جَرِيدَةُ الْغَدْ







 بقلم :براء الشافعي & أزيز الصمت .

استدار ببطء، كمن يواجه قدرًا محتومًا، وعيناه التقتا بعينيها...ابتلع مرارته وهو يحدق في ملامحها، يبحث عن أثر، عن شرخ، عن ذنب، لكنه لم يجد شيئًا… فقط امرأة اختارت موقعها منذ البداية.


كان شيئاً غريباً. يد عملاقة بأظافر طويلة تسوقه سوق مجرمي السجون. زنزانة في الشارع تحت الشمس، وخطوات غير محسوبة. في مرات عديدة، سأل نفسه ذات السؤال، مرات أكثر من أن يتذكرها، لماذا يمشي دائماً في ذلك الشارع؟ لماذا ينظر دائماً إلى بائع الجرائد؟ ولماذا يشعر بألفة وجهه؟ هل قابله في الماضي؟ هل جمعهما زفاف ما؟ عزاء ما؟ شارع ما؟

زفر بقوة وقد أدرك أن هذه المرة غير كل المرات. هذه المرة سيذهب له مباشرة، وسيسأله بصراحة.

في الخطوات البسيطة التي تفصله عن البائع الساكن، راح يفكر في كيفية بدء الحديث، غير أن الطريق لم يسعفه، وأدرك هذا حينما انتبه فجأة أنه يقف أمام الكهل بارد النظرات. هيئة لا توحي ببائع جرائد يتخذ من الرصيف مفرشاً لبضاعته. يكاد يجزم أنه كان ثرياً يوماً ما، صاحب مصنع ما ولديه قدر لا بأس به من المال. يتزوج امرأة فتلاعبه وتسرق أمواله، قبل أن تتركه على الرصيف ترك القطط الضالة، مما يضطره إلى مزاولة هذه المهنة البسيطة. ذاك ما تبدو عليه الأمور من منظوره.

- مرحباً يا خال. 

يناظره الرجل دون روح:

- مرحباً، أمر؟ خدمة؟

- كنت أتساءل، هل تعرفني؟. 

ينظر له البائع الكهل دون نطق وقد بدا أنه يتفحص وجه السائل. يعاود أكرم الكلام:

- أمر من هنا يومياً كل صباح، وأجدك في ذات البقعة.

يشير إلى نهاية الشارع المكتظ بالسيارات والضوضاء البعيدة، ويكمل:

- أعمل في هذا المبنى العملاق. شركة لايت الصناعية.

يهز البائع رأسه وقد راح ينظر إلى أكرم:

- لا أعرفك يا أخي. 

- لكن وجهك يبدو مألو... 

- لا أعرفك يا أخي. 

يهمهم أكرم وقد امتدت يده إلى جيبه، فيخرج منه ورقة نقدية يناولها للكهل:

- أعطني شيئاً أقرأه. 

يأخذها الكهل منه سائلاً:

- ماذا تريد؟

- أي شيء يفيدني. 

- إلى أي مدى؟

- أكبر إفادة ممكنة. 

- جريدة غداً إذن. 

- نعم أي شيء تراه مناسباً. 

يمد الكهل يده في صندوق خشبي أسود اللون. ثم دون أن ينظر داخله، يُخرج منها جريدة يسلمها لأكرم الذي يتلقفها منه شاكراً. يقول وهو يهم بالابتعاد:

- شكراً. احتفظ بالباق. 

- لا يوجد باق، الغد باهظ الثمن. 

يبتسم أكرم وقد عدها مزحة من البائع. 


…. 


- هل أنهيتم أوراق الاكتتاب؟

- نعم. يمكننا طرح الأسهم اليوم لو أراد المجلس ذلك. 

- جيد. 

يقولها محدث أكرم، ثم ينصرف عنه بوقاره المعتاد. يراقبه أكرم حتى اختفائه، قبل أن يفتح درج مكتبه ليخرج منه جريدة "الغد" تلك التي أعطاهياها الكهل. جريدة اعتيادية لا شيء مميز بها. غير أن اسمها جريدة "الجماعة" وليس الغد كما قال الكهل. يهم بقراءة العناوين الرئيسية. 

- أكرم. 

يأتيه صوت زميله من خلفه، فيهمهم دون كلام لانشغاله بالجريدة. 

- لماذا لا يعمل معنا ذلك العجل؟

- من؟ هيثم؟

- ومن غيره! يأتي ليسألك بكل بساطة عما إذا كنا انتهينا من الأوراق، بينما هو ومؤخرته السمينة لا يفعلان شيئاً للشركة!

- عماد.. هل حقاً تسألني عن رئيس القسم القانوني للشركة! الرؤساء لا يعملون يا صاحبي، ظننتك ذكياً بما فيه الكفاية لتعلم هذا. 

- وأنت رئيسي لكنك تعمل معي. 

- قد أكون مختلفاً، أو قد أكون أنتظر ترقية، ألا تظن هذا؟

يزفر عماد بحنق. ثوان تمر قبل أن يسأله أكرم وهو لا يزال يدفن رأسه بين أوراق الجريدة:

- العرض الأول لفيلم الناقة والجمل تخطى العشرة ملايين، تخيل! 

يرد زميل آخر كان يتابعهما في مكتب العمل المفتوح:

- العرض الأول اليوم، ألم تخبرني بهذا يا عماد؟

- حقاً؟ مكتوب هنا أنه كان البارحة. 

- أنا متأكد من أنه اليوم لأني أخطط لدخوله مع خطيبتي. 

بدا عماد حالماً متشوقاً وهو يقولها. يتمتم أكرم وهو يقلّب صفحات الجريدة:

- سافل! 

ثوان ثم ينتفض واقفاً وهو يمسك بالجريدة أمام عينيه. اتسعت عيناه حد الجحوظ. أمامه كان يقرأ الخبر المُعنوَن ب"حادث حافلة في المرج يروح ضحيته عدة موظفين  لشركة لايت" 

- لماذا لم نسمع بهذا! 

- بماذا؟

يمسك أكرم بالجريدة أمام عيني عماد الذي راح يقرأ ما بها باستغراب. ثوان ثم قال:

- لا لا... أكيد جريدة بتاريخ قديم. 

ثم راح يبحث أعلاها عن التاريخ، حتى سحبها أكرم من أمامه ليبحث هو بنفسه. لم يستوعب حينما رأى أنها بتاريخ الغد، وليس اليوم. يسأل بصوت متحشرج:

- التاسع من سبتمبر.. هذا هو تاريخ اليوم.. أليس كذلك؟

- نعم. 

- مكتوب أمامي هنا أنها بتاريخ العاشر من سبتمبر. 

للحظات، ظل عماد ينظر لأكرم، وكأنه يستشف المزح من الجد خلال عينيه، ولما لم يجد هزلاً قام ليقرأ الجريدة بنفسه. أخذ نفساً عميقاً حين علم أن أكرم ليس بكاذب. 


…. 



رمقه الكهل بحذر. لم يبد أن شاب البارحة الذي اشترى منه جريدة "اليوم" قد أتى ليلقي عليا النكات. الشرز في العينين. الجبين المقطب. الأنفاس الثقيلة والعرق الغزير. يسمع صوت أكرم الحاد المتوعد:

- مكابح الحافلة كانت معطلة. 

- أي حافلة؟

- هيا.. هيا.. دعنا لا نمزح!

يشير أكرم للكهل ويكمل: 

- هذا أنت الذي أعطيتني الصحيفة البارحة. 

- قلت لي أعطني أكبر استفادة ممكنة، ظننت وقتها أن جريدة اليوم ستفيدك. 

يقول أكرم وقد راحت أطياف الذكرى تهوم حول رأسه:

- وهذا شيء آخر! الجريدة اسمها الجماعة وليس الغد أو اليوم. 

- جريدة الغد تعني جريدة غداً. 

يبتلع أكرم لعابه وقد بدأ يفهم ما يحدث: 

- وماذا لديك من جرائد مستقبلية؟

- أي شيء

- بأي تاريخ؟

- التاريخ الذي تريده. 

- لا تلاعبني! 

ينظر له البائع بثقة:

- لا تبدو لي غبياً حتى ألاعبك. 

- إذن أعطني جريدة لعام 3000 م. 

يبتسم الكهل وهو يمد يده في ذات الصندوق الخشبي الأسود:

- "الجماعة" سيوبخونني لهذا. 

- أصحاب الجريدة؟ من هم؟! 

يرد الكهل وهو يخرج يده من الصندوق بجريدة سوداء الورق، وحبرها أبيض:

- ذاك لا يخصك، وتلك جريدتك. 

يستلمها أكرم منه بحذر:

- والثمن. 

- تلك باهظة حقاً... ستدفع من عمرك. 

- ماذا؟

- كما سمعت. 

- كم سأدفع من عمري؟

- يوم. 

- يوم؟

- ثمن بخس.. صحيح؟

- اسمع... لا أعرف كيف ستتم عملية الدفع هذه، لكن شكراً سأحافظ بعمري كما هو. أريد الدفع بطريقة أخرى. 

- لا يوجد. 

- إذن أعطني جريدة غداً. 

- غير متاح. 

- ماذا تعني؟

- لم تُكتب بعد. 

- ماذا تعني؟ كتبوا جريدة العام 3000م ولم يكتبوا جريدة الغد بعد؟

- لأن الغد قد تغير. 

رمقه أكرم برعب وقد دارت برأسه فكرة:

- ماذا تعني؟


عندما سأل أكرم الكهل عن الجماعة، لم يجب مباشرة، بل راح يجمع الصحف المتناثرة على طاولته الخشبية المتهالكة. كان الأمر أشبه بطقس معتاد، وكأنه لم يكن قلقًا من فضول أكرم، بل كان ينتظر اللحظة المناسبة للمغادرة.


رفع الكهل الصندوق الخشبي الأسود بسهولة غريبة، رغم حجمه ووضوح ثقل محتوياته. أكرم، الذي لاحظ كل شيء، تراجع خطوة إلى الوراء وهو يراقب الكهل يسند الصندوق إلى صدره وكأنه لا يزن شيئًا على الإطلاق.


"كيف تستطيع حمله بهذه السهولة؟!" سأل أكرم، بينما كانت عيناه تحدقان في الصندوق وكأنه شيء غير طبيعي.



ابتسم الكهل أخيرًا، تلك الابتسامة التي لم يعرف أكرم إن كانت ودودة أم ساخرة، ثم قال بصوت خافت:


"الأشياء لا تزن شيئًا عندما لا تنتمي إلى هذا المكان."



ثم استدار ببطء، وكأنه لم يعد يرى أكرم، وكأن المحادثة بينهما لم تحدث من الأساس. مشى بخطوات ثابتة، تاركًا أكرم واقفًا في منتصف الزقاق المظلم، بينما كان شعور غريب بالرهبة يزحف إلى داخله.


لكن قبل أن يختفي الكهل تمامًا عن ناظريه، توقف فجأة وقال دون أن يستدير:


"لا تحاول البحث عن إجابات، أكرم... أحيانًا، مجرد طرح الأسئلة هو بداية النهاية."



وفي لحظة خاطفة، بدا وكأن الصندوق ابتلع الكهل نفسه، أو ربما العكس... ففي غمضة عين، لم يكن هناك أثر لأي منهما. لا خطوات على الأرض، لا صدى لصوت، لا شيء سوى الصحيفة السوداء في يد أكرم... والتي لم تكن هناك قبل لحظات.


أكرم، الذي كان لا يزال واقفًا وسط الزقاق الضيق، شعر برجفة تسري في عموده الفقري وهو يحدق في الصحيفة التي ظهرت في يده. كانت صحيفة سوداءًا تمامًا،  بأوراق سوداء وحبر أبيض، ليست مجرد صحيفة مألوفة... لكن شيئًا جعل قلبه ينبض بعنف.


تاريخ الصحيفة... كان ليوم الغد.


شعر بضيق في صدره وهو يرمش مرتين، متأكدًا من أنه يرى خطأ ما، لكن لا... التاريخ واضح. صحيفة الغد.


رفع رأسه سريعًا إلى حيث اختفى الكهل، ثم عاد ببصره إلى الصحيفة مجددًا.


لكن كيف؟! ألم يقل الكهل منذ لحظات إن صحيفة الغد لم تُكتب بعد؟ "لأن الغد قد تغير."


إذن كيف أصبحت الصحيفة بين يديه الآن؟!


تسارعت أنفاسه وهو يحاول استيعاب ما يحدث، لكن فجأة، تسلل إلى عقله سؤال أكثر رعبًا، سؤال كان يجب أن يخطر بباله منذ البداية...


كيف عرف الكهل اسمه؟


هو لم يخبره به أبدًا. لم يقل له "أنا أكرم"، لم يعرّف نفسه بأي شكل، ومع ذلك، ناداه الكهل باسمه بكل بساطة، وكأن الأمر بديهي، وكأنه...


وكأنه كان يعرفه منذ زمن.


عادت صورة الصندوق الأسود إلى ذهنه، ذلك الصندوق الذي حمله الكهل بسهولة غير طبيعية، وكأن وزنه لا يعني له شيئًا.


هل كان الصندوق مجرد وعاء للصحف؟ أم أنه يحمل شيئًا أكثر غموضًا؟


شعر أكرم بقشعريرة تسري في جسده، وأدرك أنه عالق في شيء لا يفهمه بعد... لكن الوقت لم يعد يسمح له بالتراجع.


لم يكن أمامه سوى خيار واحد الآن: أن يقرأ الصحيفة... ويرى ما يخبئه له الغد.



شعر أكرم بالبرد أكثر مما ينبغي. ربما كان الجو باردًا فعلًا، أو ربما كان ذلك الشعور الغريب الذي تسلل إلى عظامه بعد اختفاء الكهل. وقف للحظة في منتصف الزقاق، يحدق في اللاشيء، قبل أن يضم الصحيفة بين أصابعه ويتحرك.


خطواته كانت بطيئة... مثقلة بشيء لم يفهمه بعد. بدا له أن الشارع أضيق مما كان عليه قبل قليل، أو ربما هذا مجرد وهم، كالوهم الذي جعله يظن أن لقاءه بالكهل كان طبيعيًا. لكن لا، لم يكن طبيعيًا أبدًا.


خرج من الزقاق إلى الطريق العام، حيث السيارات القليلة تمر متثاقلة تحت أضواء المصابيح الشاحبة، والمارة يمضون في حياتهم دون أن يدروا أنه يقف هناك، ممسكًا بصحيفة لا ينبغي أن تكون موجودة.


كيف عرف الكهل اسمه؟

كيف أمسك صحيفة الغد بينما قيل له إن الغد لم يُكتب بعد؟

ولماذا شعر، للحظة خاطفة، أن الكهل لم يكن مجرد بائع جرائد؟


رفع يده إلى رأسه في محاولة لتبديد هذا الدوار الذي بدأ يزحف إليه، ثم أدرك أن قدميه تتحركان تلقائيًا، تأخذه إلى حيث اعتاد العودة كل ليلة... منزله المتواضع.


كان يسكن في شقة صغيرة على أطراف المدينة، مبنى قديم ذو سلالم متآكلة وجدران رمادية شاحبة، بالكاد تضيئه مصابيح خافتة تتذبذب أحيانًا. صعد الدرجات ببطء، يشعر أن جسده أثقل مما ينبغي، حتى وصل إلى بابه الصغير.


أخرج المفتاح، أدخله في القفل، وأداره... لكن أصابعه كانت متوترة.


دفع الباب ببطء، دلف إلى الداخل، وأغلقه خلفه، ثم أسند ظهره إليه وأغمض عينيه للحظة، محاولًا استيعاب ما حدث.

 

في البداية، لم يكن أكرم يعلم أن حياته ستنقلب رأسًا على عقب بسبب مجرد جريدة. حين قرأ عن حادثة انقلاب الحافلة، شعر بوخزة انزعاج. حادث مأساوي آخر يُضاف إلى سلسلة الكوارث اليومية التي تمتلئ بها الصحف. شخصان من شركته لقيا حتفهما… مؤسف، لكنه لم يكن يعرفهما جيدًا فهما لم يكونا من نفس قسمه. 

لكن عيناه كانتا تتوقان إلى شيء واحد...


الصحيفة.


بيدين متردّدتين، فردها أخيرًا على الطاولة الصغيرة وسط الغرفة، وجلس أمامها، يحدّق في الصفحة الأولى.


كانت صحيفة عادية تمامًا، لا شيء غريب فيها... سوى أنها تحمل تاريخ الغد.



تردّد أكرم للحظة قبل أن يمدّ يده إلى الصحيفة. كان عقله يقاوم، يخبره أن هذا كله غير منطقي، أن عليه إغلاقها وإلقاءها في أقرب سلة مهملات ونسيان ما حدث. لكن أصابعه، كأنها منفصلة عن إرادته، التقطت الورق، وقلبت الصفحة الأولى.


أول ما وقعت عليه عيناه كان العنوان الرئيسي بخط عريض:


"حادثة مأساوية تهزّ المدينة: وفاة عائلة الوالي إثر تسرب غاز في منزلهم الفخم!"


شعر أكرم ببرودة زحفت عبر جلده، فتراجع قليلًا فوق كرسيه، لكن عينيه ظلّتا معلّقتين بالحروف البيضاء التي صارت أثقل من أي وقت مضى.


"في حادث مأساوي لم تشهد المدينة مثله من قبل، لقيت عائلة السيد الوالي حتفها بعد تسرب غاز قاتل في قصرهم الواقع في حيّ النخبة. الضحايا هم زوجته السيدة سمية، أبناؤه الثلاثة، ووالدته المسنّة، حيث عُثر عليهم جثثًا هامدة بعد أن تسلل الغاز إلى الغرف أثناء نومهم. في الوقت ذاته، نجا السيد الوالي من المصير ذاته لأنه كان يعمل في مكتبته الخاصة التي تقع في الجناح الخلفي للقصر، والتي لم يصل إليها التسرب."


رفع أكرم يده إلى فمه، يشعر بأن أنفاسه قد اختنقت في صدره. الوالي... زوجته، أبناؤه، والدته... كلهم ماتوا؟


واصل قراءة السطور التالية:


"صُدم سكان المدينة جميعًا بهذا الحدث الجلل، وبدت مظاهر الحزن واضحة في كل الأرجاء. أغلقت المحال التجارية أبوابها حدادًا، وأُعلن الحداد الرسمي في المؤسسات الحكومية، بينما تجمهر المواطنون أمام قصر الوالي في صمت مهيب، غير مصدّقين أن عائلة الرجل الأول في المدينة قد اختفت بين ليلة وضحاها."


كل المدينة... تعيسة؟


شعر أكرم بوخزة غريبة في قلبه، كأن شيئًا ما في هذا الخبر غير منطقي، غير عادل... غير متوقع!


هذه الجريدة... هل يمكن أن تكون مزحة؟ خدعة؟ لكن لا، الصحيفة بين يديه حقيقية، ملمس الورق مألوف، رائحة الحبر جديدة.


لكن هذا لم يحدث بعد...


هذا غدٌ لم يأتِ بعد!


رفع رأسه فجأة، يشعر بوخزة في معدته، كأن العالم من حوله لم يعد كما كان. وضع الصحيفة على الطاولة، ونظر إلى ساعته. كان الوقت متأخرًا، لكنه لم يعد واثقًا... هل تأخر الوقت فعلًا، أم أن الزمن قد بدأ يلعب لعبته معه؟



رفع أكرم الصحيفة من جديد، يحدق في الكلمات وكأنه يحاول العثور على ثغرة، على خطأ، على شيء يخبره أن كل هذا مجرد كذبة. لكن لا... الكلمات واضحة، لا لبس فيها، لا خدعة، لا مزحة.


عائلة الوالي ستموت غدًا.


أحس بحرارة تتصاعد في رأسه، وضغط غريب يتكاثف خلف عينيه. هذا جنون! لا يمكن أن يذهب إلى هناك، يقرع باب القصر في منتصف الليل، ويقول لهم: "مرحبًا، لقد قرأت في جريدة الغد أنكم ستموتون بسبب تسرب غاز، عليكم مغادرة المنزل فورًا!"


من سيصدقه؟


من سيؤمن بكلامه؟


لا أحد... بل الأسوأ، قد يعتبرونه مختلًا، وربما ينتهي به الأمر في تحقيق أمني، أو في مصحة عقلية.


لكن... ماذا لو كان الخبر صحيحًا؟ ماذا لو استيقظ صباح الغد على صدمة المدينة، على وجوه الناس الكئيبة، على نشرات الأخبار تتحدث عن الفاجعة التي "كان يعرفها مسبقًا"؟


هل يستطيع أن يتحمل الشعور بالذنب حينها؟


نهض فجأة، وراح يذرع الغرفة ذهابًا وإيابًا، يضغط بأصابعه على صدغيه كأنه يحاول كبح الأفكار التي تتلاطم في رأسه. عليه أن يذهب... عليه أن يحذرهم!


لكنه لم يتحرك.


نظر إلى الباب، لكنه لم يقترب منه.


لأنه لم يكن واثقًا.


لأنه حتى الآن، لم يكن يصدق الصحيفة تصديقًا مطلقًا.


وماذا إن كانت مجرد خدعة؟ مجرد مصادفة؟


لا، عليه أن يكون عقلانيًا، عليه أن يهدأ. سيبقى في منزله، سينتظر... وسيرى بعينيه إن كان ما كُتب في الصحيفة سيتحقق أم لا.


إن كانت الجريدة صادقة، فهذا يعني أنه يمتلك شيئًا خطيرًا... شيئًا لا يجب أن يقع في الأيدي الخطأ.


كان جسده متعبًا، لكن عقله ظل مستيقظًا، يدور حول نفسه كدائرة لا نهاية لها. كلما أغلق عينيه، قفزت أمامه عناوين الصحيفة، وجوه الضحايا الذين لم يموتوا بعد، إحساس ثقيل بالخطر لا يعرف كيف يواجهه.


بقي جالسًا في مكانه، ينظر إلى الجريدة فوق الطاولة، مترددًا بين تمزيقها أو التمسك بها كدليل على أنه لم يفقد عقله.


لا يدري متى غرق في النوم... لكنه نام.


وعندما استيقظ، لم يكن استيقاظًا طبيعيًا.


شهقة عنيفة قطعت أنفاسه، وكأن أحدًا انتشله من قاع حلم ثقيل. جلس فورًا، قلبه يضرب صدره بجنون، العرق يتصبب من جبينه رغم أن الجو بارد. نظر حوله مرتبكًا... الضوء الرمادي للفجر كان يتسلل عبر النافذة، والمدينة ما زالت نائمة.


لكن إحساسًا غريبًا كان يزحف في صدره... إحساس مخيف، ثقيل.


امتدت يده بتوتر نحو الهاتف، يده مرتعشة وهو يفتحه، يدخل إلى الأخبار العاجلة، وعندها تجمّد تمامًا.


العنوان الأول أمامه بنفس الكلمات التي قرأها بالأمس:


"حادثة مأساوية تهزّ المدينة: وفاة عائلة الوالي إثر تسرب غاز في منزلهم الفخم!"


فتح الخبر بسرعة، عيناه تتسابقان مع الكلمات، قلبه يطرق كطبول الحرب. نفس التفاصيل. نفس الأسماء. نفس الصدمة. المدينة كلها غارقة في الحداد، الناس يبكون أمام قصر الوالي، الأعلام منكّسة، الشوارع شبه خالية.


لقد حدث الأمر فعلًا.


الصحيفة كانت صادقة.


جسد أكرم ارتجف لا إراديًا، وانزلقت الجريدة التي تركها على الطاولة بالأمس إلى الأرض، كأنها تؤكد له أنها كانت الحقيقة طوال الوقت.


لقد كان يعرف، ولم يفعل شيئًا.


ارتجفت أصابعه وهو يمرر الهاتف ببطء بين يديه. هناك شيء رهيب يحدث... شيء خارج عن المنطق.


وهو الآن في قلبه.



أمسك أكرم بالجريدة بيد مرتجفة، حدق فيها للحظات، ثم دفع نفسه للوقوف. لم يكن يستطيع البقاء هنا، بين هذه الجدران التي تخنقه، وهو يعلم أن شيئًا بهذا الحجم قد حدث فعلًا. عليه أن يرى بعينيه.


رمى معطفه على كتفيه على عجل، وخرج إلى الشارع بخطوات سريعة، الصحيفة مطوية في يده كأنها سر خطير يحمله وحده. وقف عند الرصيف ولوّح لسيارة أجرة، فاستجابت إحدى السيارات وتوقفت أمامه.


فتح الباب بسرعة وانحنى إلى الداخل، قال بصوت مضطرب:

"خذني إلى قصر الوالي."


نظر إليه السائق عبر المرآة، رفع حاجبه باستغراب، لكنه لم يسأل، فقط أومأ برأسه وأدار العجلات.


لكن النظرة في عينيه قالت كل شيء.


كان يتفحصه، من فوق إلى تحت، كما لو أنه يحاول أن يحدد ماهيته. لم يكن من الغريب أن يطلب أحدهم الذهاب إلى هناك اليوم، فالمدينة كلها تتحدث عن المأساة، لكن في هذه الساعة المبكرة؟ بهذه النظرة المضطربة؟ بهذه الجريدة التي يمسكها وكأنها قطعة نار؟


أكرم شعر بالنظرة لكنه لم يلتفت.


كان ينظر عبر النافذة، يحاول أن يهدئ أنفاسه، لكن قلبه لم يكن يستجيب. المشاهد خارج السيارة كانت سريعة، لكنه كان يلاحظها... الشوارع خالية أكثر من المعتاد، المحال لم تفتح بعد، بعض الناس يقفون في تجمعات صغيرة يتحدثون بهمس.


السائق شغل الراديو، وكان صوت المذيع يخرج بنبرة حزينة، يؤكد الخبر، يعدد أسماء الضحايا، يذكر ردود أفعال الشخصيات المهمة، ويتحدث عن جنازة رسمية مرتقبة.


كأن صوت المذيع يضرب رأس أكرم بمطرقة.


السائق تنحنح أخيرًا وسأله بنبرة حذرة:

"كنت تعرفهم؟"


تردد أكرم، لم يكن يعرف ماذا يقول، لكنه اكتفى بهز رأسه نفيًا.


ظل السائق يراقبه للحظات أخرى، ثم أعاد تركيزه على الطريق، لكن أكرم لم يغب عنه إحساسه... ذلك الإحساس بأن نظرات الرجل تقول: "أنت تخفي شيئًا."


عندما اقتربت سيارة الأجرة من قصر الوالي، بدأ المشهد يتضح شيئًا فشيئًا.


على بُعد أمتار من القصر، تجمعت سيارات الشرطة والإسعاف، وأضواء الطوارئ تومض بلونها الأزرق والأحمر، تلقي بظلالها الغامضة على الجدران المحيطة.


كان هناك شريط أصفر مشدود عبر المدخل الرئيسي، وعدد من الضباط ينتشرون عند البوابة، يمنعون الفضوليين من الاقتراب.


وقف أكرم جامدًا، يحدق بالمشهد وكأنه يرى صورة مأخوذة من خبر قرأه مسبقًا. لأنه فعل ذلك بالفعل.


السائق أبطأ السيارة عند الرصيف ونظر إليه مجددًا عبر المرآة، هذه المرة بتلك النظرة التي لا تخطئها العين، نظرة الشك.


"هذا أقرب ما أستطيع التوقف عنده،" قال بنبرة حيادية، لكنه لم يحاول إخفاء الفضول الذي كان يقطر من صوته.


أكرم لم يرد. دفع أجرة التاكسي بسرعة، وخرج وهو يشعر أن قدميه ثقيلتان على الأرض.


وقف هناك للحظة، يحمل الصحيفة بين يديه وكأنها دليل جريمة، وعيناه تتجولان في كل زاوية من المشهد.


رجال الشرطة يتحدثون عبر اللاسلكي، أحدهم يدون الملاحظات، وآخر يتحدث إلى مسؤول أمني يبدو عليه الإرهاق.


على الجهة الأخرى، بعض الصحفيين يحاولون الحصول على سبق صحفي، وجيران القصر يقفون في مجموعات صغيرة، يتهامسون بصدمة وأعينهم تراقب النوافذ المظلمة للقصر، حيث كانت العائلة تعيش... والآن، لم يعد أحد هناك.


أكرم بلع ريقه.


كل شيء حدث بالفعل.


الخبر كان حقيقيًا.


لكنه لم يعرف... هل هذا يعني أن كل الأخبار التي في الصحيفة ستتحقق أيضًا؟


شعر بقشعريرة تتسلل إلى عموده الفقري، لكنه أجبر نفسه على التحرك. عليه أن يقترب أكثر، عليه أن يفهم...


وسط الحشود وأضواء الطوارئ، ظهر الوالي.


كان منهارًا تمامًا.


رجل في منتصف الخمسينات، شعره مشعث، وجهه شاحب كالميت، عيناه متورمتان من البكاء. كان يرتدي معطفًا منزليًا فوق بيجامته، وكأنه لم يبدّل ملابسه منذ وقوع الكارثة.


كان يترنح وهو يسير، لا يكاد يستطيع الوقوف دون دعم، وشرطيان يمسكان بذراعيه، يساعدانه على البقاء متماسكًا.


لكنه لم يكن متماسكًا أبدًا.


عندما اقترب أكثر، بدأ صوته يعلو، لم يكن واضحًا تمامًا، لكن كلماته كانت ممزوجة بالغضب والضياع:


"أريد أن أراهم! دعوني أراهم! لا تقولوا إنهم رحلوا... لااا!"


لكنه كان يعرف أنهم رحلوا. الجميع كان يعرف ذلك.


أكرم تجمد في مكانه.


كل شيء حدث كما في الصحيفة. نفس التفاصيل، نفس الألم، نفس النهاية.


والآن، وهو يرى هذا الرجل المكسور أمامه، شعر بشيء أشبه بطعنة باردة في صدره.


كان يستطيع منع هذا.


لقد عرف مسبقًا، عرف بالحادث قبل وقوعه، لكنه لم يفعل شيئًا.


وقف هناك، مرتجفًا، يراقب الوالي الذي ضاعت حياته في لحظة، ويحاول أن يقنع نفسه أنه لم يكن بوسعه شيء.


لكن هل هذا صحيح؟


ألم يكن يستطيع، على الأقل، أن يحذرهم؟ أن يقول أي شيء؟


لكن كيف؟ من كان سيصدقه؟


بل هل كان هو نفسه يصدق؟


إنها جريدة تحمل أخبار المستقبل، هذا جنون.


لكنه ليس جنونًا، ليس بعد الآن.


لأنها تحققت.


والآن، تأخر الوقت.


شعر أكرم أن كل الأصوات حوله تلاشت، لم يبقَ سوى أنفاسه المضطربة، ونظره العالق على الوالي المنهار.


لقد كان جزءًا من هذه الجريمة، حتى وإن لم يكن الجاني.


تحرك أكرم بسرعة، وكأن قدمَيه تعملان وحدَهما.


لم يفكر، لم يحاول حتى أن يفكر. كان كل ما في رأسه صورة الوالي المنهار، والشك الذي بدأ ينهش عقله. لابد أن ذلك الكهل يخفي شيئًا. لابد أن لهذه الجرائد سرًا أعمق مما بدا عليه الأمر.


اندفع إلى السوق، متجاوزًا الحشود، يتنفس بصعوبة بينما تتراقص الأسئلة في رأسه. هل هذا كان مصادفة؟ أم أن الأمر مخطط له؟ ومن هؤلاء الذين سماهم "الجماعة"؟


وأخيرًا، عندما اقترب من الزقاق الذي التقى فيه بالبائع، رأى الصندوق الخشبي الأسود موضوعًا فوق الطاولة.


لكن هناك شخصًا آخر كان واقفًا أمام الكهل.


شاب، في منتصف العشرينات، ملامحه شاحبة ووجهه مذعور... نفس الذعر الذي كان يعتصر وجه أكرم نفسه قبل ساعات.


كان يتحدث بصوت مضطرب، يداه تتحركان بتوتر، ثم فجأة، بمجرد أن وقع بصره على أكرم، تسمرت عيناه واتسعتا برعب.


ثم استدار وهرب!


أكرم لم يفهم، لكنه لم يهتم به الآن. ركّز على الكهل الذي كان يحدق فيه بعينين هادئتين، كما لو أنه كان يتوقع عودته.


اندفع نحوه وأمسك بياقة سترته الخشنة، يهزّه بغضب:

"ما هذه الجرائد بحق الجحيم؟! ما الذي تخفونه؟!"


لكن الكهل لم يرتبك، لم يتغير تعبيره، لم تظهر عليه أي علامات خوف أو تفاجؤ.


بل ابتسم... ابتسامة غامضة، هادئة، وكأن شيئًا لم يحدث.


وقال بصوت منخفض، لكنه كافٍ ليجعل القشعريرة تزحف على جسد أكرم:

"ألم أقل لك إن الغد قد تغيّر؟"


قبض أكرم على ياقة الكهل بقوة أكبر، حتى كاد يرفع قدميه عن الأرض، وهتف بصوتٍ مختنق بين الغضب والارتباك:


"ماذا تعني بأن الغد قد تغيّر؟!"


لكن الكهل لم يحاول حتى إبعاده، بل ظل يحدّق فيه بتلك الابتسامة الغامضة، وكأنه يستمتع بفوضى أفكاره.


ثم، بهدوء مريب، قال بصوت منخفض:

"أقصد أن ما هو مكتوب... سيحدث. دائمًا."


ارتعش قلب أكرم.


"لكن… لكنني علمت بالأمر مسبقًا! رأيت الخبر قبل وقوعه! لماذا لم أستطع تغييره؟!"


تنهد الكهل بصبر وكأنه يشرح أمرًا بديهيًا:

"لأنك لا تستطيع. لا أحد يستطيع."


شعر أكرم بدمه يغلي. "لكنني لو أخبرتهم—"


قاطعه الكهل بحدة هذه المرة، وعيناه السوداوان اشتد بريقهما:

"بل كنت ستجد الخبر مكتوبًا بطريقة أخرى، وفي النهاية، كانت العائلة ستموت. لا يمكنك الهروب من الخطوط التي رُسمت مسبقًا."


تراجع أكرم قليلًا، وكأن الكلمات صفعته.


"ماذا تعني بالخطوط؟"


"المستقبل مسطّر يا بني،" قال الكهل وهو يشير إلى الصندوق الخشبي، "وأنت مجرد قارئ، لا كاتب."


شعر أكرم بالغثيان.


"إذًا... لماذا تعطيني الجرائد؟ ما الفائدة من معرفتي إن لم يكن بإمكاني تغيير أي شيء؟"


ابتسم الكهل، تلك الابتسامة الباردة التي جعلت قلب أكرم ينقبض.


"أنا لا أغيّر المستقبل، ولا أساعد أحدًا... كل ما أفعله هو إعطاؤك الأخبار قبل وقوعها، حسب التاريخ الذي تطلبه."


تصلّب أكرم.


كان هذا أسوأ جواب ممكن.


نظر أكرم إلى الصندوق الخشبي الأسود، إلى الصحف المطوية بعناية داخله، وكأنها تحمل كل أسرار العالم بين صفحاتها.


إذا لم يستطع تغيير ما هو مكتوب، فربما على الأقل يمكنه معرفة المزيد… يمكنه الاستعداد.


تصلبت نظراته، وحدّق في الكهل بعزم وقال بصوت ثابت:

"أريد ثلاث جرائد. للأيام الثلاثة القادمة."


لم يتحرك الكهل. لم يبدُ عليه الدهشة أو الرفض المباشر، لكنه رمقه بنظرة طويلة وكأنه يقيّمه. ثم قال ببطء:

"أنت مهتمٌّ بأشياء... لا تعنيك."


أكرم زم شفتيه بإصرار. "هذا ليس من شأنك. أعطني الجرائد."


ابتسم الكهل، لكن هذه المرة كانت ابتسامته مختلفة. باردة أكثر، غامضة أكثر، بل مخيفة.


"كان من المفترض أنك هربت،" قال بصوت منخفض، كمن يحدّث نفسه، قبل أن يضيف:

"لكنك عدت."


شعر أكرم بقشعريرة زحفت على جسده.


ما الذي يعنيه بهذا؟ ومن الذي كان من المفترض أن يهرب؟


لكن قبل أن يتمكن من السؤال، تحركت يد الكهل ببطء إلى داخل الصندوق.


خرج أكرم من عند الكهل وهو يقبض على الصحف الثلاث كما لو كانت كنزًا ثمينًا، أو ربما لعنة لا فكاك منها.


كان يشعر أن أنفاسه لا تتناغم مع خطواته، وأن قلبه ينبض في غير موضعه. لم يكن يعرف إلى أين يذهب، لكنه وجد نفسه يسير في الطريق المعتاد… إلى العمل.


عندما دخل المكتب، استقبله زميله عماد بنظرة مستنكرة

"ماذا حلّ بك؟ تبدو كأنك عدت من معركة، وخسرتها."


أكرم لم يرد، جلس على كرسيه بتعب وهو يفرك وجهه، ثم قال بصوت منخفض: "يجب أن أخبرك بشيء، لكنك لن تصدقني."


"جربني."


وهكذا أخبره بكل شيء.


عن الكهل، عن الجريدة الأولى التي تحققت بكل تفاصيلها والثانية، وعن الثلاث صحف التي يحملها الآن. كان وجه عماد يتحول تدريجيًا من السخرية إلى القلق، ثم أخيرًا إلى إنكار كامل وهو يهز رأسه.


"أكرم، هذا مستحيل، كيف يعقل أن…"


لكن قبل أن يكمل، انفتح الباب بعنف ودخل مديرهما إلى المكتب.


رجل ضخم الجثة، أصلع الرأس، دائم العبوس، وله عادة سيئة في التنصّت على موظفيه.


"أوووه، هذا أفضل من أي مسلسل!" قال المدير هيثم ساخرًا، وهو يصفق ببطء، "صحف المستقبل؟ هل سنحصل على نشرة الطقس لعشر سنوات قادمة أيضًا؟ ربما نراهن على نتائج كرة القدم قبل المباريات، ماذا تقول؟"


بدأ بعض الزملاء يلتفتون إليهم، وهم يختنقون بضحكاتهم، فيما احمر وجه أكرم غضبًا وحرجًا. حاول التبرير، لكن هيثم لوّح بيده بازدراء وقال:


"استمع إليّ يا عبقري الزمن، إن كنت ستقضي وقتك في قصص الخيال العلمي بدل العمل، فربما يجب أن تجد وظيفة في كتابة القصص بدلًا من هنا!"


ثم غادر المكتب وهو لا يزال يهز رأسه مستهزئًا.


أكرم شعر بالاختناق.


لقد ظنه الجميع مجنونًا.


لكنه لم يكن كذلك… صحيح؟


نظر عماد إلى أكرم بتنهيدة طويلة، ثم قال بصوت خافت كي لا يلفت انتباه بقية الزملاء:


"اسمع، لنقل إنني لم أقتنع تمامًا، لكن لنقل أيضًا إنك لا تهذي. في كلتا الحالتين، لا فائدة من إثارة ضجة الآن. دعنا ننجز عملنا، وبعد الدوام سنجلس ونفكر بهدوء فيما يجب فعله."


رمقه أكرم بنظرة ممتلئة بالتردد، ثم زفر في استسلام وأومأ برأسه.


لكنه لم يكن قادرًا على التركيز.


كلما حاول إنجاز أي شيء، كانت عيناه تزوغان نحو درج مكتبه حيث خبّأ الصحف الثلاث، وكأن الأوراق السوداء كانت تناديه من هناك. في كل مرة كان يقرر أن يفتح الدرج ويفحصها، كان يقاوم نفسه ويعيد انتباهه للمهام المتراكمة أمامه.


لكن حتى لو أراد تجاهلها، كان حديث الجميع حوله كفيلاً بإعادته إلى الواقع.


المكتب بأكمله كان يعجّ بالهمسات عن مأساة عائلة الوالي.


"يا له من أمر مريع... تخيّل أن تفقد أسرتك بأكملها في ليلة واحدة!"


"الوالي بالكاد يستطيع الوقوف على قدميه، رأيته على التلفاز صباحًا، بالكاد يستطيع الكلام."


"زوجته، أطفاله، حتى والدته... يا الله، كم هو مسكين!"


كانوا يتحدثون عن الأمر وكأنه كارثة صاعقة نزلت من السماء، بينما هو كان يعلم بها منذ الأمس… وكان بإمكانه إيقافها لو لم يتردد!


شعر بالغثيان.


حاول التركيز على عمله، لكن رأسه كان مشوشًا تمامًا.


نظر إلى عماد، الذي كان منشغلًا في إنهاء تقرير ما، وكأنه لم يستوعب بعد خطورة ما سمعه.


"لا بد أن عماد محق… لنترك الأمر حتى نهاية الدوام، ثم نقرر ماذا سنفعل."


لكن حتى حينها، كانت فكرة واحدة تنهش رأسه بلا رحمة:


"ماذا لو كانت الجرائد التي أملكها الآن تحمل كوارث أخرى؟ ماذا لو كنت أستطيع منعها؟"


بعد يوم طويل من التظاهر بالعمل، غادر أكرم المكتب برفقة عماد، متجاهلين نظرات الزملاء الذين لا يزالون يتداولون سخرية المدير.


كانت السماء تميل إلى الاحمرار حين وصلا إلى منزل أكرم المتواضع.


عندما أغلق الباب خلفهما، زفر عماد وقال وهو يخلع سترته:


"حسنًا، فلنرَ إن كنت حقًا تمتلك نبوءات المستقبل بين يديك أم أنها مجرد لعبة سخيفة."


جلسا إلى الطاولة الصغيرة في منتصف الغرفة، بينما أخرج أكرم الجرائد الثلاث من محفظته ووضعها أمامهما.


بدأ بقراءة الأولى—جريدة الغد.


لم يكن فيها شيء يُذكر. مجرد أخبار روتينية عن الاقتصاد، ارتفاع طفيف في أسعار الوقود، افتتاح معرض تجاري جديد، مقالة تحليلية عن السياسة الداخلية… لا شيء يلفت النظر أو يستدعي القلق.


نظر عماد إلى أكرم بشك، ثم قال ساخرًا: "واو، هذا مستقبل مرعب حقًا."


لكن أكرم لم يضحك.


بيدين متردّدتين، مدّ يده نحو الجريدة الثانية.


كانت تحمل تاريخ ما بعد الغد.


عندما فتحها، اتسعت عيناه، وتجمدت أنفاسه للحظة.


"ماذا؟" قال عماد، وهو يقترب أكثر لينظر.


العنوان الرئيسي كان كالصاعقة:


"فاجعة في المدينة المجاورة: اصطدام مروّع بين قطارين يخلّف عشرات القتلى والجرحى!"


قرأ أكرم التفاصيل بصوت عالٍ، بينما أخذ عماد يزداد شحوبًا:


القطاران كانا على المسار نفسه بسبب خطأ تقني في الإشارات.


وقع الحادث في ساعة الذروة الصباحية، مما ضاعف عدد الضحايا.


السلطات تحاول التحقيق في أسباب الفشل التقني الذي أدى إلى الكارثة.



مرت لحظات صمت ثقيل بينهما.


ثم، ببطء، مدّ أكرم يده إلى الجريدة الثالثة…


تاريخها كان بعد ثلاثة أيام.


فتحها، وبدأ يقرأ… وما إن وصل إلى العنوان حتى شعر بقشعريرة تسري في عموده الفقري.


"جريمة مروّعة في سكن الطالبات: مجهول يقتحم الغرفة ويطعن فتاة حتى الموت!"


أكرم رفع رأسه ببطء، والتقت عيناه بعيني عماد، الذي بدت عليه الصدمة الحقيقية هذه المرة.


مرت لحظة صامتة بينهما، قبل أن يقول عماد بصوت بالكاد يُسمع:


"لا يمكننا تجاهل هذا."



أكرم لم يقل شيئًا. لم يكن بحاجة إلى ذلك.


بهدوء، فتح درج مكتبه وسحب منه الجريدة الثانية التي حصل عليها… جريدة الأمس، التي لم يكن من المفترض أن تُكتب بعد، والتي وثّقت موت عائلة الوالي قبل أن يحدث.


وضعها أمام عماد، وقال بصوت منخفض:


"إن لم تقتنع بعد… اقرأ هذه."


تردد عماد للحظة قبل أن يمدّ يده المرتجفة ليلتقط الجريدة. بدأ يقرأ بصمت، وعيناه تجولان بسرعة على السطور… لكن مع كل كلمة، كان وجهه يزداد شحوبًا.


رفع نظره ببطء، وصوته خرج مختنقًا:


"هذا… هذا مستحيل… هذا كان قبل يوم كامل… لكنه مكتوب هنا كما لو كان معروفًا مسبقًا…"


أكرم لم يردّ. فقط راقبه وهو يمرر أصابعه في شعره بتوتر، يقلب الجريدة مرة أخرى وكأنه يبحث عن أي خدعة، أي تفسير منطقي لما يراه. لكنه لم يجد.


أعاد عماد الجريدة ببطء إلى الطاولة، وأسند رأسه إلى يديه.


"يا إلهي، هذا… هذا حقيقي."


أكرم أومأ بصمت.


"إذن… ماذا سنفعل؟"


مرت لحظة من الصمت، قبل أن يهمس أكرم بصوت منخفض:


"علينا أن نمنع ما هو قادم."


في صباح اليوم التالي، لم يذهبا إلى العمل.


جلس أكرم في المقعد الأمامي لسيارة عماد، بينما الأخير يشدّ قبضته على المقود، ينظر عبر الزجاج الأمامي بشرود. كانت الشوارع مزدحمة بالسيارات، والناس يسيرون على الأرصفة دون أن يعلموا أن هناك كارثة قادمة في مدينة أخرى، كارثة قد تودي بحياة العشرات إن لم يتحركا بسرعة.


"هل أنت متأكد من هذا؟" سأل عماد وهو يشعل المحرك.


أكرم لم يردّ فورًا، بل أخرج الجريدة التي تتحدث عن حادثة اصطدام القطارين، أعاد قراءة السطور الرئيسية، ثم قال بحزم:


"نحن لا نعرف كيف تعمل هذه الجرائد… لكنها توقعت موت عائلة الوالي بدقة. لا يمكننا المخاطرة بتجاهلها هذه المرة."


تنهد عماد، ثم ضغط على دواسة الوقود، لتنطلق السيارة عبر الطريق السريع باتجاه المدينة المجاورة.




كانت الرحلة طويلة، والطريق يزداد وحشة كلما اقتربا من أطراف المدينة. أكرم ظلّ يراقب الجريدة بين يديه، بينما عماد يركز على القيادة، الصمت بينهما كان ثقيلاً، محمّلًا بأسئلة لم يجدا لها إجابة بعد.


بعد ساعتين، لم يبقَ سوى القليل على وصولهما.


"حسنًا، لنفكر بخطة." قال عماد وهو يبطئ السيارة قليلاً. "لا يمكننا فقط الذهاب إلى محطة القطار والصراخ: أوقفوا القطارات، هناك حادث قادم! سيظنون أننا مجنونان."


أكرم عقد حاجبيه. كان عماد محقًا… لا يمكنهما إقناع السلطات فقط لأن لديهما "جريدة من المستقبل".


"علينا معرفة سبب الحادث أولًا." قال أكرم وهو يقرأ التفاصيل مرة أخرى. "يقولون إنه خطأ تقني في الإشارات… ربما يمكننا الوصول إلى مركز التحكم بالسكك الحديدية ومعرفة ما إذا كان هناك شيء غير طبيعي."


"وكيف سنفعل ذلك؟" سأل عماد وهو ينعطف نحو الطريق المؤدي إلى محطة القطار الرئيسية.


أكرم لم يكن متأكدًا، لكن هناك أمرًا واحدًا يعرفه جيدًا…


"سنجد طريقة."


كان النهار طويلاً، والسيارة أصبحت عالمهما المؤقت، يجوبان الشوارع بلا هدف واضح سوى قتل الوقت حتى يحلّ الليل. توقفا عدة مرات لشرب القهوة، تناولا وجبة سريعة، وراقبا محطة القطار من بعيد، دون أن يجرؤا على فعل شيء.


كان عماد يقود، بينما أكرم يحدق في الجريدة للمرة الألف، وكأن الكلمات قد تكشف له سرًّا جديدًا إن قرأها بتمعّن أكثر. لكن لم يكن هناك أي جديد… نفس العنوان الصادم:


"كارثة السكك الحديدية: اصطدام قطارين صباحا بوقت الذروة يودي بحياة العشرات!"


الوقت يمرّ ببطء، وكلما اقتربت عقارب الساعة من منتصف الليل، ازداد التوتر في السيارة.


"حسنًا، حان وقت التحرك." قال أكرم أخيرًا.


أوقف نادر السيارة قرب المنطقة المذكورة في الجريدة، حيث من المفترض أن يقع الحادث. كانت السماء حالكة السواد، والهواء ليليًا بارداً يحمل معه أصواتًا بعيدة لعربات القطار وهي تزمجر في الظلام.


ترجلا من السيارة بحذر، وقف عماد ينظر حوله بتوجس. لم يكن هناك سوى الأشجار المحاذية للسكة الحديدية، وأضواء باهتة تومض من بعيد في محطة القطارات الصغيرة.


"والآن؟" سأل عماد بصوت منخفض.


أكرم أشار إلى السكة الممتدة أمامهما. "القطاران سيصطدمان هنا… يجب أن نعرف كيف."


تقدم بخطوات حذرة، وضع يده على السكة الباردة، ثم نظر حوله. لم يكن هناك شيء غريب… لا شيء يوحي بأن كارثة على وشك الحدوث.


لكن فجأة، شقّ الصمت صوت خافت… صوت أقدام تخطو على الحصى القريب.


التفت كلاهما بسرعة، وفي الظلام، لمحا ظلًا يتحرك بين الأشجار القريبة.


كان هناك شخص آخر هناك… يراقبهما.


وقف أكرم وعماد بعيدًا، يراقبان الرجل المجهول للحظات، لكن عندما رأوه يبتعد دون أن يفعل شيئًا مريبًا، تنفسا الصعداء.


"يبدو مجرد عابر، ربما عامل في السكك الحديدية أو شخص بلا مأوى يبحث عن مكان يبيت فيه." قال عماد وهو يشدّ سترته حول جسده اتقاءً للبرد.


"ربما…" تمتم أكرم، لكنه لم يكن مقتنعًا تمامًا. مع ذلك، لم يكن لديهم أي دليل على أنه مرتبط بالحادث، لذا لم يشغلوا أنفسهم به أكثر من اللازم.


توالت الساعات، ولم يحدث شيء.


مرت الليلة بهدوء، وبدأت السماء تتلون بأطياف الفجر. كان التعب قد نال منهما، لكنهما بقيا في مكانهما، يراقبان المحطة.


"لا شيء يحدث…" قال عماد وهو يفرك عينيه. "ربما كان الخبر خاطئًا؟"


"لكن الجريدة السابقة كانت صحيحة…" ردّ أكرم وهو يشعر بالحيرة.


بعد قليل، بدأت الحياة تدبّ في المحطة، وبدأ الناس يتوافدون، يتحدثون، يضحكون، ينتظرون قطاراتهم المتجهة إلى أعمالهم وجامعاتهم.


"يبدو أن كل شيء طبيعي." قال عماد، لكنه لم يكد ينهي جملته حتى تلقى الجميع في المحطة إعلانًا مفاجئًا عبر مكبرات الصوت:


"تنبيه لجميع الركاب، تم تعليق جميع الرحلات حتى إشعار آخر."


ساد الارتباك بين الحشود، وبدأ الناس يتساءلون عن السبب.


أكرم وعماد تبادلا نظرات القلق، ثم بسرعة، أخرج أكرم الجريدة من جيبه، قلب الصفحات حتى وصل إلى العنوان الذي قرأه بالأمس:


"كارثة السكك الحديدية: اصطدام قطارين في وضح النهار، عشرات الضحايا."


لكنه سرعان ما تجمد في مكانه…


الموقع مختلف.


المدينة المجاورة لمدينتهما كانت هي المكان المذكور في الجريدة، لكن الآن، بعد إعلان توقف الرحلات، ظهرت الأخبار على هواتف الركاب… الحادث وقع بالفعل، لكنه حدث في مدينة أخرى تمامًا.


"هذا… لم يكن المكان المذكور في الجريدة…" قال أكرم بصوت مرتعش.


"ماذا يعني ذلك؟!" تساءل عماد بذهول.


أكرم نظر إلى الجريدة مجددًا… الأخبار كانت صحيحة، لكنها لم تكن دقيقة تمامًا.


المستقبل… يتغير.


عاد أكرم وعماد إلى السيارة بخطوات متوترة، وكأنهما يسيران وسط غيمة من الضباب الكثيف. كان عقلهما في سباق مع الأحداث، يحاولان فهم ما حدث للتو.


فتح عماد باب السيارة بعصبية ورمى بجسده على المقعد، بينما بقي أكرم واقفًا للحظات، يحدّق في المحطة التي كانت تعج بالحركة قبل دقائق، وكأنها الآن تحمل سرًا لا يستطيع كشفه.


"هل تعي ما حدث للتو؟" سأل عماد، وهو يشبك أصابعه بقوة فوق عجلة القيادة.


أكرم لم يرد على الفور. جلس ببطء، ثم أخرج الجريدة من جيبه وتأمل العنوان مرة أخرى.


"الحادث وقع، لكنه لم يحدث هنا…" تمتم بصوت شبه مسموع.


"ربما بسبب وجودنا هنا؟" قال عماد بنبرة يشوبها التوتر. "أقصد… لو لم نكن هنا، هل كان سيحدث في هذا المكان بالضبط؟"


نظر إليه أكرم ببطء، وعيناه تحملان نفس التساؤل. "لا أعلم… لكن هناك شيء واحد مؤكد… الجريدة لم تكن دقيقة مئة بالمئة."


ساد الصمت للحظات، لم يكن أي منهما مستعدًا لاستنتاج ما يعنيه ذلك.


"هل… هل يمكننا تغيير المستقبل؟" تساءل عماد أخيرًا.


أكرم لم يعرف بماذا يجيب، لكنه شعر بقشعريرة باردة تزحف على عموده الفقري. لو كان ما قاله عماد صحيحًا، فهذا يعني أن مصير الأشخاص المذكورين في الجرائد قد يكون بين أيديهم… أو ربما، مجرد محاولتهم التدخل قد تؤدي إلى تغيير غير متوقع.


"لماذا لم نفكر في هذا من قبل؟" قال أكرم وهو يشبك أصابعه فوق الجريدة. "نحن نلعب مع شيء لا نفهمه بعد… وربما قد يكون لذلك ثمن."


جلس أكرم في السيارة، ما زالت الجريدة في يده، بينما عقله يعيد ترتيب الأحداث بطريقة محمومة. نظر إلى عماد الذي كان يحدق في الطريق أمامه بشرود، ثم عاد بعينيه إلى الجريدة الثالثة، الصفحة التي تحمل الخبر الذي لم يستطع تجاهله:


"العثور على جثة طالبة جامعية تُدعى (ريهام السالمي) مقتولة طعنًا داخل سكن الطالبات في ظروف غامضة. السلطات تفتح تحقيقًا واسعًا حول الجريمة، والجامعة تعلن الحداد ليومين."


شعر أكرم بوخزة في صدره، وكأن الاسم خرج من صفحات الجريدة ليلاحقه. فتاة، شابة، ضحية لمصيرٍ قاسٍ قد يكون بوسعه منعه… لو تحرك الآن.


"عماد، علينا العودة." قال فجأة، بنبرة حازمة.


عماد نظر إليه ببطء، متفاجئًا من حدة صوته. "ماذا؟ العودة؟ لكننا لم نفهم بعد كيف…"


"لا وقت لهذا الآن." قاطعه أكرم وهو يرفع الجريدة إليه. "ريهام السالمي، ستموت الليلة في سكن الطالبات… هذا ليس كحادثة القطار، هذه جريمة قتل، ونعرف اسمها وموعد موتها."


صمت عماد للحظات، ثم أمسك الجريدة بيدين متوترتين. لم يكن بحاجة إلى قراءة الخبر مرة أخرى، فقد كان أكرم يحفظه عن ظهر قلب.


"وماذا تنوي أن تفعل؟" سأل أخيرًا، صوته يحمل نبرة قلق.


"سأنقذها." قال أكرم ببساطة، وعيناه تشعان بتصميم لم يعهده عماد فيه من قبل. "سأجدها، وسأبعدها عن السكن مهما كلف الأمر."


عماد زفر ببطء، ثم أدار محرك السيارة. "أنت مجنون… لكنني معك."


انطلقت السيارة بسرعة عبر الطريق، تاركين خلفهم آثار الشك والحيرة، ومقبلين على قرار قد يغير كل شيء.


كان الطريق ممتدًا أمامهما، والأضواء الخافتة للسيارات الأخرى تتراقص على زجاج النافذة. داخل السيارة، كان الصمت سيد الموقف، لكنه لم يكن صمتًا مريحًا، بل كان مشحونًا بأفكار متشابكة، وقلق يتسلل إلى الأعصاب.


ألقى عماد نظرة جانبية على أكرم، الذي كان يحدق إلى الأمام بعينين ثابتتين، وكأنه يطارد فكرة ما في رأسه. لم يستطع منع نفسه من السؤال:


"إذن… كيف ستقنعها بالمجيء معك؟"


أكرم لم يرد فورًا، وكأنه لم يكن قد فكر في ذلك بعد. أدرك فجأة أن عماد محق… كيف يمكنه إقناع فتاة غريبة بترك سكنها والذهاب معه فقط لأنه قرأ اسمها في جريدة غامضة؟ سيبدو كالمجنون بلا شك.


"سأخبرها الحقيقة." قال أخيرًا، لكن صوته لم يكن واثقًا تمامًا.


قهقه عماد ساخرًا: "أوه، رائع! ستذهب إلى فتاة لم ترها من قبل وتقول لها: ’مرحبًا، أنا شخص يقرأ المستقبل عبر الجرائد، وأنتِ ستموتين الليلة، لذا تعالي معي!‘… هل تتخيل وجهها؟ ستبلغ الشرطة قبل أن تنهي جملتك!"


قبض أكرم على الجريدة بقوة. كان يعلم أن الأمر ليس بهذه البساطة، لكنه لم يجد بديلًا.


"إذن ماذا تقترح؟" سأله بنبرة حادة.


أمال عماد رأسه، يفكر للحظات، ثم قال: "نحتاج إلى سبب مقنع… ربما نقول لها إن هناك لصوصًا يتسللون إلى السكن الجامعي، أو أن هناك مشكلة أمنية… أي شيء يمكن أن يجعلها تصدقنا دون أن تبدو القصة ضربًا من الجنون."


أكرم فكر في الأمر، ثم هز رأسه موافقًا: "حسنًا… سنرتجل. لكن لن أدعها تبقى هناك الليلة."


عاد الصمت ليخيم عليهما، وهذه المرة كان أكثر ثقلاً… لم يكن لديهما سوى بضع ساعات قبل أن يحل الليل، وقبل أن يُختبر كل ما يؤمن به أكرم حقًا.


توقفت السيارة أمام مبنى سكن الطالبات، كان المبنى مرتفعًا قليلًا، تتناثر حوله أضواء خافتة من النوافذ الموزعة هنا وهناك. لم يكن هناك الكثير من الحركة عند المدخل، سوى رجل مسن يجلس خلف مكتب صغير عند البوابة، يعبث بمذياع قديم بصوت منخفض.


تبادل أكرم وعماد نظرات سريعة قبل أن يأخذ أكرم نفسًا عميقًا وينزل من السيارة، بينما تبعه عماد مترددًا. اقتربا من الحارس الذي رفع عينيه بملل وحدجهما بنظرة مرتابة.


"مساء الخير، عمّي." قال أكرم محاولًا أن يبدو واثقًا.


"مساء الخير، كيف أساعدكما؟"


تردد للحظة، لكنه حسم أمره بسرعة:


"أنا خال ريهام السالمي… جئت لزيارتها، وأريد الاطمئنان عليها."


ضيق الحارس عينيه ونظر إليهما بارتياب: "خالها؟ لم تذكر لي من قبل أن لها خالًا سيأتي لزيارتها."


شعر أكرم بقلبه ينبض بسرعة، لكنه ابتسم محاولًا التظاهر بالثقة:


"أنا أسافر كثيرًا، وهي تعرف ذلك… لكنها طلبت مني أن آتي اليوم لأمر طارئ."


ألقى الحارس نظرة على دفتر صغير أمامه، ثم هز رأسه ببطء.


"ريهام في غرفتها… لكنها لم تخبرني بشيء عن قدومك. لحظة، سأتصل بها."


تجمد أكرم في مكانه، لم يكن قد حسب لهذا الاحتمال حسابًا. إذا اتصل بها الحارس وسألها عن "خالها"، فستنكر الأمر بالتأكيد، وهنا سينتهي كل شيء.


لكنه لم يكن مستعدًا للاستسلام… ليس الآن.


رفع الحارس سماعة الهاتف الداخلي واتصل بريهام، بينما وقف أكرم وعماد في انتظاره بقلق.


"نعم، آنسة ريهام، هناك شخص يدّعي أنه خالك، هل يمكنك النزول للتأكد؟"


لم يسمع أكرم وعماد سوى همهمات خافتة من السماعة، قبل أن يهز الحارس رأسه قائلاً:


"حسنًا، تعالي إلى المدخل."


أعاد السماعة إلى مكانها ونظر إليهما:


"انتظرا هنا، ستنزل حالاً."


بعد دقائق، فُتح الباب الزجاجي، وظهرت فتاة تتهادى بخطوات هادئة. كانت طويلة القامة نسبيًا، بجسد ممشوق، وملامح حادة تفيض بالجاذبية. شعرها الأسود انسدل على كتفيها بتموجات خفيفة، وعيناها الواسعتان كانتا غامضتين بشكل مريب. لم تكن تبدو كطالبة جامعية عادية، بل كشخصية خرجت من رواية غامضة.


وقفت أمامهم، رفعت حاجبيها قليلًا وهي تتأمل أكرم وعماد، ثم قالت بصوت هادئ لكنه حازم:


"من منكما خالي؟"


ازدرد أكرم لعابه وقال بثبات مصطنع:


"أنا، أكرم السالمي."


تأملته للحظات قبل أن تلتفت للحارس، الذي بدا غير مقتنع تمامًا لكنه لم يقل شيئًا. ثم، بشكل غير متوقع، قالت:


"حسنًا، سأذهب معه."


اتسعت عينا عماد في دهشة، وسأل الحارس مستغربًا:


"هكذا؟ دون أن تتحققي حتى؟"


هزّت ريهام كتفيها بلا مبالاة:


"ألم يقل أنه خالي !إذن هو خالي."


ثم التفتت إلى أكرم وسألته ببرود:


"هل سنذهب الآن أم لديك المزيد من الأسئلة؟"


وقف أكرم مصدومًا للحظة من سهولة الأمر، ثم أومأ بسرعة وفتح لها باب السيارة الخلفي. جلست داخله بلا تردد، فيما تبادل هو وعماد نظرات حائرة قبل أن يصعدا إلى السيارة.


بمجرد أن تحركت السيارة، شعر أكرم أن الأمور أصبحت أكثر تعقيدًا مما تخيل…



سادت لحظات من الصمت داخل السيارة، قبل أن تتحدث ريهام أخيرًا، بصوت هادئ لكنه حاد:


"حسنًا، أخبراني الآن... ماذا تريدان مني؟"


نظر أكرم إلى عماد الذي اكتفى بإيماءة صغيرة، وكأنه يدعوه لتولي الحديث. شعر أكرم بجفاف حلقه، وابتلع ريقه بصعوبة قبل أن يقول بحذر:



"أعلم أن هذا قد يبدو جنونياً، لكنكِ في خطر."


تقطبت ريهام حاجبيها وهي تنظر إليه بعدم فهم، لكنه واصل بسرعة:


"نحن نعلم أنكِ ستموتين الليلة... وجدنا هذا الخبر في جريدة لم تُكتب بعد."


عقدت ذراعيها أمام صدرها وهي تنظر إليه بعدم تصديق، ثم قالت ببطء:


"جريدة لم تُكتب بعد؟ هل أنتَ واعٍ لما تقوله؟"


تنهد أكرم، مدّ يده إلى الحقيبة بجانبه، وأخرج الجريدة التي تحوي خبر مقتلها، ثم مدّها لها.


"انظري بنفسك."


أخذت ريهام الجريدة منه بتردد، فتحتها ببطء، وقعت عيناها على العنوان الكبير:


"العثور على جثة الطالبة ريهام السالمي مطعونة داخل غرفتها بسكن الطالبات، والفاعل مجهول."


كانت صورة السكن الجامعي واضحة، بل حتى وصف الغرفة التي قُتلت فيها كان دقيقًا. شعرت بقشعريرة تسري في جسدها، لكنها رفعت عينيها إلى أكرم وقالت بحدة:


"هذا مستحيل... كيف يمكن أن يُكتب خبر عن جريمة لم تحدث بعد؟"


قال أكرم:


"لهذا أحذركِ! لقد حصلنا على هذه الجريدة قبل يوم من وقوع الحادث، كما حصلنا على هذه أيضاً."


أخرج جريدة اليوم السابق لمقتل عائلة الوالي، وفتحها أمامها، حيث كان العنوان الرئيسي:


"حادث مأساوي: مقتل عائلة والي المدينة في تسرب غاز داخل منزلهم."


نظرت ريهام إلى الجريدة، ثم رفعت رأسها إليه باستغراب:


"لكن هذا الخبر صحيح... الجميع يتحدث عنه!"


"بالضبط." قال أكرم بجدية. "لقد قرأتُ هذا الخبر قبل وقوع الحادث بيوم كامل، ولم أفعل شيئًا."


بدأت ريهام تفهم، لكن عقلها كان يرفض تقبّل الأمر بسهولة.


فتح أكرم الجريدة الأخرى، والتي تحدثت عن حادث اصطدام القطارين، وأشار إليها:


"وهذا أيضاً كان مكتوبًا قبل وقوعه، لكن عندما ذهبنا إلى الموقع المحدد، لم يحدث الحادث كما كان مذكورًا في الجريدة، بل في مكان مختلف."


أمسكت ريهام الجريدة، قرأت الخبر بدقة، ثم نظرت إليهما بشك:


"إذن، أنتما تخبراني أن هذه الجرائد تخبر المستقبل؟"


قال عماد بجديّة:


"نعم، وهذا المستقبل لا يتغير... إلا إذا تدخلنا."


وضعت ريهام الجريدة ببطء على حجرها، وساد الصمت للحظات. بدا أنها تحاول استيعاب كل ما قرأته، ثم رفعت عينيها وقالت:


"وأنتما تعتقدان أنني سأُقتل الليلة؟"


أجاب أكرم بثبات:


"ليس نعتقد... بل نعلم."


لم ترد على الفور، بل شبكت أصابعها بينما نظرت إلى الجريدة مرة أخرى، ثم قالت بصوت هادئ لكنه حاسم:


"حسنًا... أخبراني بما يجب عليّ فعله."


نظر أكرم إلى عماد بدهشة، لم يكن يتوقع أن توافق بهذه السهولة، لكن ريهام بدت مختلفة عن أي فتاة أخرى، لم تكن خائفة كما توقع، بل كانت هادئة... بشكل غريب.


قال عماد أخيرًا:


"أول خطوة... هي أن تبقي معنا الليلة."


قاد عماد سيارته بصمت بينما جلست ريهام في المقعد الخلفي، تحدّق عبر النافذة بوجه جامد. أما أكرم، فكان مستغرقًا في التفكير، يحاول استيعاب كيف صدقت ريهام الأمر بهذه السهولة.


لم يكن طريق العودة طويلاً، لكن التوتر في السيارة جعله يبدو وكأنه لا ينتهي. لم يتبادلوا الحديث كثيرًا، كأنهم جميعًا يدركون أن الليلة قد تحمل لهم ما هو غير متوقع.


عندما وصلوا إلى شقة أكرم، فتح الباب ودعاهم للدخول.


"هذا منزلي، ليس واسعًا، لكنه آمن."


كان المكان بسيطًا لكنه مرتب، أريكة مريحة، طاولة خشبية في المنتصف، ومطبخ صغير على الجانب.


خلعت ريهام حذاءها وجلست على الأريكة، بينما ألقى أكرم بنفسه على كرسي قريب، متنهداً.


"ما خطتنا الآن؟" سأل عماد وهو يصب لنفسه كوب ماء.


نظر أكرم نحو ريهام، التي لم تبدُ عليها أي علامات توتر، وكأنها اعتادت على فكرة أن حياتها على المحك.


"نبقى هنا حتى يمر الليل." قال أكرم بحزم.


"وهل تظنون أن مجرد بقائي هنا كافٍ؟ ماذا لو كان قدري أن أموت مهما فعلت؟" سألت ريهام ببرود وهي تتكئ للخلف.


لم يعرف أكرم ما يجيب، لكنه قال في النهاية:


"كل ما نعلمه أن الحوادث الأخرى حدثت تمامًا كما هو مكتوب، إلا ذلك الحادث الذي كنا موجودين في موقعه... تغيّر موقعه."


أومأت ريهام، ثم نهضت وقالت:


"إذن، لنرَ إن كان وجودي هنا سيغيّر قدري."


مرّت الساعات ببطء، لم يكن أحدهم يشعر بالنعاس، لكن في النهاية بدأ الإرهاق يسيطر عليهم.


"سأنام على الأريكة." قالت ريهام وهي تأخذ وسادة صغيرة.


"يمكنكِ أخذ غرفتي، الأريكة غير مريحة." عرض أكرم.


"لا داعي، لا أريد أن أبقى وحدي." ردت بحزم.


نظر إليها أكرم باستغراب، لكن لم يكن لديه طاقة للنقاش.


في النهاية، استلقى كل منهم في مكانه. عماد على الأرض بجانب الأريكة، أكرم على كرسيه المعتاد، وريهام على الأريكة نفسها.


كان المنزل مظلمًا وهادئًا، إلا أن عقولهم لم تتوقف عن الدوران... هل سينجح هذا؟ هل ستنجو ريهام؟ أم أن الجريدة كانت على حق؟


وهكذا، وسط دوامة من القلق والأسئلة، استسلموا جميعًا للنوم... بينما كان الليل يُخفي ما سيأتي لاحقًا.


استيقظ أكرم على صوت عماد وهو يشغل التلفاز بصوت عالٍ. فتح عينيه ببطء، كان الصباح قد حلّ، وأشعة الشمس تتسلل عبر الستائر، لكن الجو كان ثقيلًا، كأن شيئًا سيئًا قد حدث بالفعل.


"استيقظوا... بسرعة!" صاح عماد، وعيناه مثبتتان على الشاشة.


نهض أكرم بتثاقل، بينما جلست ريهام على الأريكة، تفرك عينيها بتعب. لكنها لم تكد تستوعب ما يحدث حتى شدّت انتباهها الأخبار التي تُبثّ مباشرة:


"في حادثة مروّعة هذا الصباح، تم العثور على طالبة جامعية مقتولة في سكن الطالبات، بعد تعرضها للطعن في غرفتها أثناء الليل. الشرطة تحقق في الأمر، وتشتبه في أن الجريمة تمت بدافع السرقة أو الانتقام، خاصة أن زميلتها في الغرفة لم تكن موجودة وقت وقوع الحادث..."


اتسعت عينا ريهام، ثم نظرت إلى أكرم وعماد بصدمة.


"إنها شريكتي في الغرفة!" همست بصوت مرتجف.


نظر أكرم إلى عماد، وكلاهما أدرك الحقيقة المرعبة: الجريدة لم تكن خاطئة، لكنها لم تحدد من الضحية بالضبط.


"كنا نظن أننا نحميكِ، لكننا أنقذناكِ وحدكِ فقط..." تمتم عماد، بينما فرك وجهه بيده متوترًا.


كان وقع الصدمة ثقيلاً على الجميع. أكرم شعر أن الدم يغادر وجهه... لقد نجت ريهام، لكن فتاة أخرى ماتت بدلاً منها.


"هل... هل يعني هذا أن القدر لا يتغير؟ فقط يتحوّر؟" سألت ريهام وهي تضع يدها على فمها، غير مصدقة لما تسمع.


لم يكن أحد لديه إجابة. لكن شيئًا واحدًا أصبح واضحًا تمامًا: اللعب مع المستقبل ليس أمرًا بسيطًا... وكل تغيير قد يحمل معه نتائج غير متوقعة.


مرت الأيام ثقيلة على أكرم وعماد، وكل صباح كانا يذهبان إلى نفس المكان حيث التقى أكرم بالكهل لأول مرة، لكن الرجل العجوز وكشكه الغامض اختفيا تمامًا. بدا الأمر وكأنهما كانا يطاردان سرابًا.


كل يوم، كان أكرم يقف عند تلك الزاوية، يتفحص المارة، يراقب الأرصفة، يتأمل حتى انعكاسات النوافذ، علّه يرى أثرًا لذلك الصندوق الأسود أو ذلك الوجه الذي أصبح يطارده في أحلامه. لكن لا شيء... مجرد شوارع عادية، وحركة حياة تمضي بلا اكتراث لجنونه.


في غضون ذلك، استمرت الحياة... لكن بشكل غريب.


الحوادث لم تتوقف. كان هناك حادث سير مروّع أودى بحياة سبعة أشخاص، ثم انهيار مبنى قديم في حي مجاور، وحريق ضخم التهم مصنعًا بالكامل. بدا وكأن المدينة تغرق في موجة من الكوارث، لكنها لم تكن مرتبطة بما رآه أكرم في الجرائد المستقبلية، أو على الأقل... ليس بشكل مباشر.


أما عماد، فبعد أيام من المحاولات الفاشلة في العثور على الكهل، عاد إلى منزله وحياته الطبيعية. قالها صراحة لأكرم ذات ليلة وهو يهم بالمغادرة:

"أنا لا أريد التورط أكثر. لقد جربنا، لكن لا يبدو أن هناك شيئًا يمكننا فعله... لنغير شيئًا لم نفهمه أساسًا."


وهكذا، بقي أكرم وحيدًا في مواجهة هذا اللغز.


لكن الغريب أكثر من كل شيء... كان ريهام.


لم تذكر أهلها أبدًا. لم تتحدث عن أصدقائها، لم تسأل حتى عن جامعتها. كأن حياتها السابقة لم تعد تعنيها.


في البداية، ظنّ أكرم أنها تعاني من الصدمة بسبب ما حدث لزميلتها، لكنه لاحظ أمرًا آخر... ريهام لم تحاول حتى الاتصال بأحد.


مرت أسابيع وهي تعيش في منزله وكأنها كانت دائمًا هناك. لم تبدُ قلقة، لم تذكر شيئًا عن مستقبلها، وكأنها... كانت تنتظر شيئًا.


ومع مرور الأيام، بدأ أكرم يشعر أن هناك شيئًا غريبًا في وجودها. شيء لم يستطع تحديده بعد، لكنه كان واثقًا من أنه ليس طبيعيًا.


وهكذا دواليك، بدأ شيء ما يتغير في أكرم... لم يكن مجرد اعتياد على وجود ريهام في منزله، بل شيء أعمق، شيء أشبه بالانجذاب التدريجي الذي يلتهم المنطق قطعةً بعد أخرى.


ريهام، التي بدت في البداية غريبة ومنطوية، بدأت تُظهر اهتمامًا واضحًا به. لم يكن اهتمامًا صاخبًا، بل كان هادئًا، متقنًا، يسري بسلاسة كأنه مخطط له.


في كل صباح، أصبح يجدها قد أعدّت له الفطور، كوب القهوة جاهز، والخبز محمص كما يحبه تمامًا. كانت تتحرك في المنزل وكأنها عاشت فيه طوال حياتها، تنظفه، ترتب أغراضه، وحتى ملابسه باتت مطوية بعناية فوق سريره.


لم يطلب منها أيًا من ذلك، لكنها فعلته.


"أكرم، أنت تعمل طوال اليوم، من الطبيعي أن أساعدك."


كان ردها بسيطًا، لكنها قالتها بنبرة تجعل رفضه مستحيلًا.


ثم جاء الطبخ...


كانت تجيد ذلك بطريقة مدهشة، وكأنها أمضت حياتها تتقن كل نكهة وكل تفصيلة صغيرة في الطعام. في كل ليلة، كان يجد مائدة عامرة أمامه، أطباقًا شهية بروائح تداعب الحواس.


ولم يكن الأمر مجرد طعام... كان اهتمامها به يتجاوز ذلك.


في بعض الليالي، كان يجلس على الأريكة، منهكًا، فيجدها تجلب له كوبًا من الشاي الساخن، تجلس بقربه، تنظر إليه بعينيها العميقتين، وكأنها تحاول أن تسحبه إلى عالمها الخاص.


"أنت مرهق اليوم..."


كانت تقولها بهمس، ثم تبتسم تلك الابتسامة التي جعلته يشعر بشيء لم يشعر به منذ وقت طويل... الراحة.


وهكذا، شيئًا فشيئًا، بدأ يتغير...


نسي كل التساؤلات التي كانت تعصف برأسه حولها.


نسي كيف ظهرت فجأة في حياته.


نسي حتى لماذا أتى بها إلى منزله في المقام الأول.


كل ما كان يعرفه الآن... أنه لا يريدها أن تذهب.


في ذلك الصباح، ارتدى أكرم ملابسه على عجل، أخذ قهوته سريعًا، ثم التفت نحو ريهام التي كانت تقف في المطبخ، تُعدّ له بعض السندويشات كما اعتادت.


"لن أتأخر، هل تريدين شيئًا قبل أن أذهب؟"


رفعت عينيها ونظرت إليه بابتسامة صغيرة. "لا، كن حذرًا فقط."


هز رأسه بابتسامة، ثم خرج.


لكنه لم يكن يعلم أن هذا اليوم لن يكون كغيره.




عندما وصل إلى العمل، لاحظ أن الأجواء غير طبيعية. بعض الزملاء كانوا يحدقون به بطريقة غريبة، وآخرون تظاهروا بالانشغال عند رؤيته.


لم يُعر الأمر اهتمامًا حتى دخل إلى مكتبه، لكنه بالكاد جلس حتى سمع صوت رئيسه، هيثم، يناديه بلهجة رسمية جافة:


"أكرم عادل، إلى مكتبي فورًا."


شعر بانقباض خفيف في صدره، لكنه وقف وتوجه نحو المكتب.


عندما دخل، كان هيثم واقفًا، ينظر من النافذة، وكأنه يتجنب مواجهته.


"اجلس."


جلس أكرم بهدوء، منتظرًا أن يسمع ما لدى رئيسه. لكن مرت ثوانٍ من الصمت، قبل أن يزفر هيثم بعمق ويلتفت إليه.


"أكرم... لن أطيل الحديث. أنت مطرود."


قالها بسرعة، كأنه يريد التخلص من الكلمات قبل أن تعود إلى فمه.


تجمد أكرم في مكانه. "ماذا؟ لماذا؟"


تجنب هيثم النظر إليه، ثم أضاف بصوت منخفض لكنه حازم: "هذا قرار الإدارة. لا تسألني أكثر من ذلك."


لكن شيئًا ما في نبرة صوته لم يكن مقنعًا... كان هناك تردد واضح، وكأن القرار ليس قراره بالكامل.


أكرم لم يكن ساذجًا.


"هيثم، ما الذي يحدث؟ هل فعلت شيئًا خاطئًا؟"


بلع رئيسه ريقه، لكنه لم يجب مباشرة. بدلًا من ذلك، مرر يده على شعره بتوتر، قبل أن يقول بجفاف:


"فقط... خذ أغراضك وغادر، أكرم."


ارتفع غضب أكرم، لكنه كتمه بصعوبة. "لا يمكنك طردي بدون سبب مقنع، أنا أعمل هنا منذ خمس سنوات—"


"الأمر ليس بيدي!"


انفجر هيثم بهذه الكلمات، ثم أخذ نفسًا عميقًا، كأنه ندم على انفعاله.


وقف أكرم ببطء، يراقب تعابير وجه رئيسه عن كثب. كان هناك شيء ما... خوف؟ توتر؟


لم يكن هذا مجرد طرد عادي.


لكنه لم يجد جدوى من الجدال أكثر. التفت بصمت، خرج من المكتب وسط نظرات زملائه الفضولية، ثم جمع أغراضه وغادر المكان الذي قضى فيه سنوات من عمره...


لكنه لم يكن غاضبًا بقدر ما كان خائفًا.


هناك شيء ما يحدث... وهو لا يفهمه بعد.


بعد خروجه من الشركة، شعر أكرم بالغضب والضياع في آنٍ واحد. لم يكن الأمر مجرد فقدان وظيفة، بل كان هناك شيء أكبر من ذلك... شيء غامض ومخيف.


ركب سيارة أجرة مباشرة إلى منزل عماد. كان بحاجة لمن يتحدث معه، شخص يثق به.




فتح عماد الباب فور أن طرق عليه أكرم، وبمجرد أن رأى تعابير وجهه المتجهمة، سأله بقلق: "ما الأمر؟"


دخل أكرم دون أن ينتظر دعوة، وألقى بحقيبة أوراقه على الطاولة، ثم زفر بقوة. "لقد طُردت، عماد."


ارتفع حاجبا عماد بدهشة. "ماذا؟ كيف؟"


جلس أكرم على الأريكة، وأسند رأسه إلى يديه. "لا أعلم. رئيسي قال إن القرار من الإدارة، لكنني شعرت أن هناك شيئًا وراءه. كان متوترًا... وكأنه خائف من شيء ما."


جلس عماد أمامه، متشابك اليدين. "هذا غريب... شركتنا ليست من النوع الذي يطرد الناس فجأة. لا بد أن هناك سببًا."


أكرم رفع عينيه إليه. "بالضبط، وهذا ما أريدك أن تساعدني فيه. هل تستطيع معرفة شيء من داخل الشركة؟ ربما أحد الزملاء سمع شيئًا؟"


أومأ عماد بجدية. "سأحاول. سأتصرف وكأنني أبحث عن وظيفة لك، وأتحدث مع بعض الموظفين لأعرف ما يجري."


شعر أكرم بالراحة قليلًا. رغم كل شيء، كان عماد دائمًا إلى جانبه.




عندما عاد أكرم إلى منزله في ذلك المساء، وجد ريهام في المطبخ، تحضر العشاء كعادتها. لكنه لم يكن في مزاج جيد، لذا اقترب منها مباشرة، وأخبرها بالأمر دون أي مقدمات.


"لقد طُردت من عملي، ريهام."


التفتت إليه ببطء، وعيناها الداكنتان تحدقان فيه بلا تعبير واضح. "ماذا؟ لماذا؟"


هز كتفيه بضيق. "لا أعلم. كل ما أعرفه أنني لن أستطيع إعالتك بعد الآن... لهذا، يمكنك الرحيل. لم أعد قادرًا على تلبية احتياجاتك."


انتظر منها أي رد... ربما صدمة، ربما غضب، أو حتى امتعاض... لكنه لم يتوقع ردّها على الإطلاق.


"لن أذهب إلى أي مكان."


نظر إليها بدهشة. "ماذا؟"


تقدمت خطوة نحوه، وحدقت في عينيه بثقة غريبة. "أنا لن أتركك، أكرم. لا يهمني إن كنت تعمل أو لا، لا يهمني أي شيء آخر... أنا هنا، وسأبقى هنا."


شعر بقشعريرة غريبة تسري في جسده. لماذا كانت واثقة إلى هذا الحد؟


كانت هناك أشياء كثيرة لم يفهمها بعد... لكنه شعر أن ريهام أصبحت جزءًا من حياته... سواء أراد ذلك أم لا.


كانت الليلة باردة على غير العادة، والشارع غارق في صمت ثقيل لا يكسره سوى صوت الريح التي تداعب الأشجار المتناثرة على جانبي الطريق. خرج أكرم من منزله حاملاً كيس القمامة بيد، وعقله مثقل بالتفكير في وضعه الجديد.


عند وصوله إلى برميل القمامة، توقف فجأة. كانت هناك صحيفة موضوعة بعناية فوق الغطاء، أوراقها سوداء بالكامل، وكأنها امتصت كل نور المصابيح الخافتة المحيطة بالمكان. لم تكن مثل أي صحيفة رآها من قبل، بل بدت وكأنها خرجت من العدم... وكأنها كانت في انتظاره.


شعر بقلبه ينبض بقوة. مد يده ببطء، ولمسها بأطراف أصابعه، فوجدها دافئة، وكأن أحدهم كان يحملها قبل لحظات. رفع رأسه بشكل غريزي، وقبل أن يستدير تمامًا، خُيِّل له أنه لمح ذلك الكهل واقفًا في الظلام، بعيدًا عند نهاية الطريق.


لم يستطع رؤية ملامحه بوضوح، لكن خطواته الثقيلة كانت واضحة وهو يبتعد ببطء، كأن وجوده هنا لم يكن إلا لإيصال هذه الصحيفة إليه.


أحس أكرم بقشعريرة تسري في جسده. تساءل: "لماذا الآن؟ بعد شهر من الاختفاء؟ وماذا تحتوي هذه الصحيفة السوداء؟"


وقف في مكانه للحظات، متردداً بين ملاحقة الرجل أو العودة إلى الداخل وفتح الصحيفة. لكن في النهاية، كان يعلم أن الإجابة الوحيدة على أسئلته... تكمن بين صفحاتها.


عاد أكرم إلى المنزل بخطوات ثقيلة، يده تقبض بقوة على الصحيفة السوداء. كان قلبه ينبض بسرعة، وذهنه يعج بالأسئلة. عندما دخل، وجد ريهام جالسة في الصالة، تقلب بين قنوات التلفاز دون اهتمام حقيقي. رفعت نظرها إليه فور أن رأته، ولاحظت على الفور توتره والجريدة السوداء التي يحملها.


اقترب منها وألقى الصحيفة على الطاولة أمامها دون أن ينبس بكلمة. نظرت إليها بريبة، ثم مدت يدها والتقطتها. جلس بجانبها، وأخذ كلاهما يتصفحانها معًا، الصفحة تلو الأخرى، حتى وصلا إلى المقال الذي أوقف أنفاسه.


"شاب يُقتل بعيار ناري قرب منزله في حي..."


كان الوصف دقيقًا بشكل مرعب. ذكر المقال أن الشاب تم إطلاق النار عليه في شارع ضيق بالقرب من منزله، في منطقة يعرفها جيدًا. كانت التفاصيل كلها صحيحة—حتى نوع السترة التي كان يرتديها، والسيارة التي مرت قبل دقائق من وقوع الحادث.


لكن أكثر ما جعله يشعر بالدوار هو وصف الضحية.


بنية متوسطة، شعر أسود غير مرتب، لحية خفيفة، وحتى أدق التفاصيل عن شكله. كان هو، لا مجال للشك.


لكن بدلاً من ذكر اسمه الكامل، لم يكن هناك سوى حرف واحد فقط: "أ.ع"


تجمدت أصابعه على الصحيفة، ونظر إلى ريهام التي كانت بدورها شاحبة الوجه، عيناها متسعتان بدهشة وقلق.


قالت بصوت مرتجف:

"هذه..." توقفت للحظة ثم نظرت إليه بحدة، "هذه تتحدث عنك، أكرم!"


أحس أكرم ببرودة تجتاح جسده وهو يحدّق في الجريدة السوداء. قلبه ينبض بجنون، وكأن الكلمات على الورق تتحرك أمام عينيه، تصرخ به بأن نهايته قد كُتبت بالفعل.


مدّ يده المرتجفة إلى الجريدة السوداء مرة ثانية. 


لكن هذه المرة، لم يكن الأمر مجرد وصف عام. ذكر المقال أن الجريمة وقعت في تمام الساعة الثانية قبل الفجر، أي بعد أربع ساعات فقط من الآن.


شعر بيد ريهام تمسك بذراعه بقوة، وكأنها تحاول إعادته إلى الواقع. كانت عيناها مليئتين بالرعب، تتابع تعابير وجهه التي تعكس صدمة أكبر من أن تُحتمل.


قالت بصوت مختنق: "هذا ليس خبرًا قديمًا... هذه ليست مجرد تكهنات، أكرم... إنها الجريدة التي قرأت منها خبر حادث القطار قبل أن يقع، وخبر مقتل زميلتي قبل أن يحدث! هذه الجريدة لا تخطئ!"


رفع رأسه إليها، نظر إليها نظرة غارقة في الفزع، ثم ألقى نظرة سريعة إلى الساعة المعلقة على الحائط. كانت عقاربها تشير إلى العاشرة مساءً.


أربع ساعات فقط...


أربع ساعات تفصله عن الموت.


أمسك أكرم بيدي ريهام بقوة، كأنهما الحبل الأخير الذي يربطه بهذه الحياة. كانت يداه باردتين، متعرقتين، بينما كانت يداها دافئتين رغم كل شيء. نظرت إليه بذهول وهو يقترب أكثر، يرفع يديه إلى وجهها، يحيط وجنتيها بين راحتيه المرتجفتين.


كانت عيناها تتسعان وهو يهمس بصوت مهزوز، كأنه يقاتل دموعه:


"لو كنتُ التقيتُكِ في زمن مختلف، في ظروف أخرى... ربما كانت قصتنا ستكون أجمل، مختلفة... ربما كنتُ سأحبك كما ينبغي، دون أن يكون ظلي محكومًا بالموت، دون أن يخبرني أحدهم أنني لن أرى شروق الغد..."


كادت ريهام تتحدث، لكن صوتها خانها، لم تستطع سوى النظر إليه وعيناها تلمعان بانعكاس الضوء الخافت.


فجأة، ابتعد عنها، مسح وجهه بسرعة كأنه يطرد ضعفًا لا وقت له الآن. استدار والتقط معطفه من على الأريكة، ثم قال بحزم:


"لن نبقى هنا. إذا لم أستطع إنقاذ نفسي، فعلى الأقل سأحرص على ألا تكوني هنا عندما يحدث الأمر."


أمسك يدها مجددًا وسحبها خلفه، تحرك بسرعة نحو الباب. لا وقت لجمع شيء، لا وقت للتفكير، فقط الفرار.


لكن... هل يمكن الهروب من الموت إن كان قد كُتب في صحيفة؟


اندفع أكرم وريهام خارج الشقة بخطوات سريعة، لم يكن هناك وقت للنظر خلفهما، كان عقله يصرخ بالتحذيرات، والخطر يحيط به من كل زاوية. الشوارع كانت هادئة، الظلام يلف المكان، ولم يكن هناك إلا صوت أنفاسهما المتسارعة ووقع خطواتهما المتوترة.


ابتعدا لمسافة عن المبنى، وعند أول زقاق شبه معتم، أخرج أكرم هاتفه المرتجف واتصل بعماد.


"عماد، هل وجدت شيئًا؟"


جاءه صوت عماد متسارعًا، وكأنه كان ينتظر هذا الاتصال بفارغ الصبر:


"أكرم، لقد عرفت! المدير هيثم لم يكن يريد طردك، لقد أجبروه! هددوه بقتله وعائلته إن لم يفعل!"


توقف أكرم عن السير، تجمدت أطرافه للحظة، بينما تابع عماد بانفعال:


"الأمر أكبر مما نتصور، أكرم! لا أعرف من هؤلاء، لكنه قال إنهم يراقبونك منذ فترة، وإنك وضعت نفسك في خطر حقيقي..."


شعر أكرم بقلبه يهبط، وتذكر الصحيفة السوداء... الجريمة التي لم تحدث بعد، لكنها ستحدث قريبًا.


"عماد... هناك شيء آخر." قالها بصوت منخفض، وعيناه تتحركان في كل اتجاه، كأنه يستشعر الخطر حوله. "وجدت صحيفة سوداء في القمامة، كانت تنتظرني وكأنها رسالة مباشرة. لقد وصفت جريمة قتل، بالتفصيل... الجريمة التي سأكون أنا ضحيتها، خلال ساعات فقط!"


ساد الصمت من طرف عماد للحظة، وكأنه يحاول استيعاب الأمر. ثم، قبل أن يرد، سمع أكرم صوتًا مألوفًا خلفه—


"ضع الهاتف جانبًا، أكرم."


صوتها.


تجمد الدم في عروقه، واستدار ببطء، يرفع يديه كأن جسده يرفض التصديق.


ريهام كانت تقف هناك، بملامح باردة تمامًا، عيناها بلا أثر للعاطفة. لم يكن ذلك أكثر ما أفزعه، بل السلاح الأسود المصوب مباشرة إلى رأسه.


مسدس؟!


لم يكن يتخيل، ولو للحظة، أن تمتلك واحدًا، فضلًا عن أن توجهه إليه.


بدا أن الزمن يتباطأ، عقله يرفض قبول المشهد أمامه، بينما سمع صوت عماد في الهاتف، يصرخ باسمه من الطرف الآخر.


"ريهام...؟" نطق باسمها بصوت مرتعش، لكن لم يكن هناك وقت، لم تمنحه فرصة لاستيعاب خيانتها.


بسرعة خاطفة، ضربته بعقب المسدس على جانب رأسه بكل قوتها.


دوّت لحظة من الألم القاتل، وعيناه اسودّتا بالكامل.


آخر ما رآه قبل أن يسقط على الأرض ويفقد وعيه هو أضواء سيارة سوداء رباعية الدفع تتوقف بجانبه، وأبوابها تُفتح ببطء، كأنها فُوّهة جحيم تبتلع ضحاياها.



عاد وعيه ببطء، لكنه تمنى لو بقي غارقًا في الظلام.


أول ما أدركه كان الرائحة.


رائحة رطوبة عفنة، مزيج بين العفن القديم والدم اليابس، كأن الجدران تشبعت بأنين الضحايا السابقين. الهواء نفسه كان ثقيلاً، مشبعًا برائحة الخوف والصمت القاتل.


حاول تحريك يديه، لكنهما كانتا مقيدتين خلف ظهره بحبل خشن غرس نفسه في جلده.


فتح عينيه ببطء، وبدأت الظلمة تتراجع تدريجيًا، كاشفة عن تفاصيل المكان—


غرفة خرسانية ذات جدران رمادية متآكلة، بقع داكنة تلطخ الزوايا، لم يعرف إن كانت مجرد أوساخ أم شيئًا أسوأ.


في المقابل، جلس الكهل ذاته، بنفس المعطف الرث، ونفس الابتسامة الباردة التي لم تتغير.


عيناه كانت تلمعان بمكر تحت الضوء الخافت، كأنه استمتع برؤية أكرم في هذه الحالة.


لكن الأسوأ لم يكن الكهل.


بل أولئك الأربعة الذين وقفوا خلفه.


طوال القامة، أجسادهم مغطاة بالكامل بملابس سوداء، ووجوههم مختبئة خلف أقنعة سوداء كأنها ظلال بشرية بلا ملامح.


في أيديهم، أسلحة معدنية باردة، تتألق انعكاساتها تحت الضوء الضعيف، كأنها تستعد لكتابة الفصل الأخير من قصة أكرم.


حاول بلع ريقه، لكن حلقه كان جافًا كالصحراء.


الكهل مال للأمام قليلًا، صوته هادئ لكنه مشحون بغرابة، وكأنه يحييه على مجيئه إلى مصيره المحتوم:


"استيقظت أخيرًا، أكرم؟"



ارتفع صوت الكعب العالي يخترق الصمت القاتل، وقع خطواتها كان إيقاعًا متناسقًا، وكأنها كانت تستمتع بإعلان حضورها.


باب الغرفة العتيق انفتح ببطء، وظهرت هي—


ريهام.


لكنها لم تكن تلك الفتاة التي عرفها.


لم تكن تلك التي وقفت في مطبخه تعد له الطعام، أو التي جلست تستمع إليه وهو يروي تساؤلاته عن الصحف الغامضة.


الآن، كانت شيئًا آخر.


بجسدها الممشوق وملابسها الأنيقة التي لم يكن يتذكر أنها امتلكتها يومًا، بشعرها المسدول بعناية، وبابتسامتها المغرورة التي زادت من قبح حقيقتها.


مشيتُها كانت ملكية، بثقة امرأة تعرف أنها تسيطر على الموقف.


توقفت عند الكهل، انحنت قليلًا، ووضعت قبلة ناعمة على وجنته كما لو كانت دميته المدللة.


أكرم شعر بغثيان مفاجئ.


تلك القبلة الصغيرة حملت كل معاني القرف بالنسبة له—


"يا إلهي...!"


نظر إليها باشمئزاز، وقلبه يغلي بالغضب والخذلان.


كانت تبتسم، تنظر إليه كما لو كان شيئًا تافهًا، حشرة صغيرة علقت في شباكها.


ثم بصوت خالٍ من أي ندم، مملوء بالسخرية، قال الكهل:


"ألم أخبرك أنك لا تستطيع تغيير المستقبل؟"



ضحك أكرم بيأس، ضحكة فارغة، لا تحمل أي مرح، بل كانت أقرب للبكاء المكبوت.


كم كان مغفلاً...


كم كان أحمقًا ليصدقها، ليصدق حتى للحظة واحدة أن فتاة بجمالها يمكن أن تنظر إليه، أن تهتم به، أن تبقى معه دون سبب خفي؟


كان يعرف شكله، كان يرى انعكاسه في المرآة كل صباح—وجه عادي، عيون مرهقة، جسد نحيل، لا شيء فيه يلفت النظر.


لم يكن بطلًا في رواية رومانسية، ولم يكن يومًا ذلك الرجل الذي تقع النساء في حبه دون سبب.


لكنها جعلته يصدق...


ريهام، بابتسامتها الناعمة، بعينيها التي بدت دومًا وكأنها تخفي سرًا جميلاً، بلمساتها العابرة التي جعلته يشعر بأنه مرغوب.


لقد لعبت به كما يلعب القط بالفأر قبل أن يجهز عليه.


رفع عينيه نحوها، كانت واقفة بثقة، وكأنها لم تسمع ضحكته المتهكمة، أو ربما لم تهتم.


كان عليها أن تعرف أنه لم يعد خائفًا.


ليس بعد الآن.


ابتسم بمرارة وقال بصوت مبحوح:


"كان يجب أن أعرف... فتاة مثلك؟ ما كان يجب أن تنظر إليّ مرتين."


ابتسمت ريهام في استهزاء، رفعت حاجبًا وهي تواصل مضغ علكتها ببطء، وكأن كلماته لم تترك أي أثر فيها. لم تهتم، لم تبالِ حتى بإعطائه رداً مناسبًا.


كأنها كانت تتوقع منه أن يدرك الحقيقة أخيرًا... ولكن بعد فوات الأوان.


في تلك اللحظة، اخترق صوت الكهل الصمت، صوته الأجش يحمل نبرة رضا زائفة:


"لا تقلق، يا بني... على الأقل، تستحق أن تعرف الحقيقة قبل أن تتحقق نبوءة الجريدة."


نظر إليه أكرم بحدة، قلبه ينبض بجنون، لكنه لم ينبس بكلمة، فقط انتظر.


"كل تلك الحوادث التي قرأتها؟" تابع الكهل بصوت هادئ، كأنه يلقي درسًا عاديًا. "لم تكن نبوءات ولا مصادفات... لقد كانت مخططة بدقة. نحن لا نتنبأ بالمستقبل، نحن نصنعه."


ارتجف جسد أكرم رغمًا عنه.


"الجريدة التي كنت تظنها تكشف لك القدر، لم تكن سوى جدول أعمالنا، مخططات لأحداث نرتبها سلفًا... حوادث القطار، مقتل الفتاة، عائلة الوالي، وحتى أنت... كنا نعرف أنك ستقع في الفخ، تمامًا كما أردنا لك."


تسارعت أنفاس أكرم وهو ينظر حوله... إلى ريهام التي تراقبه بلا مبالاة، إلى الرجال الملثمين الذين بدوا وكأنهم معتادون على هذا السيناريو، إلى الكهل الذي بدا وكأنه يستمتع بإذلاله.


أدرك أنه لم يكن سوى دمية في مسرحيتهم.


وأن الفصل الأخير قد اقترب.


ابتسم الكهل ابتسامة واسعة، تلاعبت الظلال على وجهه بفعل ضوء المصباح الخافت، ثم تابع بصوته الأجش:


"نحن لسنا مجرد مجموعة من الأشخاص العاديين، يا أكرم... نحن منظمة تمتد جذورها أعمق مما تتخيل، نتحكم بالأحداث، نصنع الفوضى متى شئنا، ونرسم المصائر كما يحلو لنا."


تبادل الرجال الملثمون نظرات ذات معنى، بينما بقيت ريهام واقفة بجانبه، تمضغ علكتها وكأنها تستمتع بالمشهد.


"هل تساءلت يومًا لماذا أنت؟ لماذا اختيرت حياتك لتتحطم؟" قال الكهل، قبل أن يرفع يده ببطء ويشير إلى الجريدة السوداء التي وُضعت على الطاولة أمام أكرم. "كل من يلمس هذه الجريدة، كل من يشتريها، يوقّع على مصيره بيده."


شعر أكرم بقشعريرة تسري في جسده.


"لكن... لماذا؟" خرجت كلماته متحشرجة من حلقه الجاف.


انحنى الكهل نحوه، اقترب منه حتى كاد يشم رائحة أنفاسه العفنة، ثم قال همسًا:


"لأنك، ببساطة، كنت فضوليًا أكثر مما ينبغي."


تراجع الكهل للخلف، ألقى نظرة على ريهام التي اكتفت برفع حاجبها بلا اكتراث، ثم أردف:


"كل من يشتري الجريدة السوداء يصبح هدفًا. نحن نراقب، ندرس، ثم نقرر كيف ننسج خيوط نهايته. البعض نمهد لهم حوادث مأساوية، والبعض الآخر..."


ضحك ضحكة خافتة، قبل أن يضيف ببرود:


"نقرر أن نلعب بهم قليلًا قبل إنهائهم."


أدرك أكرم حينها أن كل ما مر به لم يكن سوى مقدمة... وأن نهايته لم تُكتب بعد، لكنها قريبة، أقرب مما تخيل.


جلس الكهل على الكرسي العتيق المقابل لأكرم، وأسند مرفقيه إلى الطاولة الخشبية المتآكلة، بينما كانت ريهام تتكئ على الجدار خلفه، تنظر إلى أكرم بنظرة ساخرة.


