المنارة

 




أنا أقسم..

أقسم بكل ماهو قابل للقسم به، أقسم أن هناك صوت غريب يصدر من من تلك المنارة..

إنها الثانية صباحاً، وقد استيقظت لتوي..

أنا لست هيستيرياً، و لم أقترب يوماً من أن أكون، الأمر هو أنه حينما أستيقظ أكثر من مرتين علی صوت آت من المنارة، حينما تعمل المنارة في الثانية صباحاً وحدها، حينما أری شيئاً ما يقف هناك في غرفة الإضاءة، كل ذلك لا يعني سوی أن هناك شبح.. و هذا الشبح يتفنن في إتقان عمله، وهو إخافتي!

لكن أنا رجل عملي، لا أصدق أي شئ غير قابل للتصديق، لا لشئ سوی لأنه غير قابل للتصديق، حتی و لو رأيت دلائل علی العكس. 

قال أبي ذات مرة، الشئ لا يكون شيئاً ما لم نراه بأم أعيننا، و لا أنكر، قد كان الرجل حكيما، رحمه الله.


ولهذا تجدونني أجدف بقاربي في الساعة الثانية و النيف كي أصل للمنارة!


عقلي في مثل هذه المواقف هو كتلة كبيرة من العته و الغباء، لأنني أعلم عن الأفلام وما يحدث بها، يتشجع البطل الأحمق ويبحث بفضول وراء الأحداث الغريبة التي تقتله في نهاية الفيلم غالباً، و قد كنت أعرف هذا و أحذر منه، من أن أكون مثل البطل الأحمق، لكن عقلي كان يقول أن هذا ليس إلا فيلم وأنني تافه للنظر للأمر من هذه الزاوية، و لهذا هو غبي، الحياة ليست إلا عبارة عن فيلم.


 

في النهاية سأدرك درسي جيداً، و سأعرف العبرة المستفادة، لا تسكن أبدا في جزيرة مقابلة للجزيرة التي توجد عليها المنارة، أو لا تستيقظ من نومك وتقرر فجأة الذهاب إلی المنارة فقط لأنها أُنيرت من تلقائها  ولأن هناك خيال في غرفة المصباح، شئ كهذا. 

وسأعرف هذا الدرس وهذه العبرة بينما أنا أسقط من المنارة بعد أن يدفعني مهرب الأسلحة من هناك حينما يدرك أنني صرت أعرف سره الأن، و سينتهي بي الأمر ميتاً علی الصخور.

جالت هذه الأفكار في ذهني وأنا أصعد السلم العتيق للمنارة. الملاحظة الأولی؟

توجد آثار أقدام علی التراب، أعني مكان مثل هذا لا تطأه الأقدام كثيراً، منارة قديمة علی جزيرة صغيرة لا يسكنها أحد، و لهذا كانت الأتربة تستولي علی كل ركن من أركانه، هذه كانت علامة جيدة و سيئة  لأن الاحتمالات المتبقية لإضاءة المنارة بدون ترك آثار أقدام علی التراب غير سارة، علی الإطلاق!


ثم ما بال الضوء، لماذا يهتز لهب الشمعة أكثر من اللازم رغم أنه لا توجد ثغرات للهواء هنا؟

كل شئ هنا يقول لي اهرب أيها الأحمق، ابتعد أيها المغفل، لكنني يوما ما وجدت أحمقاً يهرب أو مغفلاً يبتعد.




بالطبع لم أجد شيئاً، أو شخصاً لمعنی أكثر دقة، لكن هناك من أضاء المنارة، ومن هذه تعود علی عاقل، أخبرونا بهذا في المدرسة..

توجهت نحو الشرفة و نظرت نحو الأفق. الأن أعلم أن الظلام حالك، وأعلم أن المسافة كبيرة، لكنني أعمی إلم أدرك أن هذا الضوء في الأفق هو ضوء منزلي، علی ما أذكر، لا توجد منازل أخری علی هذه الناحية من الجزيرة. وماذا عن ذلك الخيال الذي يمر من أمام الضوