الصوت الذي لا يريد أن يموت

art by:SamZee




  "مسعود... مسعود استيقظ" 

ذلك الصوت مجدداً. 

 "مسعود! سيفوتك القطار!" 

يعرف كل شيء عني كالعادة. نهضت وأنا أنظر يمنة ويسرة بتلقائية. لا أحد قريب مني، كما توقعت. هنا، هنا بالضبط، يتمنى المرء لو كان ثمة أحد حوله، على الأقل سيقلل هذا من احتمالية حوام الجنون فوق رأسه.

 يجب لهذه المهزلة أن تتوقف! آخر ما فكرت به قبل أن أنزع نفسي بتكاسل من فوق السرير. طفقت أفرش أسناني بهدوء كعادتي. يحادثني مجدداً:

  "لا تنس، خلف الضرس"

آمل أن أجد تفسيراً لدى الطبيب الأمهر في تخصص المخ والأعصاب، ذلك الصوت يثير أعصابي! فتحت صنبور المياه لألقم منه بعضها فأمضمض فمي وأنا أفكر، مخ وأعصاب؟ ربما يجب أن أستشير طبيب نفسي.

  "لا، تبدو فكرة سيئة"

محدّثي الذي يتكلم في رأسي فقط لا يعجبه الأمر، بصقت الماء بعنف وسألته بعنف وأنا أنظر في مرآة الحمام:

- ولم؟ أطباء المخ السُبّاق أجمعوا على عدم وجود شيء غير اعتيادي مرئي. 

 "بالضبط! مرئي، كلمة كبيرة يا فتى"

- ربما يجب عليّ زيارة الشيخ. 

"أي واحد تقصد؟ الذي يقول أنه لديه ولي من الجن، أم الذي يعطيك وصفة تتضمن نقع خمسين عشبة مُرة وشرب النقيع مع ماء غسلت به بؤبؤ عينك؟" 

- بؤبؤ عيني هاه؟ لم أعدك بخفة الدم تلك. 

"لا أمزح، علم الجن واسع ومتفرع، ثمة مدارس مختلفة"

الصوت بداخل عقلي ذكي؟ يسخر مني؟ أعلم هذا، وهذا يخيفني، لأني لم أكن يوماً من الأذكياء! أتمنى أن يجد لي الطبيب حلاً. 



  - أستاذ مسعود، حسب الأشعة والأوراق التي أمامي، أنت سليم جسدياً. 

" أرأيت؟ أخبرتك. الجسد البشري يملك ما يُدعى بالروح! متى يعترفون بالعلم غير المرئي!" 

  - لكن يا حضرة الطبيب، أسمعه يحادثني. 

  - أستطيع أن أعطيك بعض المهدئات ولكن... 

"لماذا يسهل النفاق على الأطباء؟ استحلفه بالله، ألا يسمع صوت مُنى؟" 

  - يقول لي أنك تسمع صوت مُنى. 

لا يبدو الطبيب سعيداً، أعتقد أني قد قاطعته. بعصبية يقول:

  - من أنت!

  - عذراً، إنه الصوت.

"ونغني بهناء، نحب الزهور الصفراء والحمراء، لكن نسأل أنفسنا، كي تكبر الزهور، متى تمطر السماء؟ غنوا للسماء غنوا للسماء. أغنية ابنته المفضلة" 

  - انتهينا هنا، تفضل رجاءً. 

وقفت بإحراج وأنا أهم بالخروج، قلت له قبل أن أغادر:

  - غنوا للسماء. 

انهار الطبيب باكياً بعدها. 




"عالم غريب، أليس كذلك؟"

جالساً في عربة القطار، مائلاً برأسي على النافذة، تاركاً القطار يهز جسدي كيفما شاء سمعت صوته. لم أعره اهتماماً، لكنه يهجم مجدداً:

"يمكنك أن تثق بي، أنا صديقك" 

لا أثق به مقدار ذرة، مَن يمكنه أن يثق في صوت غريب يسمعه بداخل عقله! 

"ولكني لا أريد أن أموت"

حاولت أن أحظى بمحادثة معه:

  - توقف أرجوك. 

"سأخبرك عني"

  - أخبرني. 

"اسمي دوعسم"

  - يبدو الاسم قريباً لأسماء الجن. 

" مباشرةً من كهوف الجن" 

  - وماذا بعد؟ 

"ماذا؟ ألا يدهشك هذا الأمر؟" 

  - أكثر من صوتك؟ لا. 

"ولكني لا أريد أن أموت" 

  - هذه ثاني مرة تقولها! اخرج من رأسي وعِش! 

"لا يمكن للأسف، لكن أخبرك ما يمكن فعله، أن تترجل من هذا القطار في المحطة التالية" 

  - أجننت! 

"فرصتك الوحيدة للنجاة من الحادث الذي سيصيب القطار" 

غلت الدماء في عروقي، الوغد يظن أنه يمكنه أن يتلاعب بي:

  - سأنام الآن، أيقظني حينما نصل لمحطتنا. 

في تلك اللحظة شعرت بالقطار وهو يبطئ حركته، أرحت رأسي على زجاج النافذة استعداداً للنوم، حتى سمعت صوته:

"آسف، ولكني أريد الحياة"

ثم ما حدث بعدها، جدير أن يُكتب في مذكرات مجنون. شعرت بنفسي أهب واقفاً، أصابني ذهول ممزوج بخوف، ما الذي يحدث! مشيت حتى وصلت لباب القطار. الصوت يتحكم بي! 

  - أهذا أنت؟! 

"آسف، ولكني لا أريد أن أموت"

هبطت من القطار فاقداً للإرادة التي تميز الإنسان الحر، وما إن تحرك القطار مجدداً عدت لأتحكم في جسدي، فجلست على الأرض منهاراً حتى ظن الناس أني شحاذ. 

ليلتها، وحين عدت لمنزلي بعد ساعات رحلتي المثيرة في المواصلات، استقبلتني أخبار المذياع الذي أتركه مفتوحاً في غيابي، عن تحطم قطار ما، وقد أدى الأمر لمقتل العشرات وإصابة المئات. يتسلل الصوت بين ثنايا دماغي، يضحك ويقول:

"مدين لي أنت" 

نعم، تلك الحقيقة، وذلك أنا ترتعد أوصالي من الهول الذي كدت أن أمر به، وهذا صوته يجري بداخل أفكاري كما تجري الدماء في العروق. سألته:

  - مَن أنت؟

"دوعسم، أنت أنا" 

  - ماذا؟

"قرينك" 

أصابت قلبي ارتجافة عنيفة، فراح يرقص بخوف، ضخ الكثير من الدماء لعقلي، فجن جنوني، واتسعت عيناي عن آخرهما، وتلبستني روح حارة. انطلقت من فوري إلى المطبخ لأجلب أكبر سكين، منتوياً غرزها في رأسي حتى أتخلص منه. 

"آسف، ولكني لا أريد أن أموت"

مع انتهاء كلماته كانت السكين على الأرض. الحقيقة البشعة تكشف عن وجهها لي، لا يمكنني التحكم في جسدي، يمكنه أن يمتطي جسدي كما يمتطي الرجل حماراً! أغمضت عينيّ وتركت جسدي له. 



بعد سنة


  - ازداوجية الشخصية يمكنها أن تفعل هذا وأكثر. لكن أعتقد أنك تحسنت جداً عن ذي قبل. آمل أن السنة التي قضيتها معنا في المشفى قد مرّت بلطف عليك. 

قالها الطبيب ثم دفع عبوة الحبوب نحوي مضيفاً:

  - احرص على تناول دوائك بانتظام. 

سنة من عمري في مشفى المجانين، يا لها من تجربة كانت! اختفى الصوت منذ أشهر، بعد انتظامي على تعليمات الأطباء، حتى أني توقفت عن تناول الأدوية منذ قرابة الشهر، ولا يزال الصوت غائباً. 

  - لقد توقفت عن تناول الدواء منذ فترة دكتور حسن، لقد شفيتُ تماماً! 

  - أكبر غلطة يا ولدي، انتظم على دوائك على الأقل لسنة إضافية. 

مددتُ يدي لأمسك بعبوة الدواء:

  - سأحاول. 

"أخبره أن بيته يحترق!" 

على الأغلب عاد الصوت لأني توقفت عن تناول الدواء، الطبيب معه حق. 

"أخبره أن زوجته تحترق!" 

  - هل وقّعت أوراق خروجي؟ 

  - نعم. 

يقولها الطبيب ثم يمد يده لي بورقة. 

"ابنه يموت!" 

  - وتذكّر يا ولدي، لو عاد الصوت في أي وقت، فقط تجاهله، لا تعطه وزناً. 

  - شكراً يا دكتور. 

  - واجبي. 

وقفت أودعه ثم مشيت طريقي للخروج من مكتبه. قبالة الباب سمعت نغمة هاتف، التفتّ لأجد الطبيب وهو يرد. 

"إنهم يموتون جميعاً!" 

انقبض وجه الطبيب لما سمعه في الهاتف:

  - ماذا! لا! لا! 

صوت ضحكاته تتغلغل بداخلي. أسمع الطبيب يكمل:

- كيف! حبيبتي لا! أخبرتكِ أني لا أحب الباذنجان! 

تختفي الضحكات ويكمل الطبيب بعد وهلة من استماعه للطرف الآخر:

  - أعرف أنكِ تحبينه ولكن بالتأكيد ثمة أشياء نحبها كلانا! سآكل بالخارج. 

بعد ثوان احمّر وجهه:

  - كنت أمزح، سآتي بعد ساعة. أحبك. 

قالها ثم أنهى المكالمة بأسى. ناديته فانتبه لوجودي:

  - لا زلتَ هنا؟ 

  - أردت سؤالك يا دكتور، هل لديك ابن؟ 

  - لا، لماذا؟ 

  - لا شيء، أراك الأسبوع القادم يا دكتور. 

ودعني بابتسامة ثم رحلت. القطار؟ كانت ضربة حظ، الطريف أن القطار الذي قام بالحادث لم يكن ذات القطار الذي كنتُ على متنه، اللهم إني كنتُ أحمقاً ولم أتمهل كي أسمع بقية الخبر من المذياع. مشيت وأنا أدندن بألحان أغنية قديمة. أسمع صوته مجدداً. 

"آسف، ولكني سأموت" 


تعليقات

  1. هاءو ..اتظن انك تخلصت مني بتلك الحبوب وقضاؤك عاما في المصحه ..لا اعتقد يا استاذ ..لا زلت هنا.. بين ضلوعك ..اسمع اناتك وهمساتك ..واشعر بخلجاتك ..تعلم لماذا ؟ لان الطريق طويل يا ابراهيم ..طويل وموحش ..اتتذكر تلك الجمله ؟ ..
    ولعلمك فقط .. لقد حملت كتابك هذا مدينة المائة شمس . ولم ادفع فيه فلسا واحدا ..فلتسامحني ..لان الكفن لا جيوب له كما تعلم ..بالطبع لم ابدا في قراءته بعد ..ولكني من هواة الاكتناز القهري . اصابني به المرحوم سيد الششماوي ..
    قصه مميزه وغريبه بحق ايها المتصوف الفريد ..
    وحتى تحترق النجوم ..

    ردحذف
    الردود
    1. نعم أذكر هذه الكلمات... لكن لا أذكر إن كان البطل اسمه ابراهيم، والقصة تاهت مني وسط ما أكتبه. هل كان اسمه مسعود أيضاً؟ أم محمود، لا أذكر.
      سعيد أنك حملت الرواية، إذا قرأتها أعطني رأيك الصادق بها. وأسامحك بالطبع. سعيد أكثر أن القصة أعجبتك، ولو أني لا أحبذ وصف متصوف، ولكن لا بأس، سأعدها مديحاً. شكراً على المرور والتعليق. رمضانك مبارك إن شاء الله.
      حتى تحترق النجوم يا صديقي.

      حذف
  2. قصة رائعة تحمل في طياتها غموضًا مشوقًا وسردًا ذكيًا يشد القارئ حتى آخر لحظة. الحوار طبيعي ومقنع، والنهاية تحمل صدمة جميلة تترك أثرًا في ذهن القارئ. الأسلوب سلس وجذاب، مما يجعل النص ينبض بالحياة. استمر في هذا الإبداع! كعادتك أخي البراء ...ولو أني في مرحلة ما تهت بين ثنايا مخيلتي قائلة أنه من الجميل أن يحدثك قرينك إن كان الأمر على هاته الشاكلة ههه.

    تحياتي.
    أزيز الصمت .

    ردحذف

  3. أهلاً بالقلم المختبئ. بصراحة لم أكن أعلم إن كان يجب نشر هذه القصة، لأنها قديمة، ولأني عند إنهائها وضعت ملاحظة "ماذا لو كان قرينه فعلاً؟ أو كان بالفعل الصوت محقاً" وهنا تركتها، وكلما أعود أسأل نفسي ذات السؤال. في النهاية قررت نشرها على ماهي عليه من بساطة في الحبكة. لم أرد تعقيدها لأني إن فعلت فربما أفسدها. من أخطائنا نتعلم.
    سعيد أنها أعجبتكِ، وسعيد أكثر أنكِ وجدت الوقت لقرائتها والتعليق عليها. أشكر لكِ هذا جزيل الشكر أختي الكريمة أزيز الصمت. رمضان مبارك عليك وعلى الأحباب.
    تحياتي.

    ردحذف
    الردود
    1. سعيدة أنك قررت نشرها كما هي، لأن بساطتها كانت جزءًا من سحرها. أحيانًا، الأسئلة التي نتركها بلا إجابة هي ما يجعل القصة تظل عالقة في الأذهان، وهذا ما حدث هنا. ربما لو تعمّقتَ أكثر، لفقدت القصة شيئًا من غموضها الأخّاذ.

      أنا من يجب أن أشكرك، ليس فقط على القصة، بل على الكلمات التي تترك أثرًا، وعلى كونك دائمًا كاتبًا مفضلًا لي. رمضان مبارك عليك وعلى أهلك أعانك الله على الصيام والقيام .

      تحياتي.
      أزيز الصمت.

      حذف
    2. هذا شرف لي أختي أزيز الصمت. لا تعرفين مقدار كلماتك عندي، ومقدار اعتزازي وفخري بما تقولين. شكراً فعلاً.
      معك حق بالمناسبة، أحياناً، يعطي الغموض جمالية لا تعطيها الحقيقة أبداً. نظرة ثاقبة كالعادة.
      أؤمن على الدعاء، وأدعو لكِ بالمثل وأكثر. شكراً مجدداً على بوادر لطفك أختي الكريمة. بالتوفيق إن شاء الله. تحياتي.

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكاية قرار

ثرثرة تحت الأرض

لا تبتسم أرجوك