"أتعلم، يا أكرم؟ مشكلتك أنك فضولي أكثر من اللازم." قالها الكهل وهو يقرّب وجهه قليلًا، صوته بطيء، كأنه يستهزئ به. "أنت مجرد رجل عادي، لا شيء مميز بك، لكنك قررت أن تتدخل، أن تلعب دور البطل. أليس كذلك؟"


شدّ أكرم قبضتيه، لكن الحبال التي قيدته كانت محكمة، شعر بجسده يرتجف، ليس خوفًا، بل غضبًا.


"أوقفكم؟" كرر بصوت مختنق، ثم ضحك بسخرية رغم وضعه. "أنتم قتلة، مجرمون! أنا فقط حاولت إنقاذ حياة فتاة، ماذا في ذلك؟"


قهقه الكهل بصوت أجش، ثم أشار بأصبعه إلى ريهام، التي رفعت حاجبها باستمتاع. "وأنقذتها، أليس كذلك؟"


تقدم أحد الرجال الملثمين خطوة، قبض على كتف أكرم بقوة حتى غاصت أصابعه في لحمه، لكن الكهل رفع يده ليوقفه.


"أنقذت ريهام؟ أم نحن من وضعناها هناك ؟"


تجمد أكرم في مكانه. شيء ما في نبرة الكهل جعله يشك... هل كانت ريهام بالفعل في خطر، أم أنها كانت جزءًا من الخطة منذ البداية؟


تابع الكهل ببرود: "كنت ساذجًا جدًا، أكرم. منذ اللحظة التي حملت فيها الجريدة السوداء، أصبحت في قائمتنا. كنا نراقبك، ندرس ردود أفعالك، نضعك في مواقف تختبرك. وكل مرة كنت تفشل."


اقترب أكثر وهمس في أذنه:


"كان عليك أن تهرب، أكرم. لكنك لم تفعل. بل قررت أن تكون عقبة أمامنا."


رفع رأسه لينظر إلى الرجال الملثمين حوله، ثم التفت إلى ريهام، التي كانت تتابع المحادثة بصمت، تمضغ علكتها وكأنها غير معنية بما يحدث.


"لم يكن علينا أن نسرّع نهايتك، لكنك جعلتنا نفعل ذلك."


شعر أكرم بقلبه ينبض بجنون. لم يعد السؤال عن مصيره فقط، بل عن السبب... لماذا هو؟ ماذا يريدون منه؟


اتكأ الكهل إلى الخلف، شبك أصابعه فوق الطاولة، وحدّق بأكرم بعينين ضيقتين، كأنه يستمتع بكل لحظة من عذابه.


"أتعلم، أكرم؟ أنت لم تكن إلا فأر تجارب بالنسبة لنا، منذ البداية."


قطب أكرم حاجبيه، بينما أكمل الكهل ببطء، كمن يشرح لطفل صغير:


"ريهام لم تكن فتاة عشوائية، ولم تكن ضحية تنتظر منقذًا. لقد كانت جزءًا من خطتنا منذ البداية. وضعناها هناك خصيصًا لك، لأننا كنا نعرف أنك لن تستطيع مقاومة اندفاعك الأحمق."


توقفت ريهام عن مضغ علكتها، ثم مالت نحوه مبتسمة، أصابعها تتلاعب بخصلات شعرها الأسود. "كنتَ سهلاً جدًا، أكرم. توقعتُ بعض المقاومة، لكنك وقعت في الفخ بسلاسة مدهشة."


شعر أكرم بقلبه يسقط في قاع معدته. تذكر كل شيء... كيف كانت تبدو مطمئنة منذ اللحظة الأولى، كيف لم تسأل كثيرًا، كيف دخلت حياته كأنها تعرفه منذ زمن.


"لا... هذا ليس ممكنًا..." تمتم بصوت مرتجف، وعيناه تائهتان بين وجوههم.


أطلق الكهل ضحكة قصيرة، ثم قال: "صدقني، ليس فقط ممكنًا، بل هو الحقيقة. منذ اللحظة التي أمسكت فيها بالجريدة السوداء، كنا نراقبك. كنا ندرس ردود أفعالك، ننتظر اللحظة المناسبة لجلبك إلينا."


أشار إلى ريهام بنظرة ذات معنى، ثم أضاف:


"وكانت ريهام مهمتها التأكد من أنك ستصل إلينا عندما يحين الوقت... كما اتفقنا."


نظر أكرم إليها، وكأن عقله يرفض استيعاب ذلك. "لكن لماذا؟ لماذا كل هذا؟"


ردت عليه ريهام بابتسامة باردة: "لأنك دخلت لعبة أكبر منك بكثير، أكرم."


نظر الكهل إلى أكرم نظرة طويلة قبل أن يميل بجسده إلى الأمام، وضع مرفقيه على الطاولة، وتشابكت أصابعه في حركة مدروسة.


"لماذا نفعل هذا؟ سؤال جيد، لكنه يثبت أنك لم تفهم شيئًا بعد، أكرم."


تنفس ببطء قبل أن يكمل، وكأنه يختار كلماته بعناية:


"العالم ليس كما تراه، ليس عشوائيًا كما يظن معظم الناس. الفوضى التي تراها في الأخبار، الجرائم التي تظن أنها تحدث بلا سبب، انهيار الأسواق، الكوارث التي تضرب دون سابق إنذار… كل شيء مدروس، كل شيء محسوب بدقة. نحن لا نصنع الفوضى، نحن فقط نوجهها."


تردد صدى كلماته في الغرفة المظلمة، بينما شعر أكرم بقشعريرة تزحف على جلده.


"لماذا؟" سأل بصوت متحشرج، فأجابه الكهل بنبرة عملية باردة:


"التحكم، النفوذ، المال... العالم لا يُدار بالصدف، بل بالأيدي الخفية التي تحركه. نحن منظمة تُجيد استغلال الأحداث قبل وقوعها، نخلق الأزمات لبيع الحلول، نشعل الحروب لنبيع السلاح، نثير الفوضى لنقدم النظام، نُسقط شخصيات ونرفع أخرى… كل ذلك من أجل أن نبقى في القمة."


توقف قليلًا ليرى أثر كلماته على أكرم، ثم أضاف بابتسامة جانبية:


"أما عنك… فقد كنت مجرد خطأ بسيط، فضوليًا أكثر مما ينبغي. وحان الوقت لتُدرك أن بعض الحقائق لا يجب أن تُعرف، وأن بعض الأبواب لا يجب أن تُفتح."

 

سأل أكرم : "والجرائد السوداء، لماذا تبيعونها للناس ؟."

ضحك الكهل بخفة، ثم مال إلى الخلف في كرسيه، واضعًا قدمًا فوق الأخرى وهو يرمق أكرم بنظرة متسلية.


"الجرائد السوداء؟ أوه، إنها أذكى أداة تحكم اخترعناها."


أشار بيده إلى أحد الملثمين، الذي أخرج من جيبه نسخة مطوية من الجريدة السوداء وألقاها أمام أكرم. نظر إليها الأخير بجمود، رغم شعوره بأن قلبه يخفق بعنف في صدره.


"نحن لا نبيعها لأي شخص، بل ننتقي زبائننا بعناية." قال الكهل وهو يراقب تعابير وجه أكرم المتشنجة.


"الفضوليون، المتشككون، أولئك الذين لديهم دوافع خفية، الطامحون للسيطرة أو الباحثون عن الحقيقة… هم أهدافنا. نبيعهم لمحة من المستقبل، ثم نراقب كيف يتصرفون. البعض يهرب، البعض يحاول التدخل… لكن الغالبية تفعل ما نريده بالضبط دون أن تدرك."


مرر يده على سطح الطاولة بخشونة وهو يضيف:


"بمجرد أن يمسك أحدهم بجريدة سوداء، يصبح جزءًا من اللعبة. إما أن يسير وفق المخطط… أو أن يتحول إلى ضحية جديدة في صفحتنا التالية."


ابتسم ابتسامة باهتة وأضاف بنبرة ساخرة:


"كما حدث معك تمامًا."



كان أكرم ما يزال يحاول استيعاب كلمات الكهل، عندما دلف إلى الغرفة ملثم آخر، يتحرك بخطوات سريعة قبل أن ينحني ليهمس في أذن الكهل ببضع كلمات لم يستطع أكرم سماعها.


ابتسم الكهل بهدوء أولًا، ثم انفجر في ضحكة خافتة، وكأنه استمتع بسماع نكتة مسلية. رفع عينيه إلى أكرم، الذي شعر بتوتر يجتاح جسده، قبل أن يقول الكهل بصوت هادئ لكنه مليء بالسخرية:


"أتذكر الزقاق المذكور في الجريدة، أكرم؟"


تشنجت ملامح أكرم، وهو يحدق فيه دون أن ينبس بكلمة. شعر بشيء ثقيل يتسلل إلى صدره، خوف لم يستطع تفسيره، لكنه كان واثقًا أنه لن يحب ما سيسمعه.


تابع الكهل، وهو ينهض من مكانه ببطء، يسير باتجاه أكرم وكأنما يستمتع بكل لحظة من تعذيبه النفسي:


"ذاك الزقاق لم يكن مجرد مصادفة… إنه مكان مقتل أحدكما…" توقف للحظة، قبل أن يضيف بابتسامة خبيثة: "وبما أنك هنا، فالأمر واضح، أليس كذلك؟"


شعر أكرم ببرودة تجتاح أطرافه، فتمتم بصدمة:


"ماذا…؟"


ضحك الكهل مجددًا، ثم جلس أمامه، ينظر إليه بثقة قاتلة:


"صديقك عماد قتل هناك، أكرم. لأنه كان في المكان الخطأ، في الوقت الخطأ."


تسارعت أنفاس أكرم، فيما تابع الكهل بصوت هادئ كمن يروي قصة قديمة لا أهمية لها:


"كل ما فعلناه هو أننا وضعنا هاتفك هناك. نحن نعرفه جيدًا، نعرف أنه لن يتجاهل صوت رنينه… وما إن اقترب ليرى، حتى حدث تمامًا كما كُتب في الجريدة."


شعر أكرم وكأن روحه تتهاوى في حفرة سحيقة. لم يدرك متى تجمدت أطرافه، ولا كيف فقد الإحساس بكل شيء حوله، إلا حقيقة واحدة ملأت عقله بالكامل:


عماد مات… لأنه كان صديقه… لأنه حاول مساعدته…



وقف الكهل بعد أن رأى الصدمة تبتلع أكرم بالكامل، ثم استدار نحو الباب دون أن ينظر خلفه. تبعه الملثمون الأربعة بخطوات ثابتة، تحيط بهم هالة من السيطرة المطلقة.


كانت ريهام آخر من غادر، توقفت للحظة قبل أن تلقي نظرة أخيرة على أكرم، لكنها لم تقل شيئًا، فقط ابتسمت ابتسامة خافتة وهي تمضغ علكتها، ثم استدارت ومشت خارجة.


أُغلق الباب خلفهم بصوت ثقيل، تاركًا أكرم في تلك الغرفة المظلمة ذات الرائحة العفنة… وحده.


شعر أكرم وكأن روحه تُنتزع ببطء، وكأن يديه مكبلتان بسلاسل من يأس لا يمكن كسره. غمر السواد عينيه، ليس ظلام الغرفة، بل العتمة التي بدأت تتغلغل في صدره، تلتف حول قلبه كأفعى تضيق الخناق عليه أكثر فأكثر.


عماد مات…


كانت الكلمات تتردد في ذهنه بصوت أجوف، بلا نهاية، كطبول جنائزية تدق في أعماقه. لم يكن مجرد صديق، بل كان آخر خيط يشده نحو الواقع، نحو الإنسانية التي بدأت تتلاشى من حوله. شعر وكأن الهواء قد سُحب من الغرفة، كأن كيانه كله يتلاشى في العدم، بلا معنى، بلا هدف.


أغمض عينيه للحظة، لعل الصور التي اقتحمت عقله تتلاشى… لكنه رأى وجه عماد، عينيه المفتوحتين بلا حياة، الدماء التي لوّنت الأرض، والهاتف الذي سقط من يده برنينه الأخير.


"لأنك كنت صديقي… لأنك حاولت إنقاذي… قتلوك."


ترددت الكلمات في رأسه بصوت متهدج، كأنه هو من قالها، لكنه لم يحرك شفتيه. كاد الغضب أن يشتعل في صدره، لكن نيرانه كانت باردة، أشبه بجليد يحرق الجلد دون أن يمنح الدفء.


تحركت عيناه في الظلام، وتوقفتا عند الطاولة أمامه. كانت هناك جريدتان موضعتان بدقة غير طبيعية، كأن أحدهم أراد أن يضعهما أمامه ليختار بينهما.


الأولى… بيضاء عادية، لا تختلف عن أي جريدة صباحية يراها الناس كل يوم.


أما الثانية… فكانت سوداء، بلون الليل الذي التهم عماد، بلون الأسرار التي لم يكن يجب أن يكتشفها، بلون المصير الذي حُفر له منذ اللحظة التي لمس فيها الجريدة الأولى.


تردد للحظة. أنامله ارتعشت وهو يمد يده _التي فك رباطها أحد الملثمين قبل أن يغادر _نحو الجريدتين… هل كان هذا اختبارًا؟ مصيدة أخرى؟ أم أنها فرصة… فرصة أخيرة ليفهم الحقيقة، أو ليقرر مصيره بنفسه؟


اختنق الهواء في رئتيه. لأول مرة منذ وقت طويل، شعر أنه يقف عند مفترق طرق لا يمكن الرجوع منه.




في مشهد آخر، ظهرت غرفة واسعة، مليئة بآلات الطباعة العملاقة التي تدور بلا توقف، تبتلع الورق الأبيض وتخرجه أوراقًا سوداء متراصة، حبرها لماع تحت الأضواء الخافتة.


في أحد الأركان، وقف شخص يرتدي لثامًا مثل الآخرين، لكنه كان يحدق في آلة الطباعة بصمت، عيناه مألوفتان، تائهتان… مثقلتان بشيء لا يمكن تفسيره.


أحد العاملين اقترب منه، ناوله جريدة سوداء دافئة خرجت للتو من الطابعة. تناولها ببطء، حدق في الأحرف المطبوعة… قرأ بصوت خافت، قبل أن تتجمد أصابعه عليها.


في الخلفية، تواصلت الآلات في الدوران، مستمرة في طباعة مستقبل لم يُكتب بعد.





تعليقات

  1. أهلاً أخي الكربم عاصم، أنرت المدونة.
    يمكنك اعتبارهم الماسونية، أو أي شيء آخر تريد أن تصدق بوجوده، لكن تخيل لو كتبنا ببساطة أنها الماسونية، فأين المرح إذن؟ لا بد للقارئ أن يُعمل عقله معنا أيضاً في فكرة وقصة كهذه. ألا تظن؟
    سعيد بمرورك الكريم وسعيد أكثر وأكثر بصدقك تجاه القصة. شكراً علي الإطراء وللمرور أخي عاصم. رمضانك مبارك. تحياتي

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكاية قرار

ثرثرة تحت الأرض

لا تبتسم أرجوك