفع هذا المبلغ نقدياً بأوراق البنكنوت! من يدفع بأورق البنكنوت هذه الأيام أصلاً!
بعد رحيل السيد عمار، زفر البائع بحيرة. عرف بينه وبين نفسه أنه لن ينسى هذا الزبون لفترة طويلة من الوقت.
.....
مرت بينهما فترة صمت طويلة. يطالعان بعضهما. تمثال يفترش الأرض يرتكن إلى حائطه، وتمثال يجلس على كرسيه وعرشه. يتكلم الذي على العرش:
- لقد نسي الحائط.
يرد الذي تحته:
- لا بأس.
- انشغل بجهاز ألعاب جديد اشتريته له. انشغال يُفهم على الأقل.
- فعلت خيراً. الحائط ليس منزله. لا أظن أنه كان سيفهم الحائط.
يضحك السيد عمار:
- لا تظن أن أي أحد سيفهم، أليس كذلك؟
يصمت السيد فتحى ويبتلع لعابه بصمت. يقول السيد عمار بجدية:
- أحضرت لك هدية.
يطالعه السيد فتحي بحذر وقد استشعر ثقلاً في الجو. يقول:
- لم أعهدك مهادياً.
يضحك السيد عمار بصوت عال، ثم يقول واقفاً:
- ومن يهادي أولاد ال...! أمزح بالطبع أيها ال.....!
يخرج من الوحدة لثوان، ثم يعود حاملاً المطرقة التي اشتراها. تتسع عينا السيد ما أن يراها، فيقف قائلاً:
- ماذا تريد؟
كانت الابتسامة القاسية لا تفارق وجه السيد عمار. يقول:
- ىجب أن تكون ملكي أنا، ليس الحائط.
- هل جننت! لا بشر يملك بشر هذه الأيام!
مرقت الجملة كالرصاصة على أذن السيد عمار. إن المجنون عنده يتهمه هو بالجنون! الخسيس ينعت الشريف بالخسة! أغضبه هذا كثيراً. أغضبه حتى أنه اندفع ناحية السيد فتحي بسرعة رافعاً المطرقة. لم يكن هدفه السيد فتحي كما قد يُصور للرائي، إنما هدفه كان الحائط. وبأقوى ما عنده، هوى على بقعة بالحائط. أما ما حدث، فهو صرخة ألم عالية، وندبة بسيطة في الحائط. لم يستوعب السيد عمار ما حدث وسط صرخات السيد فتحي، وقد كان الأخير يصرخ بألم ممسكاً كفه الذي تهشم. بدت الدهشة الممزوجة الخوف وعدم الفهم على وجه السيد عمار. في ثانية كان سيضرب الحائط، وفي الثانية التي تليها، ضرب يد السيد فتحي الذي وضعها عمداً أمام المطرقة كي يوقفها. ظل الأخير يأن وهو يمسك بيده. قد سمع صوت تحطم عظام يده، كصوت الجليد العملاق يُكسر وينهار في أفق بعيد.
شعر السيد عمار بذعر في البدء، ومع مرور اللحظات، تبدل ذلك الذعر إلى غضب بعد إدراك بسيط: إن السيد فتحي مستعد للتضحية بجسده من أجل الحائط. أي جنون هذا!
يقاوم السيد فتحي نبض الألم المجنون من يده، ويقول:
- لا تؤذي الحائط.
يصرخ السيد عمار بسباب تخلل كلامه:
- ليس كائن حي!
يرتمي السيد فتحي على الأرض وهو لا يكف عن الأنين. يقول بنحيب من يكاد يبكي:
- أوه ماذا فعلت! جرحت الحائط!
نظر السيد عمار للحائط مكان ضربة المطرقة. رغم أن السيد عمار وضع يده حائلاً بين المطرقة والحائط، إلا أنه ومن قوة الضربة، ثم أثر صغير وتقشر طلاء. قد راقب الحائط مراراً وتكراراً، ولم يكن هناك أي أثر لأي شيء، أما الآن، يسأل نفسه: لماذا هناك بقعة صغير مائلة للحمرة الخفيفة قد ظهرت أسفل الحائط؟ ولماذا يرى قطرات تتساقط منها؟
......
ظلت عيناه مفتوحتين في ظلام الليل. لا يلوي على شيء سوى التفكير. قد ينتهي كل شيء قريباً ويعيد السيد فتحي إلى بلده، دون أن يعرف سر الحائط. يشعر بالحركة جانبه على السرير، ثم يضاء نور بسيط. تقول له زوجته بالألمانية:
- أنفاسك ثقيلة.
كانت تحادثه بالألمانية كلما تضايقت منه، وبالعربية كلما ظهر منها حنين نحوه. يهمهم:
- آسف. أيقظتك؟
- لماذا لا زلت تفكر في الأمر؟َ
لا يرد سوى بعد لحظات:
- لا أفكر في الأمر.
تبتسم وهي تسأل:
- هل أعرفك أم أعرفك؟
اعتادت أن تشاكسه بين الحين والآخر في اختلافتهما، ولا تتاونى عن إبداء دهشتها بطرق ساخرة. يرد:
- عزيزتي، عودي للنوم.
تنهض قعوداً وهي تناظره:
- أنت تفكر في الأمر! أعده لمصر يا عمار. كان يجب لهذا الأمر أن يحدث منذ زمن طويل!
- لا أريده أن يحدث بهذه الطريقة.
- وكيف إذن؟
يصمت مفكراً، ثم يرد:
- لا أعرف. الأمر يخيفني.
- ما الذي يخيفك؟
يرد تلقائياً وكأنما كان ينتظر السؤال:
- الحائط. أعتقد أنه حي.
تفتح فمها دهِشة مبتسمة وقد رفعت حاجبيها:
- لا يمكن لهذا إلا أن يكون مزاحاً.
يطالعها بقلق، ثم يقول:
- سمير قال إنه حي.
تكتمل ضحكتها حتى يُسمع صداها في غرفة نومهما:
- عمار، أحياناً، أظن أنك أعظم رجل في العالم، وأحيان أخري، تذهلني، فقط تذهلني.
ينهض قعوداً هو الآخر وقد راح يدافع عن نفسه:
- لا أرمي الكلمات المجانية، لدي أسبابي التي تجعلني أعتقد هذا.
- سمير؟ تسعة أعوام؟
- وهذا هو الجزء المخيف، لماذا قد يقول طفل هذا؟
- هل تريد لعب هذه اللعبة حقاً؟
- أعني، قد سألته وقال عن الجدار هو "العاقل" ولم يقل هو "للعاقل وغير العاقل"
- طفل يا عمار! طفل!
- حينما ذهبت لجلبه من الوحدة، كان يلتصق بالجدار، تماماً مثل ذلك المجنون.
- ولم تظن أنه يقلّد المجنون؟ لأنه مجدداً، طفل!
شعر رغماً عنه أنه يتخذ وضعية دفاعية أمامها، فقال تلقائياً دون ضبط نفس:
- وهل تنزف الحوائط؟
تضيق عينيها وتختفي ابتسامة سخريتها وعدم تصديقها، تزامناً مع ظهور لمعة فى عينيها. كانت تخاف الدم. أمكنه أن يرى الخوف عميقاً في عينيها اللتين اتسعتا قليلاً، وأن يسمع رجفة الخوف المشوب بفضول في صوتها الأقرب للهمس:
- ماذا؟
يدرك ما قال، ولم يدر كيف يشرح لها الأمر. كان يعرف أنه لن يجرؤ على إخبارها بأنه جلب مطرقة ليهشم الحائط، ولكنه هشم يد السيد فتحي بدلاً من ذلك. لم يكن يوماً ذلك الرجل العنيف أمامها. قد كان قناع ارتداه ولم يقم بخلعه قط أمامها أو أمام أي شخص آخر عدا السيد فتحي. لما لم تسمع رداً منه سألت بذات الخوف:
- كيف ينزف؟ الحائط ينزف؟
في ذات اللحظة التي أنهت فيها سؤالها، سُمعت جلبة في الغرفة المظلمة. أنار السيد عمار إضاءة السرير ليجدا سمير واقفاً أمام السرير محتضناً وسادته. بُهتا للوهلة الأولى، فتلك بادئة عندهما من ابنهما. يسأله السيد عمار وهو يمد يده أن يقترب:
- ماذا تفعل هنا؟ هل أنت خائف؟
يقترب سمير:
- لا أستطيع النوم.
يمسح السيد عمار على شعر ابنه الناعم:
- لماذا؟
يصمت الصبي ولا ينطق إلا حينما تعيد أمه السؤال بصيغة أكثر حزماً، فيقول حينئذ بشيء من الخوف:
- أريد أن أنام عند الحائط. عند عمي فتحي.
ينظر السيد عمار لزوجته. كانت ساكنة وربما غاضبة منفعلة للرائي الذي لا يعرفها، أما هو، فلما كان يحفظها، كان يعرف كيف يقرأ هذا البريق في عينيها. إن ما بها الآن، هو تجسيد دقيق لذُعر مسيطر عليه.
.....
كان قد بلغ الكيل منه مبلغاً، فعلا صوته قليلاً على موظف السفارة:
- ماذا تعني أنه غير موجود! ابحث جيداً!
يرد الموظف باحترافية آلية:
- الاسم غير موجود في قاعدة بياناتنا. لا شيء يمكننا فعله.
- غير معقول، ببساطة، غير معقول.
- إما إنه ليس مصرياً، أو قد كذب عليك بشأن اسمه الرباعي.
يخفض السيد عمار صوته:
- هل تقول لي، إنه لا يوجد مواطن مصري واحد حتى بنفس الاسم؟
- يوجد، ولكنهم إما أطفال أو شيوخ أو موتى، وبالطبع جميعهم لم يسبق لهم إصدار جواز سفر، لذا ودن شك، ليسوا هم رجلك.
يقف السيد عمار ويقول مسيطراً على أعصابه مخافة أن يفقد وقاره:
- يا إلهي! أتعرف ثمن تذكرة الطائرة إلي هنا؟ هذا ما أحصل عليه فعلاً! أتعرف يا سيد؟ معلومة صغيرة لك، لم أحب برلين قط، لم أحب هذه الدولة قط.
يبتسم الموظف بلطف:
- آسف. أريد أن أساعدك لكن لا شيء يمكن فعله.
يرن هاتف على مكتب الموظف الذي يتجاهله. يقول السيد عمار ساخراً بعد أن انتظر رد الموظف على الهاتف، الرد الذي لم يأت قط:
- أقسم لك، لو كنتم في الواقع تردون على هذا أو على الرسائل الإلكترونية، لكان الأمر سيكون أسهل.
يقولها ثم يهم بالخروج وداخله يغلي من الغضب والخوف في آن واحد.
......
لم يُسمع صوت لهما، فكأن ثمة اتفاق بينهما على ألا يصدرا جلبة أثناء ذلك. أحدهما يضرب ولآخر يستكين له تماماً، لا يدفع الأذى عن نفسه حتى. حينما انتهى السيد عمار، كان العرق يغطيه. كان يلهث والدم يغطي يده، تحديداً قبضته اليمنى. كان غريمه ملقى على حائطه، فاقداً لأحد أسنانه، وبالكاد وعيه. سأل السيد عمار بصوته الشرس:
- لن أعيدها، من أنت؟
لو كان السيد فتحي يريد الرد لما استطاع. كان في حالة يُرثى لها. جسده يتمزق بين آلام في بطنه وصدره وفكه ووجنتيه، وفوق هذا كله، آلام يده المهشمة التي لم تُعالج. رغم أن السيد عمار ربعة القامة، إلا أنه قوي جسدياً. الذي يراه لا يظن أبداً أنه قادر على كل ذلك المجهود، ورغم ذلك، كان قادراً، ليس على المجهود فقط، بل على الرهبة التي داخله تجاه الحائط. قرر أن يحتفظ بآخر نقطة من عقلانيته، ويرمي كل علامات السوء والغرابة عن الحائط خلف ظهره. قرر إنها الأوهام عن الحائط. أما السيد فتحي، فلم يتكلم طيلة ذلك النهار، ولم يجاوب السيد عمار قط.
....
نظر إليها بعين شفقة وحزن. كانت تجلس على كرسي جوار ابنهما المريض. تمسك بيده، وبين الحين والحين تضع يدها على جبهته.
كان لا يزال في مرحلة الإنكار، فلا يصدق أن حمى شديدة أصابت، سمير، طفلهما الصغير. لم يصدق أذنيه حينما سمع هلوسات ابنه بكلمات عن الحائط والألعاب والمدرسة. بعد جولة من التحاليل والأشعة، كل الأطباء أخبروهما أن ما بطفلهما غير مفهوم، وأوصوا بإعطائه جرعات كاملة من مضادات حيوية متنوعة. لم تفعل الجرعات شيئاً يُذكر، وظل الطفل الصغير على حاله لأيام. كانت زوجته في تلك الأيام تتجنبه وتتجنب النظر في عينيه كلما تكلما. تلك طريقتها في إظهار امتعاضها وغضبها عليه. أما السيد عمار، فكان لا يحب ذلك منها، لكنه بينه وبين نفسه، يحمد الله على فعلها، لإنه حينما تقابلت نظراتهما في إحدي المرات بالخطأ، أطالت النظر إليه، وقد شعر حينما فعلت هذا، أنها تخترق روحه وأنها تؤنبه وتلقي عليه لوم ما يحدث لوليدهما. قد شعر بالأمر لكنه رفض الاعتراف به. داخله، رأى شيء ما يهوي، باب ما يكاد يتحطم، أو سد يكاد ينهار.
.....
ظل الهاجس يداعب أفكار السيد عمار. صوت خافت يشبه الهمس ولكنه ليس همساً. "الحائط يعاقبك على ما فعلته بفتحي" يغمض عينيه ويفتحهما بسرعة. الأضواء تمر عليهما، وتتبعها الأصوات. ثم وكأنه بعث جديد لوعيه، يفيق على صوت صياح زوجته مختلطاً بصوت بوق. بأعجوبة، يتفادى السيارة المسرعة في الطريق المعاكس. تضربه زوجته بضعف في كتفه والدموع تفر من عينيها:
- احذر، احذر بالله عليك.
كان بها ما بها من انهيار وآلام على ابنهما الذي احتار الأطباء فيه، وقد فقدت أعصابها مع الحادث الوشيك الذي كاد يودي بحياتهما على الطريق السريع. تدفن وجهها بين كفيها وتنهمر في بكاء مرير وهي تتمتم بكلمات بالكاد سمع بعضها "موت... حائط... أعده.. مصر"
رق قلبه لحالها فوضع يداً فوق رأسها يواسيها:
- كل شيء سيكون بخير، أعدك.
كانا في طريق عودتهما من فحص جسدي شامل إجباري سنوي، وقد اضطرا إلي ذلك اضطراراً، وإلا لواجها مشكلة في البقاء في ميونخ.
....
تقول وهي تلمس وجنة وجبهة ابنها النائم:
- أشكركِ يا هيلغا. لا أعرف ماذا كنت لأفعل بدونك.
ثم تُخرج من جيبها مبلغاً من المال تنقده للمربية المراهقة، التي كانت تعتني بالولدين أثناء غياب الأم والأب. كانت هيلغا معتادة على هذا العمل بحكم الجيرة، وأنها وعائلتها من أوائل المستأجرين في العقار، فكانت السيدة عمار تطلبها كلما احتاجت. كانت هيلغا فتاة هادئة قليلة الكلام في العادة، لكن هذا لم يمنع أنها ذكية فطنة. قالت هيلغا وهي تأخذ مالها:
- ما قصة الحائط؟
تنظر السيدة عمار لها وتسأل على سؤالها:
- ما قصة الحائط؟
- كان سمير يهذي بكلمات عن حائط ما.
- حقاً؟
تفهم هيلغا أن السيدة عمار تهرب من التساؤلات. تقول بحذر:
- شيء ما خاطئ.. أعتقد أنه يجب أن يرى طبيباً نفسياً.
- ربما مجرد حلم.
- لا أعتقد. تكلمت معه.
- مع سمير؟
- نعم. أخبرني أنه حينما طرق على الحائط، رد عليه أحدهم.
- ماذا؟
- نعم، والأغرب لم يأت بعد. قال إن هذا الشخص أخبره أن يأتي إليه، إلى داخل الحائط.
تصمت السيدة عمار وهي تتحكم في أعصابها. تقول هيلجا بعد أن رأتها على حالها:
- تخفين شيئاً، أليس كذلك؟
ترميها السيدة عمار بنظرة إنكار:
- هيلغا!
تقول هيلغا سريعاً بنبرة دفاعية:
- لأني أريد مساعدته، ما يحدث ليس طبيعاً.
تصمت السيدة عمار ويتجلى الحزن في ملامحها. تكمل هيلغا:
- ما هو الحائط؟
- لا أعرف. شيء. حائط في غرفة ما.
- هذا فقط؟
- هذا فقط.
- سيدة عمار، يجب أن يرى طبيباً نفسيا، بأسرع ما يمكن.
تهز السيدة عمار رأسها أن قد فهمت، قبل أن تقتاد ضيفتها خارجاً.
......
يفحصه السيد عمار بنظراته. دماء متجلطة وأورام في أماكن متفرقة. ملابس مهترئة رثة، وشعر أشعث. ورغم هذا كله، ذات الشخص، يأكل بشراهة كبيرة وكأن ما به ليس به. يبتسم فيسبه. يسحب دخان سيجارته بمتعة وهمية، ثم يهفها بعشوائية. يقول بعدها:
- طريف، طريف للغاية. يجب أن تكون ميتاً الآن بعد كل ما فعلته بك.
يقول السيد فتحي والطعام ملء فمه:
- لأنه الحائط، يحميني، ويعطيني الحياة.
يقول السيد عمار ساخراً:
- هل ألحدت الآن يا بن ال......
يكمل السيد فتحي أكله. يقول السيد عمار:
- تعرف، يسمون هذه الوجبة الأخيرة.
ينظر له السيد فتحي بفزع بينما يكمل:
- لأنني سأطردك من هنا بعدها. الشرطة بالأسفل.
- ماذا.
- نعم، سأبعدك عن حائطك الحبيب. ربما سأهدمه كذلك.
- لا.. لا.. أنت تمزح.
- وهل رأيت مني أي مزاح قبل أيها ال.... بكل حال، الأمر عائد لك. إلم تخبرني من أنت، إشارة واحدة مني وينتهي كل شيء. من أنت؟
يقول السيد فتحي:
- أنا فتحي!
- كذبة قديمة أيها الوغد. تفقدت السفارة، أنت لست موجود في القاموس.
يصرخ السيد فتحي:
- كذب! لا يريدون البحث ، لا يريدون أن يعملوا!
يقف السيد عمار متنهداً، بينما يكمل السيد فتحي:
- يجب أن تصدقني. أنا صديقك!
يتحرك السيد عمار خارجاً دون رد. يصرخ السيد فتحي:
- سأغادر! أعطني ثلاثة أيام! تحدثت مع الحائط، سيخرجني من هنا بعد ثلاثة أيام.
يرد السيد فتحى أخيراً وهو يستدير لغريمه:
- ثلاثة؟
يهز السيد فتحي رأسه إيجاباً بانفعال:
- نعم. أنا أثق فيه. أبدل حظي مع حظ أحدهم بالفعل.
- جننت تماماً.
- أنا أعرف ما أقول! أبدل حظي بحظ شخص آخر.
- ومن هذا الشخص؟
- لم يخبرني. أعطاني وعداً وأنا أثق به.
يشتعل السيد عمار غيظاً. يقول:
- فليكن، ثلاثة أيام دون طعام وشراب. دع إلهك ينقذك من الموت.
يقولها ثم يخرج بصمت. لا يعترض السيد فتحي وكأنما توقع ما جرى.
....
امتقع وجه الطبيب ما أن أظهر جهاز قياس درجة الحرارة، درجة حرارة سمير. وقف فجأة وراح يلملم أغراضه على عجل قائلاً:
- سيأتي معي إلى المشفى.
يقول السيد عمار:
- لكن التأمين...
يقاطعه الطبيب بحدة:
- لا أهتم إطلاقاً بالتأمين. ابنك يموت.
تصدر شهقة تنذر ببكاء من السيدة عمار. يلتفت لها الطبيب ويقول بذات النبرة الباردة:
- ربما الدعاء بدل البكاء سيساعد.
يقولها ثم يلتفت للسيد عمار:
- لماذا لم تجهز سيارتك بعد؟ هيا! لا يوجد وقت!
ينتفض السيد عمار ممتثلاً لأوامر الطبيب، وهو يفكر في شيء واحد فقط. جملة السيد فتحي التي ظلت ترن في أذنيه "أبدل حظي بحظ شخص آخر"
....
استيقظ السيد عمار من غفوته البسيطة، على كرسيه في استراحة الزاور بالمشفى، ليجد زوجته تحدق فيه بجمود، وكأنها تمثال. ينتفض فزعاً في البدء، قبل أن يقول متنهداً:
- أخفتني، يا إلهي.
لا ترد عليه. يكمل:
- هل أنتِ بخير؟
تسأله دون أن تتغير ملامح وجهها:
- عمار، هل الحائط هو السبب؟
بُهت للحظات يحاول استيعال ما قالته، قبل أن يرد:
- لا، قطعاً لا.
تهز رأسها أن قد فهمت. يدرك أنه لم يسألها سبب ماذا، وأنه بنفيه قد أثبت أن تفكيرهما واحد، وأنه يعتقد أن الحائط هو السبب في مرض سمير. يقول واقفاً:
- عزيزتي، لا تدعي الأوهام تلعب بعقلك.
ثم يتجه نحو الحمام ليقضى حاجته. حينما عاد، لم يجد زوجته حيث تركها. يهتف باسمها لعلها في مكان قريب فتسمعه، ولكن ما من مجيب. يسأل الناس عنها ولا يعطيه أحدهم خبراً. لم يصل لإجابة إلا حينما نظر من نافذة قريبة، ليجد ظلاً يعرفه حتى ولو ابتعد، ظل يركب سيارة أجرة. عبثاً، يفتح النافذة ويناديها، وهو يعرف أن صوته لن يصلها، ولو وصلها، لن تعيره اهتماماً ولن ترد. يهرول مسرعاً في طرقات المشفى، متجهاً إلى سيارته. يعرف إلى أين تذهب، سيكون غبياً لو لم يعرف.
....
راح يثب الدرجات وثباً. يجري ويتجاهل كل من يقابله ويلقي السلام، إذ يعرف أنه لا مجال لتضيبع الوقت في الكلام والسلام. حينما يصل أخيراً إلى الوحدة 33، يجد الباب مفتوحاً. بالداخل، يجد المشهد الذي جعله يتسمر مكانه. زوجته، تمسك بسكيناً بكلتا يديها، وتوجهه إلى السيد فتحي الذي رجع ملتصقاً بجداره. يسمع نبرتها المهددة المنفعلة:
- أعد لي طفلي.
يستطيع أن يرى اهتزازة يديها، وبدنها كله. يستطيع أن يرى الدموع في عينيها. هي ضعيفة، وبالرغم من هذا، تتظاهر بأنها قوية. يظل السيد فتحي خائفاً ملتصقاً بالجدار.
- أعد لي طفلي وإلا قتلتك! هو حائطك! هو حائطك! هو السبب!
يتقدم السيد عمار إلى زوجته. برفق وببطء، يضع يده فوق يديها، وينزلهما وهو يواسيها بكلمات خافتة:
- لا بأس.. سيُشفى بإذن الله. الحائط ليس سبباً.
تنهار السيدة عمار باكية، فتدفن رأسها في صدر زوجها، بعد أن تركت السكين تسقط على الأرض. يقول السيد فتحي بصوته الخافت:
- أنا أسامحك يا سيد عمار.
- من ماذا؟
- أسامحك.
ينظران له بتعجب، قبل أن يقول السيد عمار لزوجته:
- هيا... لنعد إلى المشفى قبل أن يحتاجنا الأطباء في شيء.
تهز السيدة عمار رأسها نفياً:
- لا، لن أتركه قبل أن يعيد لنا طفلنا. اذهب أنت.
- عزيزتي، هذا حائط جماد. كلها أوهام.
- لن أتحرك يا عمار.
ثم تدفعه مبتعدة عنه مسرعة، ذاهبة أكثر باتجاه السيد فتحي والحائط. بهستيرية، تطرق على الحائط قائلة:
- هل أنت هنا؟ هل تسمعني؟
لا رد. تكرر طرقها:
- هل أنت هنا؟ طفلي لاذنب له! أنا مستعدة لأن أجلس هنا مثل ذلك الرجل، شريطة أن تعيد لي ابني.
تعلو نبرة السيد عمار:
- لن تجلسي هنا! ولن نفعل هذا هنا، ليس أمامه.
في تلك اللحظة يرن هاتف السيد عمار. يخرجه سريعاً ليرى المتصل وفي نيته أن يغلق المكالمة ويؤجل الرد، لكنه يرد ما إن يرى اسم المتصل:
- مساء الخير... نعم... نعم.. حقاً! في الطريق حالاً!
ويغلق المكالمة ناظراً لزوجته:
- لقد أفاق.. مؤشراته الحيوية مستقرة.. يريدوننا في المشفى.
- ماذا؟
- لا وقت، هيا بنا!
ثم يمسكها من يدها ويكاد يسحبها، غير أنها تسبقه مندفعة للخارج. في لحظات صمت قصيرة، يتبادل السيد عمار والسيد فتحي النظرات، قبل أن يتحرك الأول ساحبا باب الوحدة خلفه، فيغلق الباب بالمفتاح الذي لا يملك نسخته إلا هو، خيفة أن تأتي زوجته إلى الوحدة مجدداً. بعدها، انطلق يهرول لاحقاً بها.
.....
كانوا في السيارة ثلاثتهم، حين سأل أصغرهم:
- أبي، لماذا أنت صامت؟ أنا بخير الآن.
يرد السيد عمار:
- ماذا؟ نعم، نعم، هذا جيد.
- أبي، هل أنت بخير؟
- نعم... نعم.. الأمر هو أننا لم نعد لمنزلنا منذ ثلاثة أيام.. اشتقت لبيتنا.
- لا أشعر أنك بخير.
تلتفت الأم لصغيرها مبتسمة:
- دعه يركز في القيادة يا سمير. لا نريد أن نصاب بحادث الآن.
ثم تنظر لزوجها مغرضة سائلة:
- أليس كذلك يا عزيزي؟
يبتسم كاسراً التوتر بينهما:
- نعم.
كان يسأل نفسه ألف سؤال وسؤال. لماذا لم يعد سمير يذكر الحائط أبداً؟ وماذا جرى للسيد فتحي؟ وكيف شُفي سمير فجأة؟ بل كيف أصبح بهذه الحيوية وكأن شيئاً لم يكن؟ هل الجدار فعلاً شيء حي؟ هل هو سبب مرض سمير؟ وإن كان، فلماذا شُفي فجأة دون أسباب؟ لأن السيد فتحي سامحه؟
....
راح يتذكر كلماته وهو يفتح قفل الباب. قال إن الحائط سيخرجه من هنا بعد ثلاثة أيام، وأنه أبدل حظه، بحظ شخص آخر. أطلق همهمة هازئة على سخافة خواطره. لا يزال يتمسك بالمنطق الذي يقول دون تعقيد إن الرجل مجنون. يفتح الباب ليقابل ظلاماً حالكاً. المصباح الكهربائي لم يُطفئ قط في هذه الغرفة، فمن أطفأه؟ يمد يده لينير الضوء من المقبس القريب، غير أنه يكتشف احتراق المصباح نفسه. يسب سبة قصيرة، ثم يقول:
- كيف تحملت الظلام، أنت وحائطك؟
لا يسمع رداً. يعلو صوته:
- هل تسمعني أيها ال.... ؟
لا رد.
- فتحي؟
الصمت المطلق. الساعة تقترب من الحادية عشر مساءً، ولا يُسمع صوت في الشوارع لأن الجميع نيام. يخرج هاتفه الذكي لينير ضوءاً ساطعاً به "الفلاش" ويوجه الضوء إلى الحائط. لشهور طويلة بعد تلك الليلة، ظل يحلم بما رآه آنذاك. السيد فتحي واقفاً وظهره للباب، فيقابل الحائط. يمد يديه على اتساعهما ويضعهما على الحائط. ليس بعيداً للغاية عن الحقيقة لو كان الحائط رجلاً ضخماً، وكان السيد فتحي ببساطة، يحتضنه. هكذا بدا الأمر في عيني السيد عمار. رجل يحتضن حائط. أما أكثر ما أثار رعب السيد عمار، هو أنه وبطبيعة الحال، كي يحتضن المرء شيئاً مستوياً، فإنه يجب عليه أن يدير رأيه لأحد الجانبين، وكذا كان يفعل السيد فتحي، فيظهر من وجهه للسيد عمار، النصف. نصف وجه لرجل يعطيه ظهره. ليس فقط أن نصف الوجه هذا به عين ترمقه، أي ترمق السيد عمار، بل أيضاً أن نصف الوجه هذا به ابتسامة عريضة تكاد الأسنان تظهر منها. تحت ضوء الهاتف القوى، بدا هذا للسيد عمار مفزعاً لأقصى الحدود. قد أخذ الأمر منه عدة لحظات، حتى استفاق مكلماً السيد فتحي:
- هل أنت بخير؟
ومجدداً، لم يسمع رداً. وهذه المرة، لم يسأل مجدداً، لأن السيد فتحي تراجع ببطء وهو على ذات وضعية الاحتضان. تراجع دون رد فعل منه. ثم مع التدقيق، لم يكن السيد فتحي يتراجع فعلاً، كان يسقط. الجسد المتيبس يسقط على الحائط الذي كان يحتضنه. فلما سقط، ولما لمس ظهره الأرض، لم يحدث جلبة، لخفة وزنه. فاتحاً يديه، ناظراً أقصى اليسار برأسه وبعينيه. مبتسماً وكأن الضر لم يقربه قط. فهم السيد عمار أخيراً ما يحدث. السيد فتحي قد ذهب إلي بارئه، وما هذا إلا تيبس جثته، وقد تيبس على الوضعية التي مات عليها. ازدرد لعابه وهو يطالع الجثة التي أمامه. في ركن صغير من الجدار، قرأ جملة كتبت بخط أحمر هو على الأرجح دم "لن أترك وطني"
.....
كانت تساوي شعرها بمشط أمام مرآة في غرفة نومهما حينما سألته:
- لا أصدقك. متى حدث هذا؟
- لا أمزح. أخذته للمطار يوم الثلاثاء. ألم تلاحظي اختفائي هذه الفترة؟
- أنت جاد؟ لم تخبرني!
ثم تستدير له معاتبة:
- لماذا لم تخبرني؟
- لماذا يجب أن أخبرك؟
- لأني أردت أن أعتذر للرجل!
- لم تفعلي ما يستحق الاعتذار.
- جارنا وقد رفعت سكيناً في وجهه! هددت بقتله.
- لم تفعلي شيئاً. كان يعرف أنكِ قلقة علي ابنك. ثم إنه هو الذي أراد يقابلك ليشكرك على الطعام.
بأسى، تهز رأسها:
- يا إلهي. لا أحب هذا. حينما تستثني رأيي عن الصورة. حينما لا تراني.
- ماذا؟ على الأقل هو في بلده آمن غانم!
تعود لتمشيط شعرها الناعم وقد ذهب عنها الانفعال:
- نعم. هذا ما يعزيني، أنه سعيد الآن.
لا يرد عليها وقد راح يرشف قهوته التركية التي أعدتها له. تسأله:
- ماذا ستفعل بالوحدة؟
- لن أؤجرها، احتراماً له.
تهمهم:
- جميل.
ثم تسكت للحظات قبل أن تقول بتردد:
- سمعت صوتاً يأتي من هناك... منذ يومين.. صوت طرق أو... لا أعلم.
يقول بعد أن لاحظ ترددها:
- هذا لأني فتحت جزءاً من الحائط. أردت أن أعرف أكقر عن الحائط.
تنتبه فتنظر له عبر المرآة:
- حقاً؟ ماذا وجدت؟
- لا شيء. حائط عادي تماماً. صحيح أن هناك مياه مائلة للحمر الخفيفة قد تسربت منه، لكنك تعرفين، نظام أنابيب التدفئة هذا قديم. ربما كان الصدأ أو شيء كهذا.
ويصمت قليلاً ثم يقول:
- كان هذا نزيف الحائط. مياه بالصدأ.
- فعلت هذا لوحدك؟
- لازلتُ نجاراً كما تعلمين.
تضحك وهي تقف. تقول مقتربة منه:
- ألم أقل، أحياناً، أشعر أنك أفضل رجل في العالم.
قبل أن تنحني لتقبله قبلة سريعة، تلاحظ معها وجومه، فتقول:
- فعلت الخير، صدقني. لا تفكر في الأمر.
- ذاك أمر لا أستطيع فعله.
- عزيزي، انتهى كل شيء. ابننا بكامل الصحة والعافية.
وتتغير نبرتها لتصبح أكثر حدة:
- ويقضي يومه كله باللعب علي الجهاز الذي اشتريته له.
يبتسم:
- آسف.
تحتضنه من الخلف. تقبل رقبته قائلة ضاحكة:
- لا بأس.
تقول بالقرب من أذنه:
- لكنك يجب أن تنسى. ما حدث قد حدث. قد اتخذت القرار الصحيح.
يزفر بضيق مجيباً:
- كلماته لا تريد أن تغادرني. أشعر أني فقدت شيئاً مني. أعتقد أنني كنت أحتاجه كما كان يحتاج للجدار، كان يذكرني بهويتي الحقيقية أحياناً.
- ألا ترى؟ احتياجه للجدار كان وهماً، واحتياجك له وهم أيضاً. وهم يجب أن يسقط كما سقط الجدار.
يهز رأسه:
- نعم، جدار برلين يجب أن يسقط. أنتِ جدار برلين ويجب أن تسقطي.
تندهش للحظة قصيرة، قبل أن تدرك أنه يتجنب الحوار عن طريق ممازحتها، وأنه أمسك بها وجذبها من خلف ظهره حتى صارت أمامه. لم تفهم ما حدث وكيف حدث، لكنها انطلقت تضحك معه. وفي ثوان، ومع الضحك والدعابات، نسيت تماماً حوارهما عن السيد فتحي والحائط.
.....
- أعتقد أنه كان صادقاً. لم يكذب عليك. أليس كذلك يا بن....
كان يجلس على كرسي قبالة الحائط، يحادثه فيقول:
- فكر بالأمر. أخبرك أنه سيخرجك، وقد أخرجك من هذه الدنيا. ثانياً، أخبرك أنه سيأخذك معه، وأنت الآن معه. وفي ثلاثة أيام كما وعدك. لا أعلم ماذا تريد أكثر من هذا أيها ال...
يهف دخان سيجارته باستمتاع مزيف. يكمل حديثه:
- لا أعتقد أنك رجل حقيقي. أتعلم لماذا أيها المخنث؟ لأنك تركتني. نقول عض اليد التي مُدت إليه. الكلاب تفعل هذا، وهذا أنت أيها الكلب....
لساعة كاملة، ظل السيد عمار يحادث الحائط. وقد كان ذلك الظاهر، أنه يحادث جماداً. أما الباطن، فكان داخل الحائط. جثة السيد فتحي التي غُلفت بمواد عديدة، تمنع رائحة وآثار التعفن من الخروج. جثة وضعها السيد عمار هناك وأغلق عليها. عمل نجاراً وعامل بناء من قبل، ويعرف كيف يتعامل مع هذه الأشياء. لكن ما لم يعرف كيفية التعامل معه، هو الضوضاء وأعين الناس التي شاهدته يدخل ويخرج بمواد بناء عديدة.
لم يتكلم أحد سوى بعد فترة طويلة. كانت هليغا، المراهقة، هي أول من تكلم، أو أول من تحرك ليعرف. صارت تراقب تحركات السيد عمار. تراه يدخل يومياً وحدة معينة يظل داخلها لساعة أو أكثر، ثم يخرج منها ويحرص على إغلاقها جيداً خلفه. تسأل إن كان من ساكن لهذه الوحدة، فلا تجد إجابة. لم يجبها سوى سمير، حينما تقابلا صدفة في إحدى المرات. حين سألته إن كان يعرف شيئاً عن الوحدة 33، قال الطفل الصغير إن العم فتحي كان يسكنها، قبل أن يعود لمصر. سألته إن كانت الغرفة بها ذات الحائط الذي ذكره لها قبلاً، فكان رده إيجاباً. حينها، بدأت هيلغا بالاهتمام أكثر بالأمر.
بمرور الوقت الذي راحت تراقبه فيه، كان السيد عمار يفقد حذره شيئاً فشيئاً. يوم لا يغلق الباب خلفه بالمفتاح، ويوم لا يتفقد الردهة قبل أن يدخل أو يخرج، ويوم يعلو صوته وهو يتكلم مع الحائط، أو مع جثة السيد فتحي. تزداد ملاحظات هيلغا، ويزداد اهتمامها بالأمر. تأتيها الفرصة في ذكرى زواج السيد عمار. يخرج وزوجته إلى مكان راق، ويتركانها مع سمير وأخيه، لكنهما لا يتركان سمير فقط، بل يترك السيد عمار مفاتيح الوحدة.
كان الباقي سهلاً. كان عليها فقط أن تدخل الغرفة وتلاحظ ما كُتب على الجدار. الجملة التي لم يقترب منها السيد عمار أثناء فتحه وترميه للجدار. كان عليها أن تشم الرائحة البسيطة الصادرة من الجدار. الرائحة التي خرج اليسير منها رغم كل ما فعله السيد عمار لكتمها. ثم كان عليها الاتصال بالشرطة.
.....
وقفا يطالعان بعضهما البعض دون أي تعابير، تماما كما كانا يفعلان في الوحدة. الفارق أنهما كانا يقفان وسط الكثير من البشر. يقول السيد عمار:
- ترحل أخيراً.
يردد السيد فتحي:
- أرحل أخيراً.
- متحمس؟
- بلادي الدافئة والشمس.
- قد تكون هذه آخر مرة نتقابل فيها، لا زلت لا تريد إخباري عن الجدار؟
يصمت السيد فتحي قليلاً، ثم يرد:
- لأنه كان دافئاً ويذكرني بالوطن.
- هذا فقط؟
- أخبرتك أنك لن تفهم.
- لا، بل أفهم، ميونخ باردة فعلاً. تعرف أنه كان دافئاً بسبب تسريب بسيط فقط، أليس كذلك؟
يضحك السيد فتحي:
- غريب.
يضحك معه السيد عمار:
- أليس كذلك؟
ثم سرعان ما تختفي ضحكاتهما ويحل محلها ملامح وجه صارمة. يقول السيد فتحي:
- طلب أخير.
يقول السيد عمار وهو يضع يداً على كتف السيد فتحى:
- بالطبع. أي شيء لصديق الرحلة.
يقترب السيد فتحي من السيد عمار، ويهمس في أذنه:
- الجدار يعاقبك لأنك فتحته.
يستيقظ السيد عمار فزعاً من كابوسه وهو يشهق. علت أنفاسه واستيقظ زميل زنزانته الذي قال:
- تباً لك.
يقوم السيد عمار ويلتصق بحائط قريب من سريره. يطالعه زميله بحسرة وغضب:
- تباً لك أنت وحائطك!
يقول بنبرة صوت أكثر هدوءاً بعد أن وجد الصمت من السيد عمار:
- حسناً، أنا أمزح. ما قصة الحائط؟
- لن تفهم.
- قل لي، لربما أفهم.
- يذكرني بمنزلي.
- منزلك؟ ماذا؟ فقط هذا؟
- قلت لك لن تفهم!
النهاية.

عاوز اتواصل معاك
ردحذفأرسل لي على الإيميل
حذفbaraa.wri@gmail.com