هُوَ
« هُوَ »
بقلم: أزيز الصمت
كانت "نورا" فتاة يضرب بها المثل في الجمال والجاذبية، بشرتها البيضاء الناعمة كزهر اللوز، وعيناها العسلية الواسعة تشع بريقًا ساحرًا يأسر من يحدق فيها. شعرها الطويل المنسدل بلون الليل زادها فتنة، وكان حضورها طاغيًا أينما حلّت.
لكن جمالها لم يكن سر تألقها الوحيد، فقد كانت شديدة الذكاء والطموح، تعرف كيف تفرض احترامها على الجميع. شخصيتها القوية جعلتها محط أنظار الكثيرين، رجالًا ونساءً، فمنهم من كان يحاول التقرب منها بدافع الإعجاب، ومنهم من كان يحاول كسرها بدافع الغيرة. ورغم كل شيء، بقيت نورا شامخة، لا تتأثر بكلام الآخرين ولا ترضى بأقل مما تستحق.
في الجامعة، كانت محاطة بالكثير من المعجبين، لكنها لم تكن سهلة المنال. اختارت بعناية من يدخلون عالمها، فلم تكن ممن ينجرفن وراء الكلام المعسول. كانت تؤمن بأن الحب ليس مجرد كلمات، بل أفعال تثبت صدقه. ورغم العروض الكثيرة التي تلقتها للزواج، كانت ترفض دائمًا، قائلة إنها لن ترتبط إلا بمن يستحقها فعلًا.
كانت تحلم بمستقبل مشرق، زواج مبني على الاحترام والحب، حياة مليئة بالإنجازات والسعادة. لم تكن تتوقع أن القدر يخبئ لها طريقًا آخر، طريقًا سيسلبها قوتها شيئًا فشيئًا، حتى تجد نفسها عالقة في ظلام لا نهاية له...
في تلك الليلة، كانت نورا أشبه بأميرة خرجت من إحدى القصص الخيالية. ارتدت فستانًا بلون الزمرد الداكن ينساب على جسدها الرشيق بأناقة، يبرز خصرها النحيل ويعكس جمال بشرتها الفاتحة. رفعت جزءًا من شعرها في تسريحة أنيقة، تاركة خصلاته الطويلة تنسدل على ظهرها، بينما زينت أذنيها بأقراط ذهبية متدلية زادت من وهج حضورها.
دخلت قاعة الزفاف وسط أعين النساء التي تتابعها بإعجاب، وأحيانًا بحسد خفي. كانت تعرف أنها محط الأنظار، لكنها لم تكن تبالي، فقد اعتادت على ذلك منذ صغرها. جلست بين صديقاتها تتبادل معهن الأحاديث والضحكات، حتى اقتربت منهن امرأة أنيقة في منتصف الثلاثينات، تحمل نظرة ثاقبة في عينيها وكأنها تقيّم نورا.
"السلام عليكم،" قالت المرأة بابتسامة دافئة. "أنا هدى، أخت العريس، ممكن أجلس معكن؟"
"طبعًا، أهلًا وسهلًا بكِ،" ردت نورا بلطف، وهي تفسح لها المجال.
جلست هدى بجانبها، وراحت تشاركهن الحديث بسلاسة، تسأل نورا عن دراستها، هواياتها، وحتى نظرتها للزواج. بدا واضحًا أنها معجبة بشخصيتها أكثر من جمالها، وهذا ما زاد من ثقة نورا بنفسها.
بعد لحظات، مالت هدى نحوها وقالت بنبرة هادئة: "أختي، عندي أخ طبيب يبحث عن زوجة محترمة وجميلة، مثلك تمامًا. ما رأيك لو يأتي مع والدتي لزيارتكم؟"
تفاجأت نورا قليلًا بالعرض المباشر، لكنها لم تظهر ذلك، بل ابتسمت قائلة: "شكرًا على ثقتك، لكن مثل هذه الأمور تُناقش مع العائلة. سأخبر والدتي، وهي من ستقرر إن كنا سنلتقي أم لا."
أعجبت هدى بردّها، فقد كانت تبحث عن فتاة ناضجة لا تندفع وراء الكلمات السريعة.
"طبعًا، وأنا واثقة أن والدتك لن تجد أفضل منك زوجة لأخي،" قالت هدى بمرح. "اسمه سامي، طبيب، محترم جدًا، و… وسيم أيضًا."
ضحكت نورا قليلًا، لم يكن الجمال من أولوياتها في اختيار شريك حياتها، لكنها لم ترد إحراج المرأة التي تبدو شغوفة بتزويج أخيها.
تدخلت إحدى صديقات نورا، ممازحة: "نورا، يبدو أنكِ ستغادريننا قريبًا إلى بيت الزوجية!"
"لن يحدث شيء دون موافقة والديّ،" ردت نورا بحزم، لكنها شعرت للمرة الأولى بأنها ربما تفكر بالأمر.
في تلك الليلة، عادت إلى منزلها وقلبها مثقل بالتفكير. لم تكن تفكر بالزواج في تلك الفترة، لكنها أيضًا لم تجد سببًا وجيهًا لرفض اللقاء. كانت تدرك أن والدتها ستتحمس للفكرة، خاصة أن الخاطب طبيب ومن عائلة محترمة.
لم تكن تعلم أن هذا اللقاء العابر في زفاف، سيغير مجرى حياتها للأبد…
عادت نورا إلى المنزل في وقت متأخر من الليل، بعد ليلة صاخبة مليئة بالأحاديث والرقص والمجاملات. أزالت زينتها ببطء، وكأنها تحاول تأجيل التفكير في الموضوع، لكن عقلها ظل مشغولًا بكلمات هدى. "طبيب، محترم جدًا، وسيم أيضًا." هل كانت تبالغ كأي أخت ترغب في تزويج أخيها، أم أن الأمر يستحق التفكير؟
في صباح اليوم التالي، جلست مع والدتها في المطبخ، تساعدها في تحضير الفطور. كان والدها يقرأ الجريدة كعادته، وأشقاؤها يتجهزون ليومهم.
"أمي، تعرفين السيدة هدى، أخت العريس في زفاف البارحة؟" قالت نورا بنبرة عادية، وكأنها لا تلقي بالًا للأمر.
رفعت والدتها رأسها باهتمام: "نعم، ماذا بها؟"
"عرضت عليّ فكرة الزواج من أخيها. قالت إنه طبيب ويريد زوجة محترمة، وأنهم مستعدون للمجيء لرؤيتكم إن كنتم موافقين."
وضعت والدتها الملعقة على الطاولة والتفتت إليها بحماس: "طبيب؟! ومن عائلة محترمة؟ نورا، هذه فرصة لا تعوض!"
ضحك شقيقها الأصغر بسخرية: "أوه، أخيرًا قررتِ الزواج؟! كنت أظن أنك سترفضين كل الرجال حتى تصبحين عجوزًا!"
نظرت إليه نورا شزرًا وقالت: "أنا لم أوافق بعد، مجرد كلام. وأنت لا تتدخل في أمور الكبار!"
ضحك شقيقها الآخر وقال: "على الأقل سأتأكد أن زوج أختي طبيب، قد يكون مفيدًا لنا!"
أما والدها، فكان أكثر تحفظًا، لكنه نظر إليها بتأنٍ وسأل: "وهل لديكِ رغبة في رؤيته؟"
صمتت نورا قليلًا، ثم قالت: "لا أمانع أن أراه وأتعرف عليه أكثر، لكن القرار الأخير لكم."
ابتسم والدها بهدوء وقال: "إذن لنستمع إليهم، لا نخسر شيئًا من الجلوس معهم."
أما والدتها، فقد كانت متحمسة بشكل واضح. "سأتصل بوالدة هدى اليوم، ونتفق على موعد الزيارة. من يدري، ربما يكون نصيبك، ابنتي."
رغم أن نورا كانت تحاول أن تبقى محايدة، شعرت بشيء غريب في قلبها. هل كانت هذه بداية قصتها الحقيقية؟ أم مجرد محطة ستعبرها إلى قدر لم تتخيله أبدًا؟
اللقاء الأول بين العائلتين
في يوم الجمعة، اجتمعت العائلتان في منزل نورا، حيث كانت والدتها قد أعدّت ضيافة راقية، وأشعلت أعواد البخور لتعطي المكان رائحة زكية. كانت نورا تشعر ببعض التوتر، لكن كبرياءها منعها من إظهاره. ارتدت عباءة أنيقة بلون الخوخ الفاتح، وحجبت خصلات شعرها بحجاب ناعم، بينما وضعت لمسات خفيفة من الكحل الذي زاد من سحر عينيها العسلية.
وصلت عائلة الخاطب في الموعد المحدد. دخلت هدى أولًا، تتبعها والدتها، وأخيرًا سامي، الذي لم ترفع نورا عينيها نحوه على الفور. اكتفت بالسلام على النساء وجلست بجانب والدتها، بينما كان والدها يستقبل الرجال في غرفة أخرى.
بدأت الأحاديث بين الأمهات تأخذ طابعًا وديًا، فتحدثت والدة سامي عن أخلاق ابنها واجتهاده في عمله، بينما كانت والدة نورا تسأل عن طبيعة حياته وظروف عمله.
بعد قليل، حان وقت الرؤية الشرعية، وهو الجزء الذي جعل قلب نورا ينبض بتوتر لم تعتد عليه. انسحبت النساء من الغرفة، وبقيت نورا جالسة، بينما دخل سامي وجلس على الكرسي المقابل لها.
رفعت رأسها أخيرًا، والتقت عيناهما للحظة. كان رجلاً طويل القامة، ذا ملامح حادة ولحية مهذبة، كما وصفته أخته. عيناه كانتا سوداوان عميقتين، فيهما شيء من الجدية، وربما البرود أيضًا. لم يكن يبتسم كثيرًا، لكنه كان ينظر إليها باهتمام واضح.
"السلام عليكم،" قال بصوت هادئ.
"وعليكم السلام،" ردت نورا، محاولًة أن تبقى واثقة كما اعتادت دائمًا.
مرت لحظات صمت قصيرة قبل أن يسألها: "هل تمانعين لو سألتك بعض الأسئلة لأتعرف عليكِ أكثر؟"
أومأت نورا برأسها، فتابع قائلًا: "ما رأيك في الحياة الزوجية؟ هل لديكِ تصور معين عن شريك الحياة؟"
تأملت سؤالها لثوانٍ قبل أن تجيب: "أؤمن أن الزواج مبني على الاحترام قبل كل شيء. لا أريد حياة مثالية، لكني أريدها حياة يكون فيها تقدير متبادل بين الزوجين."
أومأ سامي بإعجاب، ثم قال: "هذا صحيح. بالنسبة لي، أبحث عن امرأة متفهمة، لا تحب المشاكل، وتكون سندًا لزوجها."
لاحظت نورا أنه لم يتحدث عن الحب، بل عن تفهم الزوجة وسندها، وكأن الزواج بالنسبة له مسؤولية أكثر من كونه مشاعر وعاطفة.
"وهل ترى نفسك زوجًا متفهمًا؟" سألته بابتسامة خفيفة، محاولة قراءة شخصيته أكثر.
ظهرت على وجهه ابتسامة خاطفة قبل أن تختفي، ثم قال: "أحاول دائمًا أن أكون كذلك، لكن الحياة مليئة بالضغوطات، ولا أحد كامل."
انتهت الجلسة بسرعة، وخرج كل منهما بانطباعه الخاص. نورا لم تشعر بانجذاب قوي نحوه، لكنها لم تجد فيه عيوبًا واضحة أيضًا. أما سامي، فقد بدا راضيًا عنها، وهذا ما اتضح في حديث عائلته بعد اللقاء.
بعد مغادرتهم، التفتت والدة نورا إليها وقالت بحماس: "ما رأيكِ؟ بدا لي شابًا مناسبًا جدًا."
نورا تنهدت قليلًا، ثم قالت بصوت محايد: "لا أستطيع أن أقول إنه الرجل الذي كنت أحلم به، لكنه يبدو جيدًا."
أما والدها، فاكتفى بقول: "قرارك بيدك، خذي وقتك في التفكير."
لكن نورا لم تكن تعلم أن هذا القرار الذي بدا لها بسيطًا، سيكون بداية رحلتها نحو عالم لم تتخيله .
مرت عدة أيام بعد اللقاء، ونورا ما زالت تفكر في الأمر. لم تكن تشعر بانجذاب قوي نحو سامي، لكنه لم يكن شخصًا سيئًا أيضًا. لم تجد سببًا مقنعًا لرفضه، خاصة أن والدتها بدت متحمسة جدًا له.
في إحدى الليالي، جلست نورا مع والدها في غرفة المعيشة، بينما كانت والدتها تحضر الشاي في المطبخ.
"إذن، ما قرارك؟" سألها والدها بنبرة هادئة.
ترددت نورا قليلًا، ثم قالت: "لا أشعر بمشاعر قوية نحوه، لكن… أعتقد أنه شخص جيد، وأمي مقتنعة جدًا به."
أومأ والدها وهو يحتسي شايه، ثم قال: "الزواج ليس مجرد مشاعر يا ابنتي، إنه عشرة واحترام. أهم شيء أن تكوني مرتاحة معه."
تنهدت نورا وأجابت بصوت خافت: "سأتوكل على الله وأوافق."
ابتسم والدها وربّت على يدها، ثم ناداها بصوت حنون: "أمكِ! تعالي، نورا قررت الموافقة."
خرجت والدتها بسرعة وهي تحمل الصينية بفرحة واضحة في عينيها. "الحمد لله! كنت أعلم أنكِ ستوافقين، فهو أفضل من يتقدم لكِ حتى الآن."
في اليوم التالي، أخبرت العائلة سامي وعائلته بقرار نورا، وتم تحديد موعد الخطبة الرسمية.
بدأت فترة التحضيرات بسرعة، بين شراء الذهب، الفستان، واختيار قاعة الحفلة. نورا كانت تعيش وسط زحام التفاصيل، لكن بداخلها شيء ما كان ساكنًا. لم تشعر بذلك الحماس الذي كانت تتوقعه عند اقتراب زفافها.
في أحد الأيام، بينما كانت مع صديقاتها في السوق، سألتها صديقتها المقربة، ليلى، وهي تتأملها بقلق: "نورا، لماذا أشعر أنكِ غير سعيدة؟ أليس هذا حلم كل فتاة؟"
ترددت نورا، ثم قالت بابتسامة باهتة: "لست حزينة، لكن… لا أشعر بذلك الحماس الذي كنت أتوقعه."
ضحكت صديقتها الأخرى، سهيلة، وقالت بمزاح: "هذا لأنكِ عقلانية جدًا، أنتِ لستِ من الفتيات اللواتي يذُبن في الرومانسية."
لكن ليلى لم تقتنع، فأمسكت بيد نورا وقالت: "المهم أنكِ مقتنعة باختيارك، لا تجبري نفسكِ على شيء فقط لأن الجميع يقول إنه صحيح."
هزّت نورا رأسها ولم تجب. في أعماقها، كان هناك شعور غريب لا تستطيع تفسيره، لكن القطار قد انطلق بالفعل، ولم يعد بإمكانها التراجع الآن.
اقترب يوم الزفاف، ووسط كل التجهيزات، شعرت نورا وكأنها تشاهد فيلمًا لا علاقة لها به. الجميع فرحون، الجميع يتحدثون عن ليلة العمر، بينما هي تشعر وكأنها تسير نحو قدر مجهول...
كان الصخب يملأ قاعة الزفاف، الأنوار المتلألئة تعكس بريق المجوهرات، والضحكات والموسيقى تتداخل في ضوضاء مبهجة. كانت نورا تجلس على كرسيها الملكي بوجه هادئ، مرتدية فستانًا أبيض من الدانتيل المطرز، يلتصق بجسدها برقة ويزيدها جمالًا. شعرها مرفوع بتسريحة أنيقة، بينما توهجت عيناها تحت إضاءة القاعة.
كانت تبتسم، لكن ليس من قلبها. كانت تشعر وكأنها في حلم ضبابي، كل شيء يتحرك من حولها بسرعة، والأصوات تتداخل في رأسها دون أن تستوعبها تمامًا.
"مبروك حبيبتي! تبدين كالأميرات!" قالت ليلى وهي تحتضنها.
"شكرًا، ليلى،" ردت نورا بابتسامة باهتة.
اقتربت والدتها، وعيناها تلمعان بالدموع: "يا رب يجعل حياتك كلها سعادة يا ابنتي."
نظرت إليها نورا طويلاً قبل أن تعانقها، وشعرت للحظة برغبة في البكاء، لكنها كبحت دموعها.
بعد قليل، دخل سامي، ببدلته السوداء الأنيقة، واقترب منها ليجلس بجانبها. بدا هادئًا، كما كان دائمًا، نظر إليها نظرة تقييم سريعة، ثم همس: "تبدين جميلة."
"شكرًا،" قالت دون أن ترفع عينيها نحوه.
التقط المصورون العديد من الصور، وبدأ الجميع بالتصفيق عندما أمسك سامي بيدها. شعرت بقشعريرة باردة تسري في جسدها، لكنها لم تظهر شيئًا.
بعد انتهاء الحفل، رافقها سامي إلى المنزل الجديد، الشقة التي اختارها بنفسه. كانت شقة واسعة، لكن ديكورها كان باردًا بعض الشيء، كما لو أنها صُممت للعيش فقط، لا للحب أو الدفء.
أغلق الباب خلفهما، وخلع سترته وهو ينظر إليها.
"أخيرًا، نحن وحدنا،" قال بصوت منخفض.
شعرت نورا بتوتر خفيف، لكنها تماسكت. جلست على طرف السرير وأخذت نفسًا عميقًا.
"يوم طويل، أليس كذلك؟" قالت محاولة كسر الصمت.
اقترب منها وجلس بجانبها، ثم قال: "نعم، لكنه انتهى، والآن، علينا أن نبدأ حياتنا."
نظرت إليه للحظة، تبحث عن شيء في عينيه، شيء يشعرها بالأمان أو الحنان، لكنها لم تجد سوى الجدية المعتادة.
"نورا، أتمنى أن تكوني امرأة متفهمة. أنا لا أحب التعقيدات، وأفضل أن تكون الأمور واضحة بيننا."
"ماذا تعني؟" سألت بحذر.
"أعني أنني أحب النظام، لا أحب الجدال، وأريد حياة هادئة. أتمنى أن لا أجد منك عنادًا، فأنا لا أحتمل ذلك."
كانت كلماته باردة، مباشرة، بلا أي رومانسية. شعرت نورا بقلبها ينقبض، لكنها أجابت بهدوء: "أنا أيضًا لا أحب المشاكل، وأفضل أن نكون واضحين."
أومأ برأسه برضا، ثم وقف وقال: "حسنًا، ارتاحي الآن، سأذهب للاستحمام."
تركها جالسة على السرير، تحدق في الجدران بعيون شاردة. هذه الليلة لم تشبه أبدًا الليالي التي تخيلتها عندما كانت صغيرة، بل كانت بداية غريبة لشيء لم تفهمه بعد.
مرت الأيام الأولى من زواج نورا كأنها مشاهد متكررة في فيلم ممل. لم يكن هناك شهر عسل كما تخيلت، بل مجرد أيام رتيبة تخللتها بعض المجاملات الجافة. سامي كان عمليًا إلى أقصى حد، وكأنه تزوج فقط لأنه كان عليه ذلك، لا لأنه أراد بناء حياة مليئة بالمودة والدفء.
منذ اليوم الأول، لاحظت نورا أن سامي يحب النظام بطريقة مفرطة، وكأنه مهووس بالترتيب. كان لديه جدول صارم لكل شيء:
يستيقظ في السادسة صباحًا، يستحم، ويرتدي ملابسه بدقة عسكرية.
يشرب قهوته دون حديث، ثم يغادر للعمل.
يعود في المساء، يبدل ملابسه، ويتناول العشاء بصمت تقريبًا، ثم يجلس لمتابعة التلفاز أو القراءة.
كانت نورا تحاول كسر هذا الروتين، فتحدثه أحيانًا عن يومها، عن شيء رأته، عن وصفة جديدة جربتها، لكنه كان يجيبها بجمل قصيرة، وكأن الحديث معها مجرد التزام اجتماعي وليس رغبة.
في البداية، ظنت أنه يحتاج إلى وقت ليعتاد عليها، لكنها لاحظت أنه لم يكن يحاول حتى أن يقترب منها عاطفيًا. لم يكن قاسيًا، لكنه كان باردًا، محايدًا، وكأنها زميلة سكن وليست زوجة.
لم تكن برودته فقط ما أزعجها، بل تحكمه في أدق تفاصيل حياتهما.
"نورا، لا تتركي الأطباق في الحوض طويلًا."
"لماذا غيرتِ ترتيب الأكواب في المطبخ؟ هذا يربكني."
"لا أحب رائحة البخور، لا تشعليه في البيت."
"رتّبي السرير بمجرد أن تستيقظي، لا أحب الفوضى."
كان يراقب كل شيء، وكأنها عاملة تحت إدارته لا زوجة تشاركه الحياة. حتى مصروف البيت كان يوزعه بدقة، يعطيها مبلغًا محدودًا جدًا، وكأنها لا تحتاج شيئًا سوى الأساسيات.
حاولت نورا التكيف في البداية، لكن شيئًا فشيئًا بدأ هذا يخنقها. لم يكن المنزل يشعرها بالراحة، بل وكأنه سجن بلا قضبان، حيث تُراقب كل حركة تقوم بها.
وفي كل مرة تحاول فيها التحدث معه عن مشاعرها، كان يختصر الحديث بجملة واحدة:
"أنا أوفر لكِ حياة مستقرة، ما المشكلة؟"
المشكلة، يا سامي، أنك لم تترك لي مساحة حتى لأكون نفسي…
في البداية، ظنت نورا أن سامي مجرد شخص بارد ومنظم إلى حد مزعج، لكنها لم تكن تعلم أن خلف هدوئه الظاهري غضبًا مكبوتًا، ينتظر اللحظة المناسبة لينفجر.
كانت الأمور تسير بشكل رتيب حتى جاء ذلك اليوم الذي غير نظرتها إليه تمامًا.
في إحدى الأمسيات، كانت نورا قد انتهت من تحضير العشاء وجلست تنتظره. تأخر قليلًا عن موعده المعتاد، وعندما دخل أخيرًا، بدت عليه علامات التوتر. رمى مفاتيحه على الطاولة بقوة، ثم خلع سترته بحركة عصبية.
"تأخرتَ اليوم، كل شيء برد، كنت سأعيد تسخينه،" قالت نورا بلطف، محاولة تهدئة الأجواء.
لم يرد عليها، بل جلس وبدأ يتناول الطعام بصمت. لاحظت أنه يبدو متجهمًا، لكن لم تتوقع ما حدث بعد ذلك.
أخذ رشفة من الحساء، ثم توقف فجأة ووضع الملعقة بعنف على الطاولة.
"ما هذا؟ هل تطبخين لنا ماء ساخنًا؟" قال بحدة.
نظرت إليه بدهشة: "إنه نفس الحساء الذي تحبه، ربما يحتاج إلى قليل من الملح، سأ–"
لم تكد تكمل جملتها حتى قاطعها بصوت مرتفع: "لا تبرري لي، تعلمي كيف تطبخين قبل أن تتفلسفي!"
كان صوته حادًا، نبرته تحمل احتقارًا غريبًا لم تعتد عليه. وقفت للحظة، مذهولة من ردة فعله العنيفة على شيء بسيط.
"سامي، لماذا تصرخ؟ إنه مجرد حساء، يمكنني تعديله، لا داعي لكل هذا،" قالت بصوت هادئ، محاولة تهدئته.
لكنه لم يهدأ، بل رفع صوته أكثر: "أنتِ لا تفهمين شيئًا! حتى الأمور البسيطة لا تستطيعين القيام بها بشكل صحيح!"
شعرت بإهانة جارحة، لكنها تماسكت. لم ترد عليه، بل أخذت الصحن بهدوء وذهبت إلى المطبخ لإضافة الملح. كانت يداها ترتجفان، لم يكن الأمر مجرد غضب عابر، بل طريقة كلامه، طريقته في احتقارها، جعلا شيئًا بداخلها ينكسر.
لم يكن ذلك اليوم استثناءً، بل كان بداية لسلسلة من الانفجارات الصغيرة.
إذا عاد متعبًا، صبّ غضبه عليها.
إذا لم يكن مزاجه جيدًا، وجد شيئًا لينتقده.
إذا حاولت أن تناقشه، قال لها بحدة: "لا تجادليني، أنا لا أطيق النساء الثرثارات."
وفي كل مرة كان يستخدم كلمات جارحة، تزداد حدة مع الوقت:
"غبية."
"بطيئة الفهم."
"لا فائدة منك."
وفي بعض الأحيان، كان يضرب الطاولة أو يرمي الأشياء بعنف، لكنه لم يمد يده عليها… بعد.
بدأت نورا تشعر وكأنها تعيش مع شخصين مختلفين: سامي البارد والمتحكم، وسامي الغاضب الجارح. لم تعد تعرف متى سيكون هادئًا، ومتى سينفجر عليها بلا سبب.
كان عليها أن تتحرك بحذر، وكأنها تمشي على قشر بيض… دون أن تعرف متى سيتحطم تمامًا تحت قدميها.
مع مرور الأيام، بدأت نورا تفهم كيف يرى سامي المرأة. لم يكن مجرد شخص بارد أو عصبي، بل كان يحمل أفكارًا متجذرة جعلتها تشعر وكأنها ليست إنسانة بل شيء مملوك.
كان يراها آلة للمتعة، لا مشاعر لها ولا إرادة. لم يكن يهتم بما تشعر به أو تريده، فقط ما يريده هو. في الليالي التي يريدها زوجة، يأتي إليها دون مقدمات، بلا كلمات حنونة، بلا لمسات دافئة، فقط يفرض نفسه، وعندما ينتهي، يستدير للنوم وكأنها لم تكن سوى شيء استخدمه وانتهى منه.
"لماذا لا تكون أكثر رقة؟ على الأقل تحدث معي قبل أن..." تجرأت نورا أن تقول له ذات مرة.
نظر إليها ببرود، وكأنها قالت شيئًا سخيفًا، ثم ضحك بسخرية: "أتحدث معكِ؟ نورا، أنتِ زوجتي، هذا حقّي، وليس لديكِ خيار في الأمر."
شعرت بالقشعريرة تسري في جسدها، لكن لم تكن قادرة على الرد.
أما في النهار، فكان يرى المرأة آلة تنظيف، حيث يتوقع أن يكون المنزل نظيفًا كالمرآة دائمًا، وكل شيء في مكانه المحدد بدقة. لم يكن يساعد في أي شيء، بل حتى لو رأى نورا متعبة أو مشغولة، لم يكن يفكر في تقديم يد العون.
"هذا دوركِ، أنتِ المرأة هنا،" كان يقولها دائمًا عندما تحاول أن تشرح له أنها تحتاج إلى راحة.
وكان يرى المرأة آلة إنجاب، لم يمر وقت طويل قبل أن يبدأ بالحديث عن الأطفال وكأنهم مشروع ضروري.
"نريد طفلًا قريبًا، لا أريد أن أضيع وقتي أكثر."
"لكننا لم نكمل سوى بضعة أشهر معًا، أليس مبكرًا؟" سألته نورا بحذر.
"مبكر؟ لا تكوني غبية، المرأة بلا أطفال لا قيمة لها."
بدأت نورا تدرك أنها مجرد دور يؤدي وظيفته في حياته، وليس شريكة أو إنسانة لها أحلامها ومشاعرها.
كانت لحظة الانفجار الحقيقية بعد مرور أشهر، حين قررت نورا أنها لم تعد تستطيع تحمّل كل هذا. في أحد الأيام، بعد شجار حول تنظيف المنزل، قررت أن ترد.
"أنا لست خادمة عندك! هذا منزلي أيضًا، وسأرتبه كيفما يناسبني!"
كانت هذه المرة الأولى التي ترفع صوتها في وجهه، وربما كانت المرة الأخيرة أيضًا.
لمحت عينيه تشتعلان غضبًا قبل أن يرفع يده ويصفعها بقوة. شعرت بلهيب يضرب خدها، ووقعت على الأرض تحت تأثير الصدمة أكثر من الألم.
تراجعت ببطء، ممسكة بخدها، بينما وقف فوقها بعينين غاضبتين.
"إياكِ أن ترفعي صوتكِ عليّ مرة أخرى، هل فهمتِ؟"
كانت تلك اللحظة التي فهمت فيها كل شيء. لم يكن سامي مجرد رجل متحكم أو عصبي… لقد كان شخصًا يرى نفسه سيدًا مطلقًا، ويرى أنها لا شيء سوى عبدة في بيته.
مرت لحظات صامتة، ثم استدار عنها وكأن شيئًا لم يكن.
وقفت نورا ببطء، جسدها يرتجف، لكنها لم تبكِ. لم تكن الصدمة في الألم، بل في الإدراك المرعب أنها أصبحت محاصرة… في قفص لن تستطيع الفرار منه بسهولة.
لم تستطع نورا تحمل الأمر أكثر. بعد تلك الصفعة الأولى، لم يعد سامي بحاجة إلى سبب ليصرخ، ليشتم، أو حتى ليضربها كلما شعر بالغضب. أصبحت حياتها دائرة من الخوف والترقب، تنتظر متى ستكون المرة القادمة التي يثور فيها عليها بلا سبب.
وفي أحد الأيام، بعد ليلة مؤلمة، حيث دفعها بقوة حتى اصطدمت بالحائط لمجرد أنها تأخرت في تحضير العشاء، قررت نورا أنها لا تستطيع البقاء أكثر. اتصلت بأهلها في اليوم التالي، وعندما تأكدت أن سامي خرج إلى عمله، جمعت بعض أغراضها وغادرت المنزل.
وصلت إلى بيت أهلها بقلب مثقل، كانت متأكدة أن والديها سيقفان إلى جانبها، سيحميانها من هذا الجحيم. لكنها لم تكن تعلم أن صدمتها الحقيقية لم تكن سامي، بل أهلهَا أنفسهم.
جلست نورا في غرفة المعيشة، ويداها ترتجفان وهي تحاول أن تحكي كل شيء. والدتها كانت صامتة، بينما والدها عقد حاجبيه وهو يستمع.
"أبي… لم أعد أحتمل، سامي لم يعد إنسانًا، إنه… إنه يعاملني كأنني لا شيء، يضربني، يشتم، كل شيء يجب أن يكون وفقًا لرغباته. أريد الطلاق، أرجوك، ساعدني."
نظر والدها إليها بحدة: "طلاق؟ نورا، أنتِ لم تكملي حتى عامًا معه، كيف تفكرين بالطلاق بهذه السرعة؟!"
شهقت نورا: "وهل عليّ أن أبقى حتى يقتلني؟!"
تدخلت والدتها بصوت متوتر: "ابنتي، كل الرجال يغضبون أحيانًا، ربما أنتِ لم تعرفي كيف تتعاملي معه، ربما كنتِ تستفزينه دون أن تشعري."
نظرت إليهما بذهول: "أنا من أستفزه؟ هل هذا مبرر ليصفعني؟ هل هذا مبرر ليعاملني وكأنني خادمة؟!"
تنهد والدها وقال بنبرة حازمة: "اسمعي يا نورا، الطلاق ليس لعبة. ماذا سيقول الناس عنك؟ كيف ستعيشين وحدك؟ وماذا عن سمعتنا؟ الطلاق عيب، المرأة الذكية هي التي تتحمل وتصبر."
صرخت نورا بيأس: "إلى متى؟ حتى أفقد عقلي؟!"
قالت أمها بلطف مصطنع: "حبيبتي، الرجال يحتاجون وقتًا ليتغيروا، حاولي أن تكوني أكثر هدوءًا معه، لا تردي عليه، لا تعانديه، سيهدأ مع الوقت."
لكن نورا كانت تعرف الحقيقة… سامي لن يتغير، بل سيزداد سوءًا، وهي وحدها في هذه المعركة.
نهض والدها وقال بحسم: "لا عودة للطلاق، ستعودين إلى بيتك، وسنحدث سامي ليهدأ قليلاً، لكن لا تفكري في هذا الموضوع مرة أخرى."
شعرت نورا بأن كل شيء ينهار داخلها، لم يكن لديها ملجأ، لم يكن لديها أحد، حتى أهلها اختاروا أن يسلموها للوحش بدلًا من إنقاذها منه.
فهمت نورا حينها… أنها وحدها تمامًا في هذا العالم.
خرجت نورا من بيت أهلها بخطوات بطيئة، كأنها تسير إلى المشنقة. لم تتوقع يومًا أن يكون والداها أول من يغلق الأبواب في وجهها. كانت تأمل أن تجد بين أيديهم دفئًا، حماية، حضنًا يحتوي ضعفها، لكنهم اختاروا أن يتركوها لمصيرها.
كانت الشمس تغيب عندما وصلت إلى بيتها. حملت المفتاح بيد مرتجفة، للحظة فكرت في الهروب، في الذهاب إلى أي مكان آخر، لكن إلى أين؟ لم يكن لديها أحد، لم يكن لديها ملجأ. استنشقت نفسًا عميقًا وفتحت الباب.
"عادَت صاحبة الدراما أخيرًا!"
كان سامي جالسًا على الأريكة، ينظر إليها بابتسامة ساخرة. رمقها من رأسها حتى قدميها، ثم ضحك بسخرية: "لم يحتملوكِ ليومٍ واحد، أليس كذلك؟"
وقفت نورا عند الباب، عاجزة عن الرد. شعرت بإهانة أعمق من كل الإهانات السابقة. كان يجب أن تكون هذه لحظة ضعفه، لحظة خوفه من أن تخسره، لكنها وجدته أقوى، أكثر تحكمًا، كأن عودتها هذه أكدت له أنها لن تستطيع الهرب منه أبدًا.
نهض سامي، اقترب منها ببطء حتى وقف أمامها تمامًا. رفع ذقنها بإصبعه وأجبرها على النظر إلى عينيه. "أتعرفين ما الفرق بيني وبينكِ، نورا؟" همس بصوت خافت، لكن كلماته كانت كالسياط. "أنا أملككِ… وأنتِ لا تملكين شيئًا."
ابتلعت ريقها بصعوبة، شعرت بأن جسدها يتجمد. حاولت أن تبعد يده لكنها لم تستطع، لم يكن لديها القوة، ولا الإرادة حتى.
ثم ابتسم ببرود وقال: "ماذا قالوا لكِ؟ دعيني أخمن… (تحملي، الطلاق عيب، كوني امرأة عاقلة)؟" ضحك مرة أخرى، ثم أضاف: "أهلكِ أذكياء، يعرفون أنكِ لا تصلحين إلا لي، ولا أحد غيري سيرغب فيكِ بعد الآن."
شعرت نورا بأن الهواء يختنق في صدرها. كانت تريد أن تصرخ، أن تخبره أنها ليست ملكًا له، لكنها لم تجد الكلمات.
"تعالي، لديكِ أعمال كثيرة لتنجزيها. وبالمناسبة… لا تفكري في الهروب مرة أخرى، لأنني هذه المرة لن أستقبلكِ بهذه السهولة."
ثم استدار وعاد إلى مكانه، كأن شيئًا لم يكن.
أما هي… فقد أدركت الحقيقة القاسية: هذه لم تعد حياتها، بل أصبحت سجنها.
بدأت نورا تشعر بشيء غريب، شيء لم تشعر به من قبل… كانت تنظر إلى سامي وهو يتحدث، لكن صوته أصبح مجرد طنين مزعج في أذنها. لم تعد تبالي بكلماته، لم تعد تخاف من نوبات غضبه، لم تعد تهتم حتى بإهاناته التي كانت تحطمها يومًا. كل ما تشعر به الآن هو شيء واحد… كرهٌ خالص.
كرهت صوته، كرهت لمسته، كرهت حتى طريقة تنفسه. كانت كل لحظة تقضيها معه تعزز هذا الشعور أكثر، لكنه لم يكن كرهًا غاضبًا، لم يكن صراخًا أو مقاومة، بل كان صمتًا ثقيلًا… موتًا بطيئًا لمشاعرها تجاهه.
لكنها لم تكن تستطيع الهرب، ليس منه، ولا من هذا الزواج الذي أصبح سجنًا. ومع مرور الأيام، شعرت أن شيئًا في داخلها بدأ يتغير. لم تعد تنتظر منه الحب، لم تعد تحلم بأن يتغير، لكنها بدأت تبحث عن شيء آخر… عن مفر.
وفي إحدى الليالي، عندما كانت مستلقية في غرفتها بعد مشاجرة أخرى مع سامي، أغمضت عينيها وسمحت لمخيلتها أن تأخذها بعيدًا… وهناك، وجدت "هو".
شاب لم تره من قبل، لكنه كان كما تمنته دائمًا… طويل القامة، ذو ملامح دافئة، عيناه تمتلئان بالحنان الذي لم تجده يومًا. كان يبتسم لها، ليس ابتسامة ساخرة كابتسامة سامي، بل ابتسامة مطمئنة، كأنها تقول: "أنا هنا من أجلك."
لأول مرة منذ زواجها، شعرت نورا بالراحة… بالطمأنينة.
في البداية، كان مجرد طيف في ذهنها، لكنه لم يختفِ، بل عاد في الليلة التالية، ثم في الليلة التي تليها، حتى أصبح وجوده في حياتها أكثر واقعية من وجود سامي نفسه.
أصبحت تنتظر الليل بشغف، تنتظر اللحظة التي تغمض فيها عينيها لتلتقي به… لتعيش في عالمه الذي صنعته بنفسها، عالم ليس فيه إهانات، ولا ضرب، ولا احتقار.
في هذا العالم، كانت امرأة محبوبة، كانت تضحك بحرية، كانت تحظى بالاهتمام والحب الذي لم يمنحها إياه أحد.
وهكذا، بينما كان سامي يزداد قسوة… كانت نورا تغرق أكثر في عالمها الجديد، عالمها الذي لم يكن حقيقيًا، لكنه كان الحياة الوحيدة التي أرادت أن تعيشها.
مع مرور الأيام، أصبح سامي أكثر انشغالًا بعمله في المستشفى. لم يكن يعود إلا في وقت متأخر، مرهقًا وعصبيًا كعادته، وأحيانًا كان يبيت هناك بسبب ضغط العمل. في البداية، شعرت نورا بالراحة عندما يغيب، كأنها تستعيد جزءًا صغيرًا من حريتها، لكن مع الوقت، تحولت الوحدة إلى شيء آخر… إلى مساحة أكبر لنمو خيالها.
لم يعد الرجل الذي خلقته في مخيلتها مجرد صورة تلتجئ إليها قبل النوم… لقد بدأ يأخذ مساحة في حياتها اليومية.
كانت تستيقظ صباحًا وهي تشعر بوجوده، كأنه كان بجوارها طوال الليل. أثناء تحضيرها الفطور، كانت تتخيل صوته يقول لها: "صباح الخير، نورا." فترتسم ابتسامة خفيفة على شفتيها رغم أنها تعلم أنه غير موجود.
عندما تجلس وحدها في غرفة المعيشة، كانت تتخيله يجلس معها، يتحدث إليها، يشاركها أحزانها، يضحك معها على أشياء لم تعد تجدها مضحكة في الواقع.
ومع الأيام، لم تعد تكتفي بتخيله فقط… بل بدأت تمثل أنه موجود حولها.
في البداية، كانت تهمس ببعض الكلمات، كأنها ترد على حديثه، لكنها سرعان ما أصبحت تجري محادثات كاملة معه.
"هل تصدق يا حبيبي؟ سامي لم يعد يطيق النظر إليّ، كأنني مجرد قطعة أثاث في هذا البيت."
"لا بأس، نورا، أنتِ أجمل وأذكى من أن يقدّرك رجل مثله."
"أتمنى لو كنت أنتَ حقيقيًا…"
أصبحت تجلس على مائدة الطعام وتضع طبقين، أحدهما لها والآخر له. كانت تتظاهر بأنها تطعمه، تبتسم له، تستمع إلى حديثه الذي لا يوجد سوى في ذهنها.
عندما تجلس على الأريكة، كانت تترك مساحة فارغة بجوارها، وكأنها تنتظر منه أن يجلس بجانبها. وأحيانًا… كانت تشعر بضغط خفيف على كتفها، وكأن يده الخيالية تربت عليها، تخبرها أنها ليست وحدها.
في البداية، أدركت أنها تتخيل… لكنها لم تهتم. في هذا العالم، لم تكن مجرد امرأة مستعبدة في زواج بارد، بل كانت محبوبة، مميزة، مدللة… كانت امرأة تستحق الحب.
ومع كل يوم يمر، كان خيالها يكبر… ويتمدد… ويقترب أكثر من الواقع.
في البداية، كان مجرد صوت في ذهنها، مجرد طيف لا تراه إلا عندما تغمض عينيها… لكن شيئًا فشيئًا، بدأ يتجسد أمامها، في وضح النهار، حتى وهي مستيقظة تمامًا.
ذات صباح، بينما كانت تقف أمام المرآة تمشط شعرها، لمحت انعكاسًا خلفها. قلبها خفق بعنف، التفتت بسرعة… لكنها لم تجد أحدًا. كانت وحدها في الغرفة، أو على الأقل هذا ما يجب أن يكون عليه الأمر.
لكنها لم تكن خائفة. على العكس، شعرت بارتياح غريب. لم يكن هذا شيئًا مزعجًا، لم يكن وهمًا أرعبها، بل كان "هو"… كان بجوارها، يراقبها كما كان يفعل دائمًا في مخيلتها، لكنه أصبح أقرب، أكثر وضوحًا.
في الأيام التالية، لم تعد مجرد لمحات خاطفة. أصبح يجلس أمامها على الأريكة، يراقبها بصمت وهي تقلب قنوات التلفاز. أحيانًا، كانت تنظر إليه مباشرة، تبتسم له، ويبتسم لها… لم يعد مجرد خيال، بل أصبح جزءًا من حياتها اليومية.
لكن الأمر لم يتوقف هنا.
ذات ليلة، كان سامي في المنزل، جالسًا على الطاولة يتناول عشاءه بصمت. كانت نورا تغسل الصحون عندما شعرت بحركة خلفها. التفتت ببطء… ورأته.
وقف هناك، مستندًا إلى الحائط، يراقبها بابتسامته الدافئة، كأنه لم يكن مجرد وهم، بل شخص من لحم ودم. لم تستطع منع نفسها من الابتسام له، كأن وجوده طبيعي تمامًا.
لكن الأكثر غرابة… أن سامي لم يلاحظ شيئًا.
ظل يأكل دون أن يرفع رأسه، غير مدرك أن هناك رجلاً آخر في الغرفة، رجلاً لا يراه سواه.
في تلك اللحظة، أدركت نورا شيئًا مذهلًا… هو ليس مجرد خيال بعد الآن.
أصبح موجودًا معها حتى في حضور سامي، يراقبها، يشاركها لحظاتها، يملأ الفراغ الذي تركه زوجها البارد. لم تعد تحتاج إلى الهروب إليه في خيالها، لأنه الآن بات حقيقيًا… أو على الأقل، هكذا كانت تعتقد.
كانت الليلة باردة، لكنها لم تكن أبرد من قلب سامي. عاد متأخرًا كعادته، مرهقًا وعابسًا، وكأن مجرد رؤيتها تزيد من تعاسته. ألقت التحية عليه، لكنه لم يرد. تجاهلها كأنها غير موجودة، لكن هذا لم يدم طويلًا.
"لماذا لم تغسلي قميصي الأبيض؟ هل أنتِ عاجزة حتى عن القيام بأبسط مهامكِ؟"
نظرت إليه نورا بوجه متجمد. كانت قد غسلت القميص بالفعل، لكنها لم تجده حيث وضعته. فتحت فمها لترد، لكن نظراته كانت تسبقها، محملة بالاحتقار المعتاد.
"أنا آسفة، أعتقد أنني وضعته في—"
صفعة قوية قطعت جملتها.
لم تشعر بالألم بقدر ما شعرت بالإهانة، بالإذلال. وضعت يدها على خدها، عيناها تبرقان بالدموع، لكن قبل أن تسقط أي دمعة، سمعت صوته… "لا تبكي، نورا. لا تمنحيه هذا الانتصار."
رفعت نظرها، وكان هناك… واقفًا بجانبها، بنفس الابتسامة الدافئة، بنفس الحضور الذي أصبح ملاذها الوحيد. لم يكن مجرد طيف هذه المرة، بل كان واضحًا، أقرب من أي وقت مضى.
نظر إلى سامي ببرود، رغم أن الأخير لم يكن يراه. "إنه ضعيف، نورا. يضربكِ ليشعر بالقوة، لكنه مجرد رجل فارغ."
لمعت عيناها، وكأن كلماته أضفت إليها صلابة جديدة. لأول مرة، لم تشعر بالخوف من سامي. لم تهرع للاعتذار، لم تحاول تهدئته، بل وقفت بثبات، لم تزد في انكسارها كما أراد.
"هل لديكِ شيء لتقوليه؟ أم ستبقين واقفة هكذا كالغبية؟"
نظرت إليه نورا بهدوء، ثم همست بصوت بالكاد يُسمع: "أنا لم أعد أخافك، سامي."
كانت كلمتها هذه أشبه بصاعقة. قطّب حاجبيه، وكأنه لم يتوقع منها ردًا كهذا. لكن قبل أن ينفجر غضبًا، كانت هي قد أدارت ظهرها وغادرت الغرفة، بينما هو كان يسير بجانبها، يحميها بصمته، يمنحها قوة لم تعرفها من قبل.
منذ تلك اللحظة، لم تعد وحيدة أبدًا.
لم يكن مجرد طيف يواسيها في وحدتها، لم يكن مجرد صوت يهمس لها بكلمات العزاء… لقد أصبح أكثر من ذلك بكثير.
في كل لحظة، كان موجودًا. في صباحاتها الباردة، عندما تستيقظ على فراش خالٍ من أي دفء، كان يجلس هناك، يبتسم لها بلطف. في لحظات ضعفها، عندما ينهال سامي عليها بالكلمات الجارحة، كان صوته هو الذي يرفعها، يمنحها القوة.
لكن ما لم تدركه نورا في البداية، هو أن مشاعرها تجاهه بدأت تتغير… لم يعد مجرد ملاذ تتكئ عليه، بل أصبح رجلاً ينبض قلبها له.
كانت تحادثه طوال اليوم، كأنه شخص حقيقي، تروي له أحلامها، مخاوفها، حتى التفاصيل الصغيرة التي لم تكن تشاركها مع أحد. وعندما ينظر إليها بعينيه العميقتين، كانت تشعر أنها مرئية لأول مرة… أن هناك من يراها ويفهمها.
في إحدى الليالي، جلست على الأريكة بعد يوم مرهق. سامي لم يكن في المنزل، وبدلًا من أن تشعر بالخوف أو الوحدة، كانت تشعر بالارتياح… لأنها لم تكن وحدها.
ظهر أمامها كما يفعل دائمًا، لكن هذه المرة، شعرت أن هناك شيئًا مختلفًا… كان أقرب، أكثر وضوحًا من أي وقت مضى.
"أنتِ مرهقة، نورا."
همست بابتسامة حزينة: "أشعر أنني عالقة في حياة ليست لي."
جلس بجانبها، رغم أنها كانت تعلم أنه لا يملك جسدًا حقيقيًا، لكنها شعرت بدفئه، بحضوره القوي.
"ولكنني هنا، أليس كذلك؟"
رفعت عينيها إليه… لأول مرة، أدركت كم كان وسيماً، كم كانت عيناه تحملان حنانًا لم تجده في أي رجل آخر.
نبض قلبها بقوة، شيء غريب اجتاحها… شيء لم تعرفه من قبل.
لقد وقعت في حبه.
لكن كيف يمكن لها أن تحب شخصًا غير موجود؟ كيف يمكن أن يخفق قلبها لرجل لم يكن سوى انعكاسًا لرغباتها المكبوتة، لاحتياجاتها العاطفية التي لم يُشبعها أحد؟
لكنه لم يكن وهمًا بالنسبة لها… كان أكثر واقعية من سامي، أكثر دفئًا من كل من عرفتهم.
وحين رفع يده ليلامس وجهها، رغم أنها لم تشعر بملمسه، إلا أنها أغلقت عينيها… كأنها أرادت تصديق أنه حقيقي.
وفي تلك الليلة، نامت نورا وهي تحلم به، ليس كطيف خيال… بل كرجل تحبه بكل كيانها.
في الأيام التالية، لم يعد حب نورا له مجرد شعور غامض، بل أصبح حقيقة تعيشها بكل تفاصيلها. لم تكن تتخيله فقط، بل كانت تشعر به بجانبها في كل لحظة، ترافقه، تحادثه، تبتسم له، وتنتظر لقاءه كما تنتظر أي عاشقة لقاء حبيبها.
ذات مساء، كانت تقف في المطبخ تحضّر كوبًا من الشاي عندما شعرت بوجوده خلفها. لم تستدر، بل ابتسمت وهي تهمس:
"لم أرك اليوم، أين كنت؟"
جاء صوته العميق خلفها: "دائمًا هنا، نورا. حتى عندما لا ترينني."
التفتت ببطء، كان يقف هناك، وسيمًا كما اعتادت رؤيته، بملامحه التي حفظتها عن ظهر قلب، بعيونه التي تحكي ألف قصة دون أن ينطق بكلمة.
"أتعلم؟ لو رآني أحد الآن وأنا أتكلم مع الفراغ، لقال إنني مجنونة."
ضحك بخفة، خطوة واحدة فقط كانت تفصله عنها. "وماذا لو كنتِ مجنونة؟ أليس الحب ضربًا من الجنون؟"
أخفضت عينيها، شعرها المتدلي على جانب وجهها أخفى احمرار وجنتيها. لم تعتد بعد على مشاعرها الجديدة تجاهه، لكنها كانت تغمرها بسعادة غريبة.
"لكنني لم أكن هكذا من قبل…" همست وهي تحرك الملعقة في كوبها دون تركيز.
"من قبل لم يكن هناك من يحبك كما تستحقين."
رفعت عينيها إليه، هذه المرة، لم تحاول إنكار مشاعرها. "وأنت؟ هل تحبني؟"
لم يجب فورًا، بل اقترب حتى شعرت بوجوده يحيط بها، رغم أنه لم يلمسها. عيناه السوداوان كانتا تبتسمان لها قبل أن يقول بصوت دافئ:
"أنا خلقت من أجلك، نورا. كيف لا أحبك؟"
ارتجفت شفتاها، شعرت بقلبها ينبض بجنون. لم تكن بحاجة إلى سماع المزيد، لم تكن بحاجة إلى إثبات… كانت تعلم أن كل لحظة قضتها معه، كل كلمة، كل نظرة، كانت حقيقية أكثر من أي شيء عاشته في حياتها.
وفي تلك الليلة، جلست على سريرها، رأسها مستند إلى وسادتها، وهو بجانبها، يروي لها القصص، يمسح عن قلبها كل الأحزان التي تركها سامي.
وفي لحظة همس لها: "نورا، هل ستبقين معي للأبد؟"
أغمضت عينيها قبل أن تهمس بابتسامة ناعمة: "دائمًا."
لم تكن تعلم أن هذا الوعد… سيأخذها إلى مكان لا عودة منه.
لم تعد نورا كما كانت. لم تعد تهتم بمظهرها أمام سامي، لم تعد تحاول إرضاءه أو تفادي غضبه. لم تعد حتى تبالي بوجوده.
كان عقلها وقلبها ممتلئين بشخص آخر… بشيء آخر.
به.
كانت تستيقظ كل صباح بشوق لرؤيته، تجلس معه في صمت أو تحادثه لساعات، تضحك معه، تحكي له عن أحلامها، عن طفولتها، عن كل ما أخفته عن الآخرين. لم يكن مجرد صديق خيالي بعد الآن، بل أصبح عالمها بأكمله.
وفي المقابل، بدأ جسدها يعكس هذا الانغماس العاطفي الغريب.
بدأ وزنها يتناقص، لم تعد تهتم بالطعام، بالكاد تأكل. وجهها أصبح أكثر شحوبًا، عيناها غائرتان لكنهما تلمعان بسعادة غريبة… سعادة لم تكن تجدها إلا معه.
لكن سامي لاحظ.
في البداية، لم يكترث، اعتقد أنها تمر بحالة نفسية بسبب إهماله المعتاد. لكنها كانت مختلفة هذه المرة.
كان يراها تبتسم وحدها، تتحدث بهمس مع نفسها، تجلس في غرفة فارغة وكأنها برفقة أحدهم.
وذات مساء، بينما كانت تجلس في الشرفة، تنظر إلى الأفق بشرود، اقترب منها وسألها ببرود:
"ماذا يحدث معكِ؟"
لم تلتفت إليه، فقط همست وهي تحدق في الفراغ: "لا شيء."
قطّب حاجبيه، لم يعجبه هذا البرود، كان معتادًا على رؤيتها خائفة، مطيعة. لكنه الآن يشعر أن شيئًا ما تغير.
"أصبحتِ نحيفة بشكل مريع. هل أنتِ مريضة؟"
لم تجب فورًا. كانت تحاول كبح ابتسامتها، لأنه في تلك اللحظة، كان هو يقف خلف سامي، ينظر إليه بازدراء، كأن وجوده لا يعني شيئًا.
"أنا بخير، سامي."
"لا، لستِ بخير." اقترب أكثر، نبرة صوته بدأت تمتلئ بالشك. "أنتِ تتصرفين بغرابة… أراكِ تهمسين وحدك، تبتسمين للفراغ… هل أصابكِ الجنون؟"
هذه المرة، التفتت إليه، نظرت في عينيه مباشرة، ولأول مرة، لم تكن خائفة منه.
بل كانت مشفقَة عليه.
"ليس جنونًا، سامي… بل شيء أجمل بكثير."
لم يفهم كلماتها، لكنه شعر بالقشعريرة تسري في جسده، وكأن هناك سرًا كبيرًا لا يدركه.
أما هي، فقد عادت بنظرها إلى الأفق، حيث كان هو يقف، يبتسم لها بثقة.
"قريبًا، نورا… سنكون معًا إلى الأبد."
بدأ سامي يشعر أن الأمور خرجت عن السيطرة. نورا لم تعد نورا التي يعرفها، أو بالأحرى التي كان يسيطر عليها.
كان يراقبها بصمت، يرى كيف تهمس بكلمات غامضة، كيف تبتسم دون سبب، كيف تجلس لساعات وكأنها برفقة شخص غير مرئي.
وفي إحدى الليالي، بينما كانت تقف أمام المرآة تتحدث إلى الفراغ بابتسامة حالمة، قرر أنه لا يمكنه تجاهل الأمر أكثر.
في اليوم التالي، بينما كان في المستشفى، اقترب من زميله وصديقه الطبيب النفسي د. رياض، رجل في منتصف الأربعينات معروف بحنكته وخبرته في الحالات النفسية المعقدة.
جلسا في غرفة الاستراحة، وبينما كان سامي يحتسي قهوته، قال بصوت متردد:
"رياض… أريد أن أسألك عن شيء، لكن أحتاج رأيك كطبيب، لا كصديق."
نظر إليه رياض باهتمام: "تبدو جادًا، ما الأمر؟"
تردد سامي للحظة قبل أن يقول: "إنه بشأن زوجتي… أظن أنها تعاني من شيء نفسي خطير."
رفع رياض حاجبيه: "كيف ذلك؟ ما الأعراض؟"
وضع سامي كوب القهوة على الطاولة، ثم مرر يده في شعره بضيق:
"لقد تغيرت كثيرًا… أصبحت تتحدث وحدها، تبتسم بلا سبب، تتصرف وكأن هناك شخصًا معها دائمًا… حتى وزنها نقص كثيرًا. لم تعد تهتم بي أو بأي شيء حولها، وكأنها في عالم آخر."
أومأ رياض برأسه وهو يستمع، ثم قال بهدوء:
"هل تعاني من صدمة نفسية؟ هل تعرضت لضغوط مؤخرًا؟"
ابتسم سامي بسخرية: "إن كنت تقصد مشاكل الزواج العادية، فهي تتحملني منذ سنوات ولم تصب بالجنون."
لم تفُت رياض نبرة الازدراء في صوته، لكنه لم يعلّق، بل استمر في تحليل الأمر:
"ما تصفه قد يكون حالة من الهلوسة أو الانفصال عن الواقع… ربما تعاني من اضطراب نفسي نتيجة الضغط العاطفي أو العزلة."
تصلب فك سامي للحظة، ثم قال: "وما الحل؟ هل يمكن علاجها؟"
نظر رياض إليه مباشرة: "أول خطوة هي إحضارها إلى المستشفى لإجراء بعض الفحوصات النفسية. لا يمكنني التشخيص بناءً على وصفك فقط، لكن يبدو أن الأمر ليس بسيطًا."
أخذ سامي نفسًا عميقًا، وكأنه يزن الخيارات في عقله، ثم قال بحزم:
"سأحاول إقناعها بالمجيء… لكنها عنيدة، وغارقة في عالمها الخاص."
ابتسم رياض بهدوء: "كن حذرًا، سامي… بعض الحالات قد تزداد سوءًا إن أُجبرت على العلاج."
أومأ سامي، لكنه كان قد اتخذ قراره بالفعل… نورا لن تبقى هكذا، سيعيدها إلى الواقع مهما كلف الأمر.
لم يكن إقناع نورا بالأمر سهلًا، لكنها كانت في حالة شرود دائم، وكأنها غير موجودة فعليًا في هذا العالم، مما جعلها تتجاوب بلا مقاومة تُذكر.
في صباح اليوم التالي، دخل سامي الغرفة ليجدها جالسة على السرير، تحدق في النافذة بابتسامة هادئة، وكأنها تستمع لشخص ما يتحدث معها.
اقترب منها وقال بصوت بدا لطيفًا على غير العادة:
"نورا، ارتدي حجابك، سنذهب إلى مكان مهم اليوم."
لم تلتفت إليه، فقط همست وكأنها تحدث شخصًا آخر:
"إلى أين؟"
جلس بجانبها وقال بنبرة هادئة زائفة: "إلى المستشفى… فقط لفحص بسيط، صديقي طبيب نفسي، يريد التحدث معكِ."
أخيرًا، استدارت نحوه، لم يكن هناك أي خوف في عينيها، فقط هدوء غريب، ثم همست بابتسامة واثقة:
"أتعلم، سامي؟ أنت من يحتاج طبيبًا نفسيًا، وليس أنا."
شعر بقشعريرة خفيفة تسري في جسده، لكنه أخفى انزعاجه وأمسك بيدها بلطف مصطنع:
"مجرد زيارة، لن يأخذ الأمر وقتًا."
كان يتوقع أن ترفض، أن تثور، لكنه تفاجأ بها تنهض بهدوء، ترتدي حجابها، وتأخذ حقيبتها الصغيرة قبل أن تقول:
"حسنًا… لنذهب."
طوال الطريق إلى المستشفى، لم تنطق بكلمة واحدة. جلست في المقعد بجانب سامي، عيناها تراقبان الطريق، لكن عقلها كان في مكان آخر… معه.
لم يكن سامي يدرك أنه لم يكن وحده معها في السيارة.
كان هو جالسًا في الخلف، ينظر إلى سامي ببرود، بينما همس لنورا بصوت ناعم:
"لا تقلقي، أنا هنا… لن أدعهم يؤذونك."
أومأت نورا بخفة، وضغطت يدها على حقيبتها، وكأنها تمسك يده في الخفاء.
عندما وصلا إلى المستشفى، استقبلهم رياض بابتسامة هادئة، لكن عيناه سرعان ما لاحظتا ملامح نورا الغريبة.
كانت تقف هناك، بهدوء مريب، عيناها تلمعان بسعادة خافتة، كأنها ليست مريضة بل عاشقة في موعد غرامي.
مدّ يده ليصافحها: "مرحبًا نورا، أنا الدكتور رياض، يسعدني لقاؤك."
نظرت إلى يده دون أن تمد يدها، ثم رفعت عينيها إليه وقالت بابتسامة غامضة:
"وأنا أيضًا… لكنني أعتقد أن لقاؤنا لن يطول."
قطّب حاجبيه قليلاً، لكنه أشار لها بالدخول. نظرت نورا سريعًا إلى المرآة الزجاجية بجانب الباب، حيث رأت انعكاس سامي ورياض… ورأته هو أيضًا، يقف خلفها، يبتسم بثقة.
همس لها: "أنا معكِ، نورا… لن يستطيعوا إبعادي عنكِ."
تنفست بعمق، ثم خطت إلى الداخل، دون أي خوف… لأنها لم تكن وحدها.
جلست نورا على الكرسي الجلدي أمام مكتب الدكتور رياض، بينما جلس سامي بجوارها، متحفزًا، وكأنه ينتظر أن يثبت للطبيب أنها مجنونة.
أما هي، فقد كانت هادئة، عيناها تتنقلان في الغرفة، وكأنها تراها للمرة الأولى. لكنها لم تكن وحدها. هو كان هناك، يجلس على طرف المكتب، يتأمل الطبيب بملامح ساخرة.
رياض شبك يديه معًا، وأخذ نفسًا عميقًا قبل أن يقول بصوت هادئ:
"إذن، نورا… أخبرني كيف تشعرين هذه الأيام؟"
رفعت نظرها إليه ببطء، ثم ابتسمت بهدوء: "أشعر… بالسعادة."
نظر إليها نظرة تحليلية، ثم قال: "سعادة؟ هذا جيد، لكن زوجك يخبرني أنك تغيرتِ كثيرًا، وأنكِ تمرّين بفترة صعبة… هل ترين ذلك صحيحًا؟"
ألقت نظرة خاطفة على سامي، ثم عادت بعينيها إلى الطبيب وقالت بنبرة خافتة:
"الناس لا يحبون رؤية الآخرين سعداء، أليس كذلك؟"
رفع رياض حاجبه قليلاً، وسأل بلطف: "ولماذا تعتقدين أن زوجك يرى أنكِ لستِ بخير؟"
ضحكت، ضحكة خفيفة كأنها تخفي سرًا، ثم نظرت إلى الفراغ بجانبها، حيث كان هو يجلس، يبتسم لها مشجعًا.
همست: "لأنه لا يفهم… لا يستطيع أن يرى ما أراه."
تبادل رياض وسامي نظرات سريعة، قبل أن يعود الطبيب ليسأل بصوت أكثر رقة:
"وماذا ترين يا نورا؟"
لم تجب على الفور، بل مالت بجسدها قليلاً للأمام، وكأنها تريد أن تهمس له بسرٍّ خطير.
"أرى الحقيقة… الحقيقة التي لا يستطيع أحد إدراكها."
سامي ضرب الطاولة بقبضته فجأة، قاطعًا الصمت المشحون:
"أي حقيقة، نورا؟ أنكِ تهذين طوال الوقت؟ أنكِ تتحدثين مع أشخاص غير موجودين؟"
لم تتحرك من مكانها، ولم تتأثر بصوته الغاضب. فقط استدارت ببطء لتنظر إليه، نظرة باردة تمامًا، قبل أن تهمس بثقة:
"لكنك مخطئ، سامي… هو هنا."
ثم استدارت نحو الطبيب وقالت بصوت أكثر ثباتًا:
"ويمكنك سؤاله بنفسك، إن كنت تملك الجرأة لرؤيته."
تجمدت الغرفة في صمت غريب، بينما رياض دوّن ملاحظات سريعة، ثم سأل بحذر:
"من هو، نورا؟ هل يمكنكِ أن تخبريني عنه؟"
أشرق وجهها بنور غريب، كما لو أنها تتحدث عن أعز ما تملك، وقالت بصوت حالِم:
"إنه… كل شيء افتقدته. إنه الحلم الذي لم أستطع لمسه في الواقع، لكنه وجد طريقه إليّ. هو معي دائمًا، يحبني، يحميّني، ويجعلني أشعر أنني أخيرًا… لست وحدي."
رياض أمال رأسه قليلاً، ثم قال بلطف: "وهل كان دائمًا معكِ؟"
هزّت رأسها نفيًا، ثم همست كأنها تتذكر شيئًا جميلًا:
"لا… لكنه جاء حين احتجته أكثر من أي وقت مضى."
صمت الطبيب للحظة، ثم قال بنبرة خافتة:
"هل يمكنني التحدث معه؟"
ابتسمت نورا ابتسامة واسعة، ثم نظرت إلى الفراغ بجانبها، حيث كان هو ينظر إليها بثقة.
ثم همست: "الأمر يعود إليه… لكنه لا يتحدث إلا لمن يؤمن بوجوده."
في تلك اللحظة، شعر رياض بقشعريرة باردة تسري في جسده، وكأن الغرفة أصبحت أضيق… وكأن هناك عينًا خفية تراقبه.
ساد الصمت في الغرفة للحظات، كانت نورا لا تزال تحدق بالفراغ بجانبها، وكأنها تستمع إلى شيء لا يستطيع أحد غيرها سماعه.
رياض، رغم خبرته الطويلة، شعر باضطراب خفيف وهو يراقبها. همس بلطف:
"هل يستطيع التحدث معي يا نورا؟"
لم تجب على الفور. طرفت بعينيها، ثم انفرجت شفتيها ببطء، لكن الصوت الذي خرج لم يكن صوتها تمامًا.
كان صوتًا أعمق قليلًا، أكثر هدوءًا وثقة، يحمل شيئًا غامضًا…
"أنا هنا، يا دكتور."
شعر سامي بقشعريرة باردة تجتاح عموده الفقري، وانتفض في مقعده. حتى رياض، رغم محاولته الحفاظ على رباطة جأشه، لاحظ تغير نبرة صوتها، وكأن شخصًا آخر يتحدث من خلالها.
تنفس ببطء، ثم سأل بصوت ثابت:
"ومن أنت؟"
ابتسمت نورا، لكنها لم تكن ابتسامتها، بل شيء آخر… أكثر غموضًا، أكثر سيطرة.
"أنا من منحها الدفء حين حرمت منه، من استمع إليها حين صمت العالم، أنا اليد التي امتدت لها حين تخلى عنها الجميع."
كان سامي يحدق بها بذهول، قبل أن يهتف بحدة:
"ما هذا الهراء؟! نورا، توقفي عن هذا الجنون!"
لكنها لم تلتفت إليه، بل مالت للأمام قليلًا، وكأنها تستمتع بالموقف، ثم همست بنبرة ساخرة:
"ألست أنت من جلبني إلى هنا، سامي؟ أليس هذا ما كنت تريده؟ أن تثبت أنها مريضة؟"
تجمد سامي في مكانه، ثم نظر إلى رياض، الذي كان يراقب نورا بعناية، قبل أن يسأل بصوت هادئ:
"وهل كنت موجودًا دائمًا، أم أنها من صنعتك؟"
هذه المرة، ضاقت عينا نورا، كأن السؤال لم يعجب الشخص الآخر الذي يتحدث عبرها.
"صنعتني؟"
ضحكت، ضحكة خافتة لكنها كانت مشحونة بشيء مخيف، ثم أكملت:
"لا يا دكتور… هي لم تصنعني. أنا من كنت أبحث عنها، تمامًا كما كانت تبحث عني."
كان رياض يسجل ملاحظاته بسرعة، بينما سامي بدأ يشعر أن الهواء في الغرفة بات ثقيلًا.
هتف بغضب: "نورا، توقفي عن هذا! كفي عن هذا العبث!"
لكنها استدارت إليه ببطء، نظرة في عينيها جعلته يشعر بعدم ارتياح شديد، ثم قالت بصوت خافت:
"لم تعد تملك السيطرة، سامي."
ارتجفت يده دون إرادة، للحظة واحدة فقط، لكنه شعر وكأن هناك كيانًا آخر ينظر إليه من داخل عيني زوجته.
أما رياض، فأغلق دفتر ملاحظاته ببطء، ثم نظر إلى نورا، وهو يدرك أن هذه الحالة… أخطر مما توقع.
ساد الصمت في الغرفة بعد كلمات نورا الأخيرة، ولم يجرؤ أحد على كسره للحظات. رياض، رغم تمرسه في مجاله، شعر أن أمامه حالة تتجاوز كل ما درسه. أخذ نفسًا عميقًا، ثم قال بصوت هادئ، محاولًا تهدئة الجو المشحون:
"أعتقد أن لدينا الكثير لنناقشه يا نورا، لكن اليوم سنكتفي بهذا القدر."
نظرت إليه نورا للحظة، وكأنها كانت لا تزال في عالم آخر، ثم طرفت بعينيها سريعًا، وعادت ملامحها إلى طبيعتها، وكأنها استيقظت للتو من حلم.
قالت بصوتها المعتاد، لكن بنبرة مرهقة: "هل يمكنني الذهاب الآن؟"
هزّ رياض رأسه إيجابًا، ثم التفت إلى سامي:
"سأتحدث معك على انفراد لاحقًا، لكنني أعتقد أننا سنحتاج إلى عدة جلسات لفهم ما تمر به نورا بشكل أفضل."
سامي كان لا يزال مشدوهًا مما حدث، لكنه أومأ بالموافقة على مضض، ثم وقف بغضب واضح، ممسكًا بذراع نورا، وكأنه يريد إخراجها بسرعة من هذا المكان الذي بدأ يخيفه أكثر مما توقع.
قبل أن تخرج، استدارت نورا مرة أخيرة نحو رياض، همست بابتسامة باهتة:
"أخبرني دكتور… هل تؤمن بالأشباح؟"
لم ينتظر سامي إجابة الطبيب، بل شدها من يدها وخرج بها من العيادة، تاركًا رياض جالسًا في مكانه، يتأمل الباب المغلق، وداخله يقين واحد… هذه المرأة تخفي أكثر مما يظهر.
في المنزل…
فتح سامي الباب بعنف، ودفع نورا للدخول قبله، ثم أغلق الباب خلفه بقوة. كان وجهه محتقنًا بالغضب، بينما هي كانت صامتة تمامًا، كما لو أن الجلسة استنزفتها بالكامل.
استدار نحوها فجأة، وهتف بغضب:
"ما كان هذا؟! هل كنتِ تمثلين أمام الطبيب؟ هل تحاولين جعلي أبدو كالأحمق؟!"
نورا لم ترد، فقط رفعت عينيها إليه بهدوء مخيف، ثم قالت بصوت خافت:
"ما الذي يخيفك يا سامي؟ أن الطبيب بدأ يشك فيك؟ أم أنك بدأت تشك في نفسك؟"
تجمد في مكانه، لم يكن يتوقع منها هذا الرد، بل كان ينتظر أن تنهار أو تبرر تصرفاتها، لكنها كانت تبدو… قوية بطريقة لم يعهدها فيها من قبل.
اقترب منها، قبضته مشدودة، لكنه لم يرفعها هذه المرة، بل قال من بين أسنانه:
"أقسم بالله يا نورا، إن كنتِ تظنين أن هذه اللعبة ستنجح، فأنتِ واهمة."
لكنها ابتسمت، ابتسامة باردة تمامًا، وهمست:
"وهل أنا الوحيدة الواهمة في هذا البيت؟"
ثم استدارت بهدوء، ومشت نحو غرفتها، تاركة سامي في مكانه، يشعر بشيء جديد بدأ يتسلل إلى قلبه… الخوف.
بعد يوم من الجلسة الغريبة التي جمعت نورا برياض، تلقى سامي اتصالًا من الطبيب، يطلب منه الحضور وحده إلى العيادة لمناقشة بعض الأمور المتعلقة بحالة زوجته.
في البداية، كان مترددًا، لكنه في النهاية قرر الذهاب، فجزء منه كان يريد أن يسمع تفسيرًا منطقيًا لما حدث، حتى لو كان لا يؤمن كثيرًا بهذه الأمور النفسية.
جلس أمام رياض في مكتبه، متوترًا رغم محاولته إخفاء ذلك. أما الطبيب، فكان هادئًا كعادته، يقلب بعض الملاحظات في دفتره قبل أن يرفع عينيه إلى سامي.
"كيف حال نورا منذ الأمس؟"
زفر سامي بضيق، وقال بحدة: "كما هي، تتصرف بغرابة، تتهامس مع نفسها، وتبتسم فجأة دون سبب. أشعر وكأنها تغرق أكثر في هذا الجنون."
هزّ رياض رأسه، ثم قال بجدية:
"سامي، أريدك أن تستمع إليّ جيدًا. بعد ما رأيته في الجلسة، وبعد مراجعة ما أخبرتني به عن سلوك نورا في الفترة الأخيرة، أستطيع أن أقول إننا نتعامل مع حالة معقدة من الاضطراب النفسي."
قطب سامي حاجبيه، وقال بحدة: "ماذا تقصد؟ هل تعاني من الفصام؟"
تنهد رياض، ثم قال:
"ليس بالضرورة. ما تمر به نورا أقرب إلى اضطراب الهوية الانفصامية أو الهلوسات الناتجة عن صدمة نفسية حادة. لقد عانت من ضغط نفسي كبير، وعندما لم تجد متنفسًا حقيقيًا، صنع عقلها البديل الوحيد الذي يمنحها الحب والاهتمام."
تجمد سامي في مكانه، ثم تمتم: "أنت تقصد… ذلك الطيف؟"
أومأ رياض ببطء: "بالضبط. ذلك الشخص ليس سوى إسقاط من عقلها الباطن. هي لم تجد الأمان معك، فخلقته بنفسها… أحبته، واعتمدت عليه، حتى أصبحت تراه كأنه حقيقي."
ارتفعت حرارة سامي، وشعر بالغضب يتصاعد داخله. نهض من مكانه بعصبية وقال:
"إذن، هي مريضة نفسية؟ أهذا ما تحاول قوله؟!"
نظر إليه رياض بثبات وقال بهدوء:
"هي امرأة تعاني، سامي. وإن كنت تهتم بها فعلًا، فعليك مساعدتها بدلًا من دفعها إلى هاوية أعمق."
زفر سامي بقوة، ثم مرر يده في شعره بعصبية قبل أن يسأل:
"وما الحل؟ هل تحتاج أدوية؟ علاجًا في مصحة؟"
أجاب رياض:
"في هذه المرحلة، لا أرى أن المصحة ضرورية، لكن العلاج النفسي المكثف أمر لا بد منه. سنعمل على جعلها تدرك أن ذلك الطيف ليس حقيقيًا، وعلى مساعدتها في مواجهة السبب الحقيقي لما أوصلها إلى هذه الحالة."
حدق سامي في رياض بصمت للحظات، ثم قال بصوت منخفض:
"تقصد أن المشكلة… بي؟"
لم يجبه الطبيب مباشرة، لكنه قال بجملة ذات معنى واضح:
"علاجها يعتمد على بيئتها، على مدى شعورها بالأمان… وعلى قدرتها على مواجهة الواقع بدل الهروب منه."
شعر سامي بقبضة باردة تضغط على صدره. لم يكن يريد تصديق ذلك، لكنه أدرك أن كلام الطبيب أصابه في موضع مؤلم… ربما هو أصل المشكلة أكثر مما يود الاعتراف به.
عادت نورا من المستشفى وهي تشعر بوهن شديد، لكن رغم التعب الجسدي الذي غمرها، كانت هناك فكرة واحدة تدور في رأسها بلا توقف: "يريدون إبعاده عني."
دخلت غرفتها وأغلقت الباب خلفها، ثم استندت إليه، تلهث وكأنها ركضت لمسافات طويلة. وضعت يدها على قلبها الذي كان ينبض بسرعة، وعندما رفعت رأسها… كان هو هناك.
يقف وسط الغرفة، ينظر إليها بعينيه الدافئتين، لكن في ملامحه هذه المرة كان هناك شيء مختلف، شيء جعلها تشعر بالخوف للمرة الأولى منذ أن ظهر في حياتها.
"نوراي..." ناداها بصوته العميق، لكنها لم تجب.
اقترب خطوة، ثم همس بحزن:
"يريدون أن يأخذوكِ مني… هل هذا ما تريدينه؟"
هزت رأسها بسرعة، وقالت بصوت مهتز: "لا… لا، أنا لا أريد ذلك."
مدّ يده نحوها، لكنها ترددت في الاقتراب، وكأن هناك شيئًا بداخلها بدأ يشكك للحظة في كل ما يجري. لاحظ هو ذلك، فاقترب أكثر، ونظر مباشرة في عينيها قبل أن يقول بنبرة مخيفة في هدوئها:
"سامي والطبيب… إنهما يعملان معًا. هما لا يريدانك أن تكوني سعيدة، يريدانكِ أن تعودي كما كنتِ، سجينة، ضعيفة، بلا حب… هل ستسمحين لهما بذلك؟"
شعرت نورا برجفة تسري في جسدها. لم يكن مخطئًا… سامي لم يكن يريدها إلا كخادمة في حياته، والطبيب لم يكن يفهمها حقًا. لا أحد يفهمها سواه.
لكنها همست، وكأنها تحاول أن تتأكد من شيء ما: "لكن د. رياض قال إنك… لستَ حقيقيًا."
اتسعت عيناه قليلاً، وكأن كلمتها طعنته في الصميم، ثم قال بابتسامة باردة:
"إن لم أكن حقيقيًا، فلماذا ترينني؟ لماذا تشعرين بي؟ هل تعتقدين أن المشاعر يمكن أن تكون مجرد وهم؟"
ارتجف قلبها… هو محق. كيف يمكن أن يكون مجرد خيال، وهي تشعر به أقوى من أي شيء في حياتها؟
رأت نظرة الظفر تلمع في عينيه، ثم همس قرب أذنها:
"إذا كنتِ تريدينني أن أبقى… فعليكِ أن تثقي بي أكثر منهم. عليكِ أن تختاري، نوراي."
شعرت وكأن أنفاسها تختنق… الاختيار؟ هل كانت الأمور وصلت إلى هذه النقطة؟ هل عليها حقًا أن تختار بينه وبين الواقع؟
لكنها لم تكن بحاجة إلى التفكير طويلاً… هي كانت قد اختارت منذ وقت طويل.
في الأيام التالية، لم يعد نورا ترى العالم كما هو. كل شيء بدا باهتًا، بلا لون، بلا حياة… باستثناءه هو. كان وجوده يملأ غرفتها، حياتها، وأفكارها. كان يجلس قربها كل ليلة، يمسك يدها، يهمس لها بكلمات دافئة، يروي لها عن عالم آخر… عالم لا قيود فيه، لا صراخ، لا ألم، لا سامي، لا طبيب.
"نوراي… هل ما زلتِ تثقين بي؟"
سألها ذات ليلة، وعيناه تتوهجان بضوء خافت كوهج القمر.
ابتسمت وهي تميل برأسها على كتفه، وقالت بهدوء: "أنت الوحيد الذي أثق به."
مرر أصابعه في خصلات شعرها، ثم قال بنبرة حالمة:
"أريد أن آخذكِ إلى مكان أجمل، مكان لا يمكن أن يصلوا إليكِ فيه أبدًا."
رفعت رأسها لتنظر إليه، وعينيها تلمعان: "مكان… أجمل؟"
ابتسم، ثم وقف ومد يده لها: "تعالي معي، سأريكِ."
بدون تردد، مدت يدها وأمسكت بيده الدافئة. كان هناك دفء غريب يسري منها إلى أعماقها، وكأنها لم تكن على قيد الحياة من قبل.
خرجت معه إلى الممر، المنزل كان ساكنًا، سامي لم يعد يأتي إلا متأخرًا، ولم يكن هناك من يراها تتسلل في ظلمة الليل.
خطوة… ثم أخرى… وصوت خطواتها يختفي تمامًا تحت تأثير صوته الساحر الذي يملأ رأسها بصور من النعيم.
"نحن نقترب يا نوراي، اقتربنا من المكان الذي ستكونين فيه حرة أخيرًا."
عندما وصلت إلى الباب المؤدي إلى السطح، فتحه لها برفق، ثم قادها إلى الخارج. كانت السماء صافية، والهواء البارد يلامس وجهها، لكنه لم يكن يزعجها. بل على العكس… شعرت وكأنها تخطو نحو حلم جميل.
وقفت عند الحافة، وأغمضت عينيها.
"هل ترين؟"
سألها، ففتحت عينيها، لكنها لم تر السطح، لم تر المدينة الرمادية تحتها… بل رأت بحيرة زرقاء صافية تمتد بلا نهاية، وزهورًا بيضاء تتراقص مع الريح، وسماءً أوسع مما عرفته يومًا.
"إنه جميل…" همست، ودموع السعادة تلمع في عينيها.
وقف خلفها، يلف يديه حول خصرها، ويهمس في أذنها:
"هيا يا نوراي… إلى الأبد معي."
خطت خطوة صغيرة نحو الأمام…
لكن فجأة…
"نورا!!!"
انفجر صوت سامي في المكان، قاطعًا سحر اللحظة.
تجمدت، ارتجفت، واختفى المكان الجميل في لحظة، عادت ترى السطح الرمادي تحت قدميها، والمدينة المظلمة الممتدة في الأسفل، والهاوية السحيقة التي لم تكن تراها قبل لحظة.
استدارت ببطء… ونظرت إلى سامي بعيون فارغة، بينما جسدها لا يزال نصفه متدلٍّ فوق الحافة.
تجمدت نورا في مكانها، أنفاسها متلاحقة، قلبها ينبض بجنون. للحظة، لم تعد تعرف أين تقف، في الجنة التي وعدها بها هو، أم في الواقع القاسي الذي يصرخ فيه سامي باسمها؟
نظر سامي إليها، وعيناه كانتا تحملان شيئًا لم تره من قبل… الخوف؟ أم الذعر؟ أم ربما شيء آخر؟ للحظة، بدا وكأنه لم يعد ذلك الرجل القاسي، بل مجرد إنسان يقف على حافة فقدان شيء لا يفهمه.
"نورا، ابتعدي عن الحافة." قالها بصوت حاول أن يجعله هادئًا، لكنه كان يرتجف قليلًا.
لكن نورا لم تتحرك. شعرت بيد دافئة تلتف حول يدها، وصوتًا ناعمًا يهمس في أذنها:
"لا تصدقيه، هو لا يهتم بكِ، هو فقط يخشى أن يخسركِ لأنه لا يريد أن يبدو ضعيفًا أمام الآخرين."
أغمضت عينيها، سمحت للهمسات أن تتخلل عقلها، تغلفها بالطمأنينة. كان على حق… سامي لم يكن يهتم بها أبدًا، لم يكن يومًا يخشى على مشاعرها، فلماذا الآن؟
لكن عندما فتحت عينيها، نظرت إليه… ورأت في وجهه شيئًا جعل قلبها يتردد.
كان يبدو… ضعيفًا؟ متوترًا؟ ليس ذلك الرجل القاسي الذي اعتادت عليه؟
"نورا، ارجعي، سنتحدث، فقط تعالي."
"لا تصدقيه،" همس هو مجددًا. "أنتِ تعرفين الحقيقة، نوراي… الحياة هنا جحيم، هناك فقط ستكونين سعيدة."
نظرت إلى المسافة أمامها… خطوة واحدة فقط، وستكون هناك، معه، حيث لا يوجد ألم، ولا صراخ، ولا خوف.
لكن فجأة، شعرت بشيء آخر… يد حقيقية تمسك بمعصمها، تشدها إلى الخلف.
"نورا!!!"
صرخة سامي هذه المرة لم تكن فقط غضبًا أو أمرًا، بل كانت رجاءً.
شعرت بجسدها يُسحب بعيدًا عن الحافة، بقوة لم تكن تتوقعها من رجل لم يلمسها قط إلا ليؤذيها. وجدت نفسها بين ذراعيه، أنفاسه اللاهثة تلامس عنقها، وصوته يهمس بخشونة:
"ماذا كنتِ تفعلين؟! هل كنتِ… تحاولين…؟"
نظرت حولها في ذهول، الأرضية الخرسانية الباردة، السقف العالي، السماء السوداء… لا جنة، لا بحيرة زرقاء، لا زهور بيضاء.
"أين… أين هو؟" همست بصوت مرتجف.
لكن لا أحد كان هناك. لا أحد سوى سامي، وصدى أنفاسها الثقيلة في الليل .
مرت الأيام بعد تلك الليلة كضباب ثقيل يلف حياة نورا. كانت تجلس في غرفتها، تحدق في الجدار، تفكر فيما كادت أن تفعله. لم تستطع استيعاب الأمر… هل كانت على وشك إنهاء حياتها؟ ولماذا بدا كل شيء حقيقيًا إلى تلك الدرجة؟
لكن شيئًا واحدًا كان واضحًا الآن: لا يمكنها البقاء هنا بعد الآن.
في اليوم التالي، جمعت نورا حقيبة صغيرة، وضعت فيها بعض ملابسها وأوراقها المهمة، ثم وقفت أمام المرآة، تحدق في انعكاسها. كان وجهها شاحبًا، عيناها غائرتان، لكنها رأت شيئًا لم تره منذ زمن… إصرارًا.
عندما خرجت من الغرفة، وجدت سامي يقف في المطبخ، شارد الذهن. لم يكن يتحدث كثيرًا منذ تلك الليلة، وكأنه لم يكن يريد مواجهة الأمر. لكن عندما رآها تحمل الحقيبة، عقد حاجبيه وقال بحدة:
"إلى أين تظنين أنكِ ذاهبة؟"
نظرت إليه بثبات، وقالت بصوت هادئ لكنه قوي:
"أنا أتركك."
اتسعت عيناه بدهشة، ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة: "تتركينني؟ ومن سيسمح لكِ بذلك؟ أهلك؟ المجتمع؟ هل تعتقدين أن الأمر بهذه البساطة؟"
لم تجب، بل سارت باتجاه الباب، لكن صوته لحقها، أكثر حدة هذه المرة:
"أنتِ لن تذهبي إلى أي مكان، نورا! لا تنسي أنكِ زوجتي!"
توقفت، التفتت إليه ببطء، ثم قالت بهدوء:
"أنا لم أكن زوجة بالنسبة لك أبدًا، سامي… كنتُ فقط شيئًا تملكه."
صدمه كلامها، لكنه لم يحاول إيقافها هذه المرة. كان هناك شيء في نبرتها جعله يدرك أن لا فائدة من ذلك.
عندما خرجت من المنزل، أخذت نفسًا عميقًا، وكأنها تتنفس الهواء للمرة الأولى منذ سنوات. لم تكن تعرف إلى أين ستذهب، لكنها كانت تعلم شيئًا واحدًا… لن تعود أبدًا.
لم يكن الأمر سهلًا. أهلها حاولوا إقناعها بالعودة، قالوا إنها ستكون "مطلقة"، وإن عليها أن تفكر جيدًا، لكنها لم تستمع لهم. لأول مرة في حياتها، اختارت نفسها.
بدأت حياتها من جديد، وجدت عملًا صغيرًا، استأجرت غرفة متواضعة، وبدأت رحلتها في العلاج النفسي. لم يكن سهلاً مواجهة حقيقة ما مرت به… مواجهة حقيقة هو.
كان لا يزال يظهر أحيانًا، يقف في زوايا غرفتها، يبتسم لها كما كان يفعل دائمًا. لكن الآن، لم يكن صوته يؤثر فيها كما من قبل. لم يعد يملك القوة التي كان يمتلكها عليها.
"ستعودين إليّ يومًا ما، نوراي…"
همس لها ذات ليلة، لكنها ابتسمت بهدوء وقالت:
"لا، لن أفعل."
ثم استدارت… وتركته خلفها، تمامًا كما تركت كل شيء آخر.
لم تكن نورا تعلم ما ينتظرها في المستقبل، لكنها كانت تعرف شيئًا واحدًا… لن تسمح لأي أحد، سواء كان رجلاً من لحم ودم أو خيالًا من عقلها، أن يسلبها حريتها مجددًا.
النهاية.

عمي رفعت، أيها القارئ النبيل، أيها المتذوق للكلمة حتى عمقها الأخير…
ردحذفإن كان في البيان سحر، ففي قراءتك له سحر آخر، وفي كلماتك صدى يجعل الحروف تنبض بمعنى لم أدركه حين سطّرته. أهذا الإحساس الصادق الذي أودعته بين السطور وجد مرساه في روحك؟ أم أن الحكايات، حين تصادف قلبًا مرهفًا، تتحول إلى مرآة تعكس وجعًا لا يُرى بالعين لكنه يُحس؟
ما الكتابة إن لم تكن امتدادًا لصرخات لم تُسمع، أو أصداء أرواح لم تلتقِ، لكنها تجسدت في كلمات عابرة؟ أهو الخيال وحده، أم أن في كل قصة نكتبها أجزاء خفية منا، نخفيها خلف الأبطال، ونذرّها بين السطور كما يذرّ الفجر نوره في الأفق؟
تعجبك هذا، دهشتك، إشارتك إلى ما لا يُفسّر، هو في حد ذاته شهادة أن الأدب ليس مجرد كلمات، بل كيان يعيش ويُشعِر، حتى تحترق النجوم، وحتى تظل الكلمات تبحث عن من يصغي لنبضها.
شكرًا لك، ودام هذا الحرف حيًا بك.
هل يوجد كتاب pdf لقصصك
ردحذفالسلام عليكم...لدي مدونتي الخاصة تحت اسم : مؤلفات أزيز الصمت ..لكن ليس لدي كتب pdf للأسف .
حذفبحثت عن مدونتك أزيز الصمت ولكني لم أجدها (ث.ب)
حذفقصة رائعة و مدهشة مزيد من الكتابات والابداع بإذن الله
ردحذفشكرا على مرورك الطيب وتعليقك الراقي .بوركت .
حذفتحياتي .
أزيز الصمت.