ثرثرة تحت الأرض
يوجد هناك الكثير من الأماكن المثيرة للاهتمام على وجه الأرض، بعض هذه الأماكن لا يجب على البشر أن يتواجدوا بها.. أو على الأقل يتواجدوا بها وحدهم، لقداسة بعضها و لبشاعة منظر بعض آخر ولخطورة أخرى. المقابر أبسط و أسهل مثال، تجدها دائما غامضة و مظلمة و كئيبة، مقدسة هي و يمنع تدنيسها، لكنه وعلى النقيض تماماً، توجد أماكن أخرى صعب أن يتم التفكير بها على أنها أماكن لا يجب التواجد بها، أماكن بدهية لا يمكن لمعظم الناس أن يتوقعوا الخطر فيها، أما عن أماكن مثل محطات مترو الأنفاق، فالقصة تختلف هناك.
في منتصف الليل تماما وقف أوليڤر مستندا على العامود، ينتظر المترو بشغف لا يمكن أن يمتلكه شخص مثله.. طبيعة عمله تفرض عليه هذا الأنتظار.. ليس الأمر بيده، إن عمله غريب قليلا و لكنه مضطر للقبول به.. حتى هو قد اعترف لنفسه في يوم من الأيام بأن عمله غريب. كان قد اعتاد هذا الأمر.. اعتاده لدرجة الإدمان. لا يمكن توقع أقل من هذا لرجل ظل يفعل نفس الشئ لمدة عشرين عاما، عقدان وهو يفعل نفس الشئ، ينتظر مترو منتصف الليل المار على محطة مارسيليا المهجورة بصبر، وبالطبع بملل.
هذا الرجل على مر السنين قد عرف كل شئ عن المترو الذي يستقله، عن العربة التي يدخلها، عن الكرسي المفضل لديه، هذه المحطة بالذات هي تقريبا أقل المحطات استقبالاً للناس في العالم كله، لأنها على مدار اليوم كله لا تستقبل سوى شخصين أو ثلاثة في أفضل الأحوال، وهو منهم بالطبع، والمترو نفسه لا يمر إلا مرتين يوميا على هذه المحطة المهجورة.
المحطة كانت شعبية للغاية في يوم من الأيام، وهذا الجزء من المدينة كان مليئاً بالحيوية، حتى جاء اليوم الذي أعلنوا فيه هدم هذا الجزء بسبب مشاكل في البنية التحتية، ثم فكروا في أن ترك هذه المحطة لن يضر أبدا.
كان يفكر كثيراً في هذا الأمر، الواقع هو أنهم لم يزيلوا هذا الجزء من المدينة بسبب البنية التحتية، لو كان الأمر هكذا لكانوا قد بنوا بيوتا أخرى مكان التي تم هدمها.
أخذ يتخيل السناريو في عقله، فيرى رجل فاحش الثراء أراد أن يكون أكثر فحشاً في ثرائه، فيقرر أن يبني بعض المصانع التي تساعده في ذلك، ثم وجد هذا الجزء المنفصل عن المدينةذ يبدو له كجزيرة صغيرة مكتظة بالسكان يفصل البحر بينها و بين الجزيرة الكبيرة التي هي المدينة. فكر الثري، وقال إن الازدحام هنا غير معقول، ولكن المكان رائع من أجل أعماله، وإذا تمكن من إزاحة السكان فسوف يتمكن من بناء مصانعه بدون مخالفة القانون، لأن هذا يعتبر مكان منعزل في حد ذاته، ويلزمك عبور جسر صغير كي تصل للمدينة الكبيرة. إن الأمر سهل وازدحام المنطقة سهله أكثر، بعض الهراء الحقيقي والمنطقي عن البنية التحتية والتناقض وما إلى ذلك إلى مجلس المدينة، ثم ينتهي الأمر، ثم بعد ذلك رشوتين هنا ورشوة هناك، ويحصل على الأرض بكاملها له، كان هذا منذ عشرين عاما، أما الأن فهذا الجزء ممتلئ عن آخره بمصانع هذا الرجل الثري.
كان أوليڤر يستند على العامود و هو يصفر بألحان أغنيته المفضلة حين سمع الصوت و رأى الضوء في النفق، توقف عن الصفير، ونظر إلى ساعة كبيرة معلقة على الحائط ثم غمغم بعدها "دقيقتين تأخير اليوم..هممم.. لابأس"
توقف الكائن الضخم الكئيب أمامه وفُتح الباب، فدخل بتثاقل وفوراً ذهب نحو مقعده المفضل ثم جلس، وهنا لاحظ الشخص الآخر الذي يجلس أمامه في الظلام. أولڤير لم يقابل في حياته سوى سبعة أشخاص في هذه المقصورة، ومع هذا الشخص أصبحوا ثمانية.
عدا أن هذا الشخص كان مختلفاً، أو هكذا بدا لأوليڤر. كان الرجل يشبه كتلة متكومة على نفسها، ولا يظهر من جسده سوى أنفه و ذقنه، والباقي مختف تحت ثيابه، وتحت تأثير الظلام، يسمونها الإضاءة الجانبية في السينما.. تعطي إنطباعاً لا بأس به لدى المشاهد، وأعطت نفس هذا الانطباع لدى أوليڤر، الرجل يبدو كشبح يختبئ بداخل الظلام. تعجب أوليڤر من الأمر، فالجو لم يكن باردا لهذه الدرجة التي تدعوه لأن يرتدي ملابس مثل هذه، ولا أن أن يتكوم فوق نفسه هكذا و كأنه يطالب ببعضا من الدفئ.
ورفع هذا الرجل رأسه فجأة، ثم بدأ بالتحدث بصوت مرتجف:
"سيد أوليڤر؟ هل هذا أنت حقا؟"
نظر له أوليڤر لوهلة ثم رد وهو يحك رأسه:
"نعم هذا إسمي"
"هل؟! هل تمانع إن تحدثنا قليلا؟"
"لا أمانع أن أتحدث مع.. الغرباء"
قالها أوليڤر و هو يضغط على كلمة الغرباء، أراد له أن يعرف أن له حدوده معه الحديث، لكن الرجل صمت و لم يتحدث، فقال أوليڤر:
"كيف عرفت إسمي"
"أخبروني به"
"من هم؟!"
"إن أخبرتك فلن تعرفهم على أي حال"
"و ماذا تريد؟"
"أخبرتك.. أريد أن نتحدث"
"عن ماذا؟"
"عن ماضيك يا سيد أوليڤر"
أخذ أوليڤر ثانيتين كي يستوعب ماقاله الرجل، ثم ما إن أدرك معنى الحديث حتى قطب جبينه و قال بنبرة خشنة:
"ليس من شأنك"
قال الرجل في تعجب:
"لا؟!!"
صمت الرجل الغريب لفترة ثم أردف بعدها:
"لنعقد إتفاق يا سيد أوليڤر، أنا سأقص عليك جزءاً من ماضيَّ، وأنت بدورك ستقص عليّ جزءا من ماضيك"
فكر أوليڤر في الأمر.. الرجل يبدو غريبا، ولكنه يبدو مسالما، ولا مانع حقا من أن يحكي له ماحدث له منذ سنين، بالإضافة إلى أن الطريق مدته ساعة كاملة ولا ضير من القليل من التسلية. رد أوليڤر ببساطة:
"أتعرف ماذا؟! لقد أعجبني الأمر.. فليكن.. و سأبدأ أنا"
ثم صمت أوليڨر قليلا و بدا أنه يسترجع ذكريات ماضيه.. و بعدها أردف بصوت خفيض و هادئ:
"حسنا.. تريد أن تعرف ما حدث في الماضي إذن"
ثم نظر إلى الفراغ في شرود كمن يتذكر ماضيه و بدأ يتكلم:
"سأحكي لك عني.. سأحكي لك عن الرجل الذي أحب زوجته و أولاده أكثر من اللازم.. عن الرجل الذي أعطى كل شئ حقه أكثر من اللازم.. الرجل الذي أفنى نفسه من أجل عائلته.
في البدء، عانى الرجل كثيرا مع عائلته، كل شئ حوله كان يثير حنقه، ابنه وابنته المراهقين وصراخهما العالي، تمردهما، المصاريف المتراكمة، الحياة الكئيبة المشؤومة التي يعيشها، لكن ما كان يعزيه فقط هو زوجته الجميلة لولا، كانت لطيفة لطف الكون نفسه، المضحك في الأمر أن الرجل كان يظن أنها تكرهه في بعض الأحيانذ وليست هي فقط بالطبع بل و أبنائه كذلك، ظن أنه كان يرى هذا في عينيها، وفي أعينهم.
وفي يوم مشئوم، في أسبوع مشئوم، ذهب الرجل لعمله كالعادة، ليجد أنه قد فُصل من عمله. لم يجد أسباب واضحة لهذا الأمر، فقط قالوا له أنت لم تعد تعمل هنا. ما حدث بعد ذلك كان متوقعا، أشياء مثل تحطم معنويات الرجل، مثل الإحباط الذي سيطر عليه. لم يعرف من أين سيبدأ مجددا، لكن الأمر لم ينتهي عند هذا الحد، وكما يقولون أول الغيث قطرة، وكان فصله من عمله هو أول قطرة من الغيث، فبعد ذلك بدأ المطر ينهمر بقسوة، فقد الرجل زوجته بسبب مرض خبيث.
ما ترتب على ذلك كان هو تشرد الأبناء، الرجل لم يكن يعرف أن أولاده سيكونون هم أكثر من تأذوا من هذا الأمر، بالنسبة لهم أمهم كانت كل شئ و أكثر، وناهيك عن أنها هي من كانت تهتم بهم، أو بمعنى أصح توجههم للطريق الصحيح، لكن حين حدث هذا تداخلت الأمور لديهم و أصبحوا لايفرقون بين الصحيح و الخطأ. باختصار، ركضوا وراء الرغبة و الغريزة ركضاً، فقط كما يجب لمن هم في سنهم أن يفعلوا إذا لم يجدوا من يوجههم مثل الأم.. مثل العائلة.
ابنه المراهق العنيد قد صار مدمنا، وليس ذلك الإدمان العادي، بل ذلك النوع من الإدمان الذي يمكنه أن يقتل صاحبه إذا كان متهورا، وكان الرجل يعرف أن ابنه متهور إلى أقصى حد، لهذا لم يندهش كثيرا حينما وجد صغيره منكمشاً على نفسه بدون أي علامة تدل على أنه حي، عرف حينها أنه مات هو الآخر بسبب جرعة زائدة.
في الجنازة، بدأ الرجل يعد المتواجدين، وأحصاهم، كانوا خمس أشخاص فقط
تأكد حينها من أن لا أحد يود أن يكون في جنازة شخص مثل ابنه، أو في جنازة إبن شخص مثله هو.
لم ينته الأمر عند هذا الحد بالطبع، في وقت الجنازة بحث كثيرا عن ابنته ولكنه يجدها في أي مكان، لم تحضر إلى الجنازة.
فيما بعد ومن ما عرفه من ابن الجيران، هو أنها قد صارت فتاة ليل بارعة للغاية.. و أنها قد هربت لتعيش حياتها و تحظى ببعض التجارب و من المحتمل ألا تعود أبدا إلى هنا بعد أن تذوقت طعم المال.. و حينها فقط لاحظ الرجل أن ابن الجيران ربما يعرف أكثر مما ينبغي.. أكثر مما ينبغي بكثير.
و هكذا في أسبوع واحد، فقد الرجل كل شئ كان يعيش لإجله يوما.. و ظل هائما تكاد فكرة الإنتحار أن تبلغ منه مبلغا حسنا، وقتها جلس مع نفسه و أخذ يفكر.. ما الذي أراده حقا؟ ماهو حلم حياته؟
وكان أن انتبه أخيرا إلى شئ تاه عنه كثيرا، كم كان يحب رائحة البحر وهو صغير! لكم تمنى أن يصبح صائد سمك، توقف الرجل عند هذه النقطة و بدأ يرسم خططه التالية، إن الرجل معه من مال ما يكفي لشراء ما يلزمه كي يصبح صيادا، سوف يقضي بقية عمره في فعل ما يحب، سيصطاد و يبيع السمك.
كانت بداية الرجل صعبة للغاية، لا يمكنك أن تكون صيادا فقط لأنك أردت ذلك، والجميع يعرف أن القاعدة الأولى والأساسية في الصيد هي الصبر، وعليه، عانى الرجل كثيرا ولا إنكار في ذلك، لكنه في النهاية صار خبيرا في ما امتهنه، صار الصياد الأشهر في المدينة. كانت أشهر وسنوات لكنه فعلها في النهاية
حين ازداد ماله وبدأ ينتفع من بيع السمك بشكل مرضي، بدأ يتوسع في تجارته، فاشترى المركب الأكبر ووظف أربعة سواعد ليساعدوه، باختصار، كان الرجل يتسلق القمة خطوة بخطوة.
مع مرور الوقت الوقت عرف الرجل أن حياته لم تكن لتكون أفضل من هذا، فهو يفعل الشئ الذي يحب بل و يكسب مالا منه كذلك.
بعد ذلك، وفي نقطة معينة من حياته، بدأ يفكر في كيفية جعل نفسه أسعد، ثم بدأ العمال لديه يتكلمون معه عن حتمية زواجه، ليس إلا أنه الآن رجل ناجح وسعيد، ولا مانع من ذلك رغم سنه. فكر وفكر، وأخذ الأمر منه مبلغه.
يستيقظ أنصاف الليالي ليفكر ويؤمن ويحلم، وعلى شاطئ الحلم، كان يجد الحقيقة التي وقفت بينه وبين بحر أفكاره، وهي أن تجربته السابقة كانت تعيقه عن هذا، كان شيئا ما في عقله يخبره بأن كل سيئ يحدث حينما تجد من تحبه، إذ أنهم بطريقة أو بأخرى سوف يتمكنون من إيذائك، سواء إن أذوك بإرادتهم أو أذتهم الظروف، في كلتا الحالتين سوف يكون هناك ألم و حزن.
في النهاية وبعد حرب الأفكار، صار الرجل راضياً عن حياته ولا يطلب المزيد، لقد أصبح فجأة متمسكا بفضيلة القناعة. وجد نفسه بعد أن كان لا يهتم بهذه الفضائل المثلى والأخلاق العليا، يدافع عنها و بشدة، و لكنه كان يعرف أن هذا فقط بسبب أنه خائف من أن يحدث ما حدث سابقا، كان يعرف بأن الخوف هو ما يجعله يفكر بهذه الطريقة"
صمت أوليڤر و بدا أنه قد اكتفى بهذا القدر، فهم الرجل الغريب الموقف وبدأ يحكي حكايته هو:
" أما أنا فسأحكي لك عن الفتى المراهق الذي أثارته أفكاره أكثر مما أثاره العالم، ذلك الفتى الذي كان يبحث عن من يحب و لكنه لم يجد من يحبه فظل معلقا شتان بين مشاكله الذهنية و بين رغباته الدفينة التي تعد جزءا لا يتجزأ من مشاكله الذهنية كذلك.
كل يوم وكل نفس يأخذه، كانت تتولد لدى الفتى مشكلة ما داخل عقله، شئ روتيني لمن هم في مثل سنه، غير أن أكثر ما أرقه وقتها كان شيئا كبيرا، الفتى كان لديه مشكلة تتعلق بعدم الثقة في أقرب الناس إليه، كان يجد نفسه أحيانا يكره كل من هم حوله، الأب والأخ والأم والأصدقاء. كان يعرف أنه يحتاج لشيء، في داخله عرف هذا.
قد تساءل عن ماهية هذا الشئ كثيراً، لكنه لم يجد إجابة أبدا، وحينئذ قرر أنه سيذهب إلى بعض الجلسات التي قد تساعده في معرفة ما يحتاجه حقا، كان الهدف الأسمى في هذه الجلسات هو الاستماع، سوف تجد من يستمع لك ولمشكلتك، وحينها سوف تشعر بأن هناك من يقاسمك شعورك و هذا سوف يهون عليك الأمر قليلا، وربما فيما بعد ستجد من يقترح عليك حلا و ربما ستجد كذلك من يساعدك. الجلسات بدورها كانت من ذلك النوع الذي يجتمع فيه أصحاب المشكلة في دائرة ثم يبدأ كل منهم بالتكلم عن مشكلته و كيف بدأت، وما آلت إليه بعد مرور الوقت، و بالطبع كيف انتهت. بالطبع، بعض القصص بالنسبة للفتى كانت مثيرة حقا وذات نهايات حزينة جدا.
واحدة من القصص التي سمعها الفتى في هذه الجلسات كانت قصة تحكيها إمرأة جميلة، لم ينس الفتى أبدا صوتها و نبرتها وهي تحكي قصتها و لم ينس كلماتها كذلك.
كانت تحكي قصتها بصوت واهن و يائس فتقول »»لقد مرت الأن عشر سنوات منذ أن رأيت إيلي لأول مرة.. في ظروف أخرى لم أكن لأتذكر كم من السنين مر عليّ، ولكن اليوم أتذكر.. أتذكر لأن الأمر يتعلق بإيلي الطفلة البريئة التي أحبتها العجوز كثيرا.. لأنها ابنتي، والآن لا أريد الخوض في التفاصيل.. الأمر فقط هو أنني سوف أموت و أحتاج حقا لمن يعني بها، إنها صغيرة.. و جميلة، لا أقارب لها ولا أحد مستعد لتحمل عبئها، لكن لا تفهموني بشكل خاطئ، أنا لست هنا لأبحث عن أحد كي يعتني بها.. فأنا لن أعطيها لشخص قد قابلته في مكان مثل هذا، جل ما في الأمر هو أنني قد أصبت بإكتئاب شديد نتيجة هذا الأمر و أردت أن أعرف هل هناك من هم مكتئبون مثلي أم لا.. تعرفون ذلك الشعور بأنك لست وحدك من يعاني««
و كأن هناك جرس قد رن في رأس الفتى، بدا له أن الأمر سيفرحه حقاً، الاعتناء بطفلة، وفجأة وجد الفتى نفسه يسأل المرأة عن عمر طفلتها، نظرت له مطولا ثم أجابته: 10 أعوام.
كان انطباع الفتى الأول عنها هو أنها جميلة، لكن حينما نظرت له بدأ يتنبه أكثر للأمر.. بدأ يتعمق في تفاصيل وجهها، وحينها لم يأخذه الأمر أكثر من ثانيتين كي يعدل من انطباعه الأول، قد كانت جميلة للغاية.
في غمرة انبهاره كان يفكر في الأمر، إنه لمن المحزن للغاية أن تموت أم و تترك ابنتها الصغيرة بهذه السن، لكنه من الأكثر حزنا أن يموت مثل هذا الجمال.
ما يعرفه عن هذه الأمور هو أن أي امرأة متزوجة تخطت حاجز الثلاثين و لديها أبناء فيجب أن لا تكون جذابة. هو شئ مثل قانون قد وضعه في رأسه وأصبح العمل به واجب إذا توافرت الشروط، لكنه و لأول مرة في حياته يتعارض واقعه بشئ قد درسه و استنتجه كثيرا من قبل، وفي النهاية وجد نفسه حائرا للغاية، فضوليا للغاية.
كانت الأمور بسيطة واضحة أمامه، سوف يطلب مساعدة هذه المرأة، أن تطلب مساعدة شخص يريد المساعدة لهو شئ مثير للسخرية.. و هذا هو ما تنبه له حينما تكلم معها بعد نهاية الجلسة، من حديثهما عرف الفتى بعض الأشياء عن المرأة، ليس عن حياتها بل عن شخصيتها.
كنت المرأة هادئة للغاية و تتحدث بصوت خفيض، عرف فيما بعد وبعد التدقيق أن هذه ليست صفة الهدوء، كل ما في الأمر هو أنها لم تعد ترى أي شئ مثير في هذا العالم، كل ما يهمها هو تأمين مستقبل طفلتها، ومن ثم فتبا لهذا العالم البغيض. ذاك هذا هو ما أستطاع أن يستخلصه من بين حديثها معه، إذ شعر أنها ينقصها التفوه بهذا مباشرة. المضحك هنا هو أن الفتى بعد عشرة دقائق من الحديث معها أدرك شيئا مهما، لقد أحبها بالفعل، ليس حب الشخصية بل الحب الذي يتحدثون عنه بالإفلام. اعتقد حينها أن الأمر مثير للضحك كثيرا على قدر ماهو مثير للقلق، لكنه هدّأ من روعه ليس الأمر و كأنه قد ظل يحبها لعشرين عاما، لقد رآها للتو.
صارحها بالأمر في النهاية.. قال لها إنه قد استراح كثيرا لها، وأنه يود فعلا لو يعتني بطفلتها، لكن ما الفكرة هنا؟ ظل يسأل نفسه هذا السؤال كثيرا.. لماذا هو يريد أن يعتني بطفلة صغيرة لايعرفها بهذه الحماسة، كان ردها صدمة بعض الشئ له.. قالت إنها قد وجدت من يعتني بالطفلة بالفعل، كالملهوف، سألها فوراً عن هوية الشخص، لكنها لم ترد فلاحظ أنه يطلب أكثر من اللازم بالنسبة لشخص قد قابلته للتو. كانت من النوع الذي لا يحب أن يوقع الآخرين بمواقف محرجة، لذا حينما طلب منها أن يساعدها بأي وسيلة، شكرته في لطف و طلبت منه أن يترك رقمه معها، وإذا شعرت بأنها تحتاج للمساعدة سوف تتصل به.
لم يأسف الفتى كثيرا، وقد كان في زاوية يتوقع شيئاً كهذا، هو فقط كان يحاول لعل الأمر ينجح. في نهاية اليوم، أعطاها الرقم وحفظ تاريخ ذلك اليوم في ذهنه، إنها نهاية مغامرة قصيرة، و مما لاشك فيه أسرع نهاية حب من طرف واحد على الإطلاق، لكنها على كل حال كانت شيء سوف يحكيه لأطفاله من بعده.. سوف يقول بفخر: أنا الرجل الذي أحببت امر في عشر دقائق، ثم افترقنا في عشر أخرى.
الفتى في هذه الأيام كان لايزال مستمرا في حضور تلك الجلسات، و أول شئ كان يفعله هو البحث عن تلك المرأة التي أثارت اهتماماهه. وقتها أدرك أنه يكره الإعتراف بالأمر.. يكره الإعتراف بأنه يشعر بالإحباط حينما لا يجدها بين الحاضرين.. إلا أنه تقبل الأمر في النهاية، حينما شعر بالسعادة إثر عثوره عليها في جلسة من الجلسات، ورغم أنها كانت على مسافة لا بأس بها منه.. إلا إنه كان ينظر لها متوقعا أن تبادله نظراته.. لكنها لم تفعل و ظلت شاردة طوال الوقت.. بمرور الوقت استسلم الفتى وفقد الأمل في أن تنظر له، فأشاح بنظره بعيدا مفكرا في مشكلة من مشاكله اليومية المعتادة.
الأمر المثير الذي لم يره الفتى وقتها، هو أنها أخيرا كانت قد بدأت تنظر حولها.. وأنها قد تنبهت له و تذكرته من مقابلتهما الأخيرة، شعرت بشعور غريب حينها.. نظرت له فأطالت. بدا لها أن ذلك الفتى تائه.. روح يائسة تبحث عن شيء ما، أما عن ذلك الشعور الذي انتاب الفتى حينها فهو شائع، إنه الشعور الذي بسببه تدير رأسك فتجد من يحدق بك بإصرار عجيب، و كذا قد تلفت الفتى ليجدها تحدق فيه. لحظة تلاقت فيها الأعين، ولحظة أخرى رفع فيها يده في خجل، وفي صمت.. فقط ليحييها. ردت عليه بالمثل مع ابتسامة صغيرة قتلت نفسها من أجل إخراجها، آخر ما كانت تريد أن تفعله في مكان مثل هذا هو توزيع الابتسامات، لكنها كانت مجددا تلك العادة فيها.. وهي أنها لاتحب إحراج الآخرين، لابد من أنها قد فكرت حينها في أن التلقائية تحكم في هذه المواقف.
وكما توقعت المرأة، وجدت الفتى أمامها يحييها بلطف بعد انتهاء الجلسة، فعرفت ببساطة أن الفتى يريد الحديث، فلم تعترض حقا، لقد كانت تشعر بالحاجة لمن يثرثر بجانبها لبعض الوقت، فقد كانت محبطة مستاءة بدرجة فوق العادة، وتريد أن يلهيها الحديث عن هذه الدرجة غير الطبيعية من الكآبة. كان الفتى يريد العديد من الأشياء وقتها، كان يريد أن يروي فضوله و يعرف من سيربي ابنتها، وكان يريد كذلك أن يعرف الأسباب التي جعلت الفتاة يتيمة، ويين هذا وذاك، أكثر ما كان يريده الفتى هو أن يمضي بعضا من الوقت برفقتها، فهو لم ينس أنه قد أحبها لوهلة من الزمن من قبل. وللقدر، ما لم يكن يعرفه الفتى بأنه سوف يسحر أكثر بجمالها و بطريقتها في الحوار.
علي قدر الذكرى، ظل ذلك اليوم من أفضل الأوقات التي حظي بها الفتى على الإطلاق، وقد كان كذلك من الأيام التي غيرت مجرى حياته للأبد، فعن إيلي قد عرف، و عن الشخص الذي سيربيها بعد موت أمها قد عرف كذلك، و عن أسباب تيتم إيلي تمنى أن يعرف، لكنها لم تتحدث عن ذلك قط..
اكتفت بإخباره فقط عن إيلي وعن الشخص الذي ستثق فيه من أجل الاعتناء بها، وهو لم يرد أن يتوغل أكثر من اللازم في حياة المرأة، لذا لم يجرؤ على السؤال، لكنه لم يتقبل ماسمعه منها على كل حال. قد كانت تخبره بأن أمها هي من ستربي إيلي، أي جدة إيلي نفسها. حينما أخبرته بهذا شعر بالغباء، إن المرأة كبيرة السن وربما بالكاد تستطيع العناية بنفسها.
في الأيام التالية توطدت علاقته بالمرأة، لقد تم الأمر سريعا بالنسبة له، فهو حبه يكبر شيئا فشيئا، وهو لها أنيس غريب الأطوار تقضي بعض الأيام الممتعة معه، رغم ذلك لم تفكر فيه يوما مثلما كان يفكر هو فيها، فكان ظله في قلبها ظل الشخص العادي، الشاب الصغير غير ناضج التفكير، ذاك أنه عندما ينتظر المرء موته، فهو لا ينظر لمثل هذه الأشياء.. هو فقط تريد أن يمر اليوم بدون أن يموت.
هكذا تمر الأوقات فتتطور الأمور، فهي تأخذه في يوم من الأيام لرؤية إيلي وجدتها. إيلي التي كانت قد بدأت تستعد للأمر من دون أن تعرف شيئا، كل ما تعرفه هو أنها صارت تسكن مع جدتها، فلم يجسر أحدهما على إخبارها بذلك.
ربما هنا تكمن القسوة المؤلمة للحياة، الإستعداد لشئ ما لا تعرفه.. ثم حينما يحين الوقت يصفعك الأمر بقسوة. وضع الفتى نفسه مكان إيلي، سوف يأتي صباح تأخذه أمه فيه إلى بيت جدته، ستقبله على خده و تخبره بلطف أنها تحبه، ستخبره بعد ذلك أنه سينقل للسكن هنا مع جدته بدلا من بيته الأصلي، سيحاول أن يعرف لماذا لكن الكبار يجيدون الكذب حقا على الأطفال. سيفكر بعقله الطفولي عن السبب قبل أن ينام ليلا، ثم في النهاية، سينام من فرط الإرهاق. ستمر الأيام عليه و سوف يرى الحزن في أعين جدته و أمه كثيرا، سوف يراهما تتهامسان في حزن و هما تنظران إليه، بعدها ستبدأ أمه بذرف الدموع في صمت، وحين يتقدم نحوها و يسألها عما بها، ستحتضنه فورا وهي تزيد من حدة بكائها، مخبرة أياه بأن لاشئ وأن كل الأمور على ما يرام.
وفي يوم من الأيام سوف يستيقظ من نومه و يخرج ليرى جدته، وحينها سوف يشاهدها لأول مرة و هي تذرف الدموع هي الأخري. لابد من الأمر سوف يكون صعبا عليها، أن تخبره بأن أمه قد رحلت تماما.
أشفق الفتى كثيرا على إيلي التي لا تفهم ما الذي يحدث معها، و مع هذه الشفقة تولد سؤال واحد لم يفهمه الفتى قط حينها.. لماذا ستموت أمها؟ لماذا يتحتم عليها أن تموت؟
حينما قابل الفتى جدة إيلي بدأ يفطن لحقيقة ما، حقيقة أن شخص مثلها من المفترض أن هو من يجب أن يُعنى به، أن توضع في دار مسنين أو شئ من هذا القبيل، والأمر أنها لم تجد من يفعل لها ذلك، ببساطة لأن لم يكن لها إلا ابنة واحدة فقط، ابنة تساعدها ماديا و معنويا كل يوم.
تقول العجوز إن السنين مرت بسرعة كبيرة، ولكنها مازالت تستطيع تقديم المساعدة لإيلي حتى تستطيع إيلي الاعتماد على نفسها، لكنه كان ينظر لها ويستطيع أن يشعر بأن بروح الموت تحوم حولها، وربما ستموت قبل أم إيلي نفسها.
و بالرغم من صراعاته النفسية المثيرة، كان الفتى يعرف ما الذي سيفعله بالفعل، لقد توصل للقرار منذ أن رأى إيلي مع جدتها..
سوف يأخذ الفتاة و يربيها كأخت له، حتى و إن تطلب الأمر أخذها بالقوة. كان إصراره على الأمر شديدا بالفعل، كما كان منطقيا في نفس الوقت. لم تجد أمها بدا من أن تنصاع لرغبته، فقد اقترب موعد الرحيل، وهي لا تعرف أحدا يستطيع العناية بها كما سيفعل هو. في أوقات كهذه يتوجب عليك أن تبيع ثقتك لمن يريدها، لا لمن تريدهم، وقد فعلت هي هذا و باعت ثقتها للفتى، فقط لأنها لا تملك حلول أخرى.
توطدت العلاقة كثيرا بين الفتى و أم إيلي، لدرجة أنه أصبح يقضي أمسياته مع عائلة إيلي في منزل الجدة. كانوا يجلسون جميعهم معا ويتناولون العشاء ثم يقضون بقية الأمسية في مشاهدة التلفاز، ولم يكن الفتى يغادر لمنزله إلا حينما يتأخر الوقت حقا.
قد أصبح الفتى بدون أن يشعر جزءا من العائلة، وأصبحت إيلي بقلب الطفلة الصغيرة التي تحمل، تعتبره شخصا قريبا للغاية منها كجدتها و أمها.. فرأته شخصا من العائلة، وحينما شعرت أمها بذلك فرحت كثيرا، لأنها عرفت أن هذا سيساعدها على تخطي أمر موتها. الطبيب أخبرها أن المرض في مرحلته الأخيرة بالفعل، وأنه سيعطيها عدة أشهر على أكبر تقدير قبل أن يأخذ روحها، وقد مرت هذه الأشهر الآن، لذا فالموت قد يأتي في أي يوم.
استيقظت في يوم، واتصلت بالفتي ل تخبره أنها تريد مقابلته، وفي منزلها أخبرته عن المرض الذي أصابها، وعن أنها سوف تموت في هذه الأيام بالتحديد.. ثم طلبت منه في النهاية أنه إذا كان يريد أن يخبرها بشئ أو يسألها عن شئ فليفعل، لأنه ربما ستكون هذه هي المرات الأخيرة التي قد يراها فيها.
تردد الفتى كثيرا وزاره هاجس الارتباك في البداية، قبل أن يسألها.
سألها عن زوجها و أين هو الأن، عن ما إذا كان حيا أم لا. رفضت أن تجيبه وأخبرته أن سؤاله يعد سؤالا وقحا، أخبرها و هو يتلعثم بكلماته أنه يريد أن يعرف لأنه يحبها كثيرا، اعترف بحمقه أمامها، لكنه تفاجأ بردها..
لقد أخبرته بأنها كانت تعرف.. أخبرته أيضا بأنها لا تكن له ذرة مشاعر واحدة، صدم الفتى وظل صامتا، وأخذت هي تكمل كلامها، لكنه كان لا يستمع لما تقوله، فكان فقط يكتفي بالهمهمة والموافقة والإيماء برأسه على كلامها.
في رأسه كان الأمور مبعثرة، لقد كان يظن أنه قد وجد ما يريده، ظن أنه الحب الذي يبحث عنه، لكنه أدرك حينها أنه كان مخطئا، ومع هذا أدرك مدى حماقته، أن تتعلق بإمرأة على وشك الموت لهو شيء غبي لأقصى الحدود، غير أن الفتى اعتبر الأمر درسا قاسيا، وتعلم منه شيئا وحيدا، و هذا الشئ هو الحذر الشديد قبل مواصلة التعلق بشخص ما.
ثم إذا ما جلس يفكر مع نفسه، كان يعرف أكثر و أكثر مدى حماقته، فهي إذا قالت أنها تحبه كذلك، إذن ما الفائدة! يومين أو ثلاثة ثم ستموت، النتيجة هو أنه ظل لا يراها لمدة يومين حتى اتصلت به الجدة وأخبرته ما كان متوقعا، عم الحزن بالطبع لفترة من الزمن، وخصوصا بالنسبة للفتى، رغم معرفته بأنه قست عليه كثيرا في مقابلتهما الأخيرة، إلا أن هذا لم يمنعه من ذرف كمية لا بأس بها أبدا من الدموع. كان يمكنها ببساطة أن تكذب عليه و تفرحه قليلا، ويسأل نفسه، ألن يتألم أكثر إذا عرف أنها كانت تحبه! أليس من الممكن أنها كانت تقول هذا كي تخفف من حزنه!
و مجددا مرت الأيام و تعايش الفتى مع الوضع الجديد لإيلي، ومجددا عاد يبحث عن الشئ الذي لطالما بحث عنه، ربما إيلي سوف تساعده على إيجاد ما يريده، فقط إذا عرفه.. وربما لن يعرف أبدا.
في جميع الأحوال ستظل إيلي معه، إنها الأن أمانته. الغريب في الأمر أن الجدة ماتت بعد أسبوع من موت الأم، كأنها كانت تنتظر أن تسلم الفتاة قبل أن تستريح و ترحل عن هذا العالم، موتها في ذلك الوقت كان هو الإعلان الرسمي بأن إيلي لم يعد لها غير الفتى في هذا العالم.
بطبيعة الحال وجد الفتى صعوبة كبيرة في جعل عائلته تتقبل وجود شخص غريب بينهم، أعدوها دخيلا زائدا لابد من التخلص منه بينما أعدها هو شخصا في أمس الحاجة للمساعدة، وفي النهاية اتفق مع والده أنه سيسكن في مكان منفرد معها، وسيعتني بها، وتلك بركة العائلة الثرية التي ينحدر منها الفتى، التي تستطيع تحقيق هذا له بكل بساطة.
أما الفتى، فقد كان فتى فقط في نظر نفسه، لأنه كان يبلغ من العمر حينئذ 21 عاما، وقادرا على العناية بنفسه، ولكنه كان يعتقد أنه لا يزال فتياً، من إيمانه بمبدأ، أنت لن تكون رجلا حتى تعرف ما تريد، وحتى ذلك الوقت، سوف تظل فتيا، وهو كان لا يعرف ما يريد، لذا لم يعد نفسه شابا أو رجلا في يوم من الأيام. آمن في يوم من الأيام، بأن فكرته عن هذا الأمر كانت سخيفة بقدر ما كانت بسيطة.
أما عن إيلي نفسها، فهي حينها كانت في عالم آخر، عالم من الصعب استيعابه، لأنه يضم فقط طفلة في العاشرة لا تستطيع الإفصاح عن مكنونات قلبها لعدم نضج عقلها.
وكما كذلك لصعوبة الأمر، أن تفقد في أسبوع واحد كل من عشت معهم في هذه السن، فهذا سوف يترك ندبة كبيرة في قلبك، ولسوف يؤثر على سلوكك و طريقة تفكيرك كذلك.. سيكون عليك أن تفهم معنى كلمة موت أولا، ثم بعدها يمكنك أن تبدأ بالحزن، لكن ما كان يعزيها هو وجود الفتى بجانبها في ذلك الوقت.. إذا احتاجت لوضع رأسها في صدر شخص ما ثم البدأ في البكاء، فهي على الأقل تعرف ذلك الشخص.. إذا إحتاجت للعب مع شخص ما، فهي تعرف من سيكون.. إذا أخذتها حمية الحديث، فهي تعرف لمن ستتحدث. كانت طلبات الطفلة أكثر من مجرد طلبات بالنسبة للفتى، ووضعه لطلباتها في قائمة الأولويات كان يثبت هذا.. كما كانت تثبته الأيام كذلك.
إيلي و برؤيتها وملاحظتها لهذا، عرفت أنه يقدرها و يحبها كثيرا، و من ثم تكونت فكرتها عنه على هذا الأساس.. إن هذا الشخص هو ملاكها الذي سيجلب لها ما تريده مهما كان هذا الشئ معقدا أو غريبا.
بالطبع كانت توجد هناك طلبات لا يستطيع تحقيقها كونه بشريا، فهو ببساطة لا يمكنه أن يجعلها تطير، كما أن الأمر كذلك لم يكن يقتصر على الطلبات المادية بالطبع ، بالرغم من هذا، لاحظت أن حياتها صارت أفضل بكثير بسببه، هي نفسها صارت أسعد، لكنها عرفت أنها دفعت الثمن في المقابل حينما ماتت أمها وجدتها، و هكذا تعلمت إيلي أول حقيقة بسيطة، في الحياة، لا توجد سعادة كاملة و كاذب هو من يقول غير ذلك. في ذلك الوقت لاحظت إيلي أن الأيام تمر ببطء شديد، لكنها في جميع الأحوال تمر، و هكذا تعلمت إيلي ثاني درس لها في الحياة، الوقت سوف يمر مهما كانت الصعاب.
مع مرور السنين بدأت الأمور تتغير، فبدأ الفتى يلاحظ نظرات إيلي نحوه... لقد تحول حبها الطفولي بطريقة ما، إلى حب آخر لم يكن يتوقعه.. أو يريده"
توقف الغريب حينما نظر له أوليڤر في شك.. سأله أوليڤر:
"منحنى غير متوقع هاه؟!"
منذ أن بدأ الغريب يحكي حكايته و أوليڤر كان يلاحظ الأشياء حولهما، كان يحاول أن يتأكد من شئ ما، و في منتصف القصة تأكد أوليڤر من الأمر لكنه ترك الغريب يكمل حكايته، قال أوليڤر:
"و ماذا حدث بعد ذلك؟"
"ألا ترى أن هذا كافي؟ لقد حكيت لك الكثير.. أكثر مما حكيته أنت"
"نعم أنت محق بالفعل"
صمت أوليڤر قليلا ثم أردف:
"أتعرف يا سيد؟!.. هناك شئ غريب بشأنك"
صمت الغريب ولم يرد، فأكمل أوليفر بابتسامة وهو ينظر إلى الأعلى، تحديدا نحو مصدر الضوء الذي في العربة:
"لقد حاولت كثيرا.. لكن مهما حاولت لا أستطيع أن أراه"
"ترى ماذا؟"
"ظلك!"
ضحك الغريب ضحكة عصبية قصيرة ثم قال بعدها:
"هل هذا يهم؟"
"نعم بالطبع.. هذا يعني أنك لست بشرا.. إما أنت شبح.. أو أنا أتخيلك"
"هذا غريب يا سيد أوليڤر.. لأنني متأكد أنني حاولت أكثر منك.. و لكني لا أرى ظلك كذلك"
أومأ أوليڤر برأسه في رضا، ثم صمتا لفترة من الزمن قبل أن يقطع أوليڤر الصمت:
"جدة إيلي!"
"ماذا عنها"
"لم تكن جدتها حقا.. أليس كذلك؟"
"لا. ليس حرفيا"
ضحك أوليڤر حينها ضحكة عالية ثم قال متبسما:
"أمن المعقول أنك لم تدرك بعد؟"
"بلى أدرك كل شئ.. هذا هو ما جعلني متشوقا لسماع قصتك"
"كنت تبحث عني إذن"
ثم صمت لثانية حدق فيها في السقف قبل أن يردف:
"لابد من أنك عند نقطة معينة من قصتي كنت قد نلت ما أردته حقا"
"لم أتأكد من الأمر بعد"
"تأكد إذن.. إن الأمر حقيقي"
"ألم يكن كل شئ بسببك.. أنت لم تستطع أن تسيطر على الأمر"
"وأنت الفتى الذي لم يعرف مايريد حتى بعد أن مات"
"أما وقد عرفت ما أريده، فأنا فقط أعتقد أنك أنت السبب، كان عليك أن تفعل شيئا حيال الأمر"
"أنت حقا لا تريد أن تعترف لنفسك بالحقيقة.. هذه هي بوادر الصدمة على كل حال"
"لا أنا لست مصدوما.. الحقيقة هي أنني كنت أتوقع هذا.. لقد بحثت كثيرا في أوراقها.. لم أجد أي أثر لأي... لأي شئ رسمي"
و عم الصمت عليهما مرة أخرى قبل أن يقول الغريب:
"لكن ما الذي حدث لك؟ ماذا حدث بعد رفضك للزواج"
"أنت تعلم ماحدث للمدينة.. كنت الأفضل في تجارتي و كان السوق كله لي.. بعد ذلك حينما حدث ما حدث و طردوا السكان بسبب هراء البنية التحتية ذاك، فقدت كل شئ.. فقدت زبائني و منزلي و كل شئ، فقدت كل ما أملكه مجددا. تعفن مخزوني من الأسماك و لم أستطع أن أبيعه بسبب نزوح السكان كلهم للمدينة الكبيرة، منذ عشرين عام كما تعلم، و بالطبع لم أستطع نقل تجارتي إلى هناك بسبب السوق المكتظ، في النهاية رفعت الراية البيضاء وقضيت آخر أيامي مليئا بالحزن ثملا أتجول في المدينة الفارغة. آخر ما أتذكره هو أنني نزلت إلى هنا وأنا في قمة الثمالة، لابد من أنني تعثرت في مكان ما هنا أمام القضبان، ثم أتى المترو و أنهى بؤسي، ولهذا ظلت روحي معلقة بهذا المكان، وطوال العشرون عاما ظللت آتي لهنا و أركب نفس المترو الذي قتلني و أجلس على نفس المقعد.. صارت هذه هي وظيفتي"
"ظللت تهيم في هذا المكان لمدة عشرين سنة؟ لابد من الأمر قاسي عليك"
"و ماذا عنك.. كيف عرفت أنني هو جد إيلي"
" بعد موت أم إيلي أو ابنتك أيا يكن.. بحثت في أوراقها و ممتلكاتها بصفتي الوصي الوحيد على إيلي بتوقيعها قبل أن تموت، وبموافقة إيلي، طبعاً، اسمها الكامل كان هناك في الأوراق.. وإسم والدها كان أوليڤر، و أنت تعرف أنني أردت أن أعرف من هو والد إيلي أو أين ذهب، لذا بحثت عنك لأسألك، لم أكن أتوقع أن تخبرني أنها كانت فتاة ل... لا.... لا أريد أن أقولها"
"كان هذا الكلام كما أخبرتك من جاري، لست متأكدا من كلامه.. ربما هو يكذب"
"جارك الذي يعرف أكثر من اللازم نعم، لربما يكون هو والد إيلي، أعني ما المانع"
"لربما كذب الرجل حقا فيما قاله عنها"
قال الغريب بعصبية:
"أنت أبيها.. كيف لك ألا تعرف شيئا كهذا؟!!"
" كانت لدي مشاكل أخرى.. ابني وزوجتي كانا قد ماتا للتو، تبا لها على كل حال.. لقد كانت فتاة قذرة عديمة المشاعر"
"قذرة؟!"
قال أوليڤر بنبرة غضب:
"لم تكترث بشأن أمها ولا بشأن أخيها وتركتني وسافرت، أنا متأكد من أنها لم تذرف دمعة واحدة عليهما حتى، لو كانت تحبهما حقا لكانت قد فعلت مثل الفتيات الأخريات.. لكانت قد بكيت حتى أنهكت نفسها، بدلا من هذا سافرت وتركتني.. كيف لي ألا أصفها بالقذرة بعد كل هذا؟"
"إنه غلطتك! أنت تركتها تهرب، هو خطؤك"
"فلتفق من الصدمة أيها الأحمق.. لقد تركتني بمحض إرادتها، أنا لم أجبرها على ذلك، كما أنني لست جهاز تعقب لكي أكون ملتصقا بها طوال الوقت وأعرف متى ستهرب وأوقفها، لقد اختارت مسارها وغادرت، فقط غادرت"
"أليس من الممكن أنها غادرت لأنها لم ترد أن تجعلك حزينا، أليس من الممكن أنها غادرت لأنها خائفة من نظرتك لها إن عرفت بأنها تحمل طفل غير شرعي، بأنها لم تخبرك بالأمر"
"غلطتها ثم غلطتها.. لا يد لي بالموضوع، هي اختارت هذا الطريق، وعليها تحمل العواقب"
لم يجد الغريب ما يقوله، قد كان يريد حقا الدفاع عنها لكنه عند هذه النقطة لم يجد المزيد من المبررات فآثر الصمت على الاستمرار في جدال عقيم. سأله أوليڤر بعدها:
"ماذا عن إيلي بأي حال؟ ماذا فعلت؟"
"إيلي كانت من النوع المرهف الحس رقيق المشاعر، حينما بلغت العشرين صارحتني بعد تردد أن حبها الطفولي لي قد تحول إلى شيء آخر.. كنت عندها ذلك العشيق الذي لم تستطع يوما الحصول على مثله، بالطبع عنفتها كثيرا ووبختها بشدة، لم أستطع أن أتخيل أنني وفي يوم من الأيام كنت أنظر لأمها نفس النظرة التي تنظرها هي لي، كان الأمر معقدا بعض الشئ، في النهاية خرجت للعمل و حينما عدت للمنزل لم أجدها هناك. ابنة أمها حقا"
"و كيف مت إذن؟"
"مثلك تقريبا، حزنت لذهاب إيلي كثيرا، آخر كلماتي لها كانت قاسية بشكل لا يصدق، بالطبع لم أستطع أن أتعايش مع الأمر وتملكني شعوري بالندم، وكما كنت أنت قبل أن تموت، كنت ثملا أقود سيارتي بسرعة جنونية وأنا أبحث عنها، وحينها ارتطمت بسيارة أخرى، كان الحادث عنيفا لدرجة أنني قد مت بدون أن أشعر حتى، و منذ ذلك الوقت و أنا هائم"
صمتا لفترة من الوقت قبل أن يقول الغريب في تؤدة:
"هل تعتقد أن هناك علاقة؟ قلت أن زوجتك ماتت بمرض خبيث أو شئ من هذا القبيل"
"سرطان الدم نعم"
"ابنتك لم تخبرني قط عن نوع المرض الذي أصابها.. لكن يبدو أنها قد ورثته"
" ماذا عن تلك الجدة التي كنت تحكي عنها.. لماذا تناديها إيلي بالجدة؟"
"كانت ابنتك خائفة و مذعورة و تحتاج لمكان تبيت فيه حينما هربت لأول مرة.. حينها رأتها تلك المرأة العجوز، فأخذتها لمنزلها و ساعدتها"
"و منذ ذلك الوقت أصبحت تعيش معها؟"
"لا, عاشت معها فقط حتى عملت و أصبحت قادرة على شراء منزل لنفسها.. لكن علاقتها بالجدة لم تنقطع أبدا بجميع الأحوال.. أخبرتني الجدة بهذا قبل أن تموت"
" إذن أنت في النهاية لن تعرف من هو والد إيلي أبدا"
"وأنت لن تحظى بعائلة أبداً"
"عالم مجنون!"
هز الغريب رأسه في رضا و اقتناع تامين بدون أن يضيف كلمة أخرى.
تمت

(كان شيئا ما في عقله يخبره بأن كل سيئ يحدث حينما تجد من تحبه، إذ أنهم بطريقة أو بأخرى سوف يتمكنون من إيذائك).....قرأت هاته الجملتين فقلت في نفسي أنك تطبق نظرية الوردة الحمراء حتى في كتاباتك ...وعندما أتممت القصة ففعلاً نظرية الوردة الحمراء..وكالعادة أخي البراء أبدعت وإن لم تخني ذاكرتي فقد رأيت إيلي بمكان آخر .
ردحذفتحياتي الخالصة.
أزيز الصمت.
أهلاً أختى الكريمة أزيز الصمت. عن نظرية الوردة الحمراء، لنقل أن هذا رأي البطل فقط لا غير ههه. أيضاً، أصبتِ، أعتقد اني وضعت هذا الاسم وربما هذه الشخصية ذاتها في مكان ما آخر، لكن لا أتذكر في أي قصة. يجب أن أذكر أن القصة قديمة، وحينما أقول قديمة، أعنيها فعلاً، وكنت قديماً لا أهتم بتكرار أسماء الأبطال في قصصي, والآن أفعل... نوعاً ما.
حذفعلى كل، سعيد بمرورك ودعمك وملاحظاتك المتميزة أختي أزيز الصمت. كل التقدير والاحترام. تحياتي
لم أقصد أنك كررت الإسم ، لكن إيلي نفسها رقصت على صفحات كابوس قديماً
حذف..أليس كذلك ؟ .
والله قصصك هي المتميزة أخي البراء .
أزيز الصمت .
أصبت أختي أزيز.. ذاكرتك جيدة ما شاء الله. أحسدك صراحة ههه تخيفينني.
حذفأشكرك على الإطراء أختي الكريمة.
حذفأضحكني تعليقك أخي البراء، لكن لا أعتقد أن الذاكرة القوية مخيفة، بل ممتعة لمن يحب التفاصيل. شكرًا لكِ على لطفكِ!.
أزيز الصمت .
وأحياناً هي لعنة كذلك. خذي حذرك أختي الكريمك. تحياتي.
حذفأهلا بك أخي الكريم عاصم. أتفق معك أن الحوارات كانت يمكن أن تكون أوضح وأفضل، ورغم أني لا أحب استخدام شماعة القصة قديمة، لكن فعلاً، سأستخدمها هذه المرة، لأننا نتحدث عن سنوات هنا، حتماً قبل العام 2020، لذا أعتذر إن لم تكن القصة بالمستوى المطلوب. الفكرة بالنسبة لي بررت نشرها، لأني لازلت أراها جيدة على الأقل. الفكرة ببساطة عن شبحين يتحدثان في مترو... هذا فقط. أحدهما هربت ابنته المراهقة، والآخر قابلها وأحبها، لكنها ماتت وتركت له ابنتها التي رباها حتى كبرت، ويكتشف القارئ كل ذلك بين السطور.
ردحذفثم لا ألغاز ولا مشقة هنا، اقرأ ببطء وانتبه للأقواس، تفهم ببساطة. كانت لي قصة اسمها "الساعة"... أتساءل إن قرأتها ماذا ستقول ههه... كانت أعقد في الفكرة، تتحدث عن الزمن ومعضلة الجد وتأثير الفراشة إلخ إلخ، كل هذا بالإضافة لمعركة الحوارات التي لم تعجبك، على كل، لا تقلق، هذه لن أنشرها ههه
أشكرك على مرورك وصدقك أخي عاصم. آمل أن يعجبك القادم أكثر. تحياتي.
asemبالعكس .كل قصصك تبهرني اقولها صادقا . قصدت انها عسيره لمن هم دون النبوغ الادبي او ربما البصري هههه . الان اثرت فضولي للساعه . فربما لو تيسر لك نشرها هنا يوما ما مع وعد بشرح بعض ما يصعب منها .
ردحذفثق في أخي المحترم عاصم، لو نشرت الساعة هنا في يوم من الأيام، فلن أتركها إلا ومعها تعليق أو مسودة توضح الحبكة ههه لأنني أنا نفسي أحياناً حينما أفكر في حبكتها، لا أفهمها ههه
حذفأشكرك على الكلام الطيب أيها الرجل الطيب، كلام أضعه تاج فوق رأسي. خالص مودتي وتحياتي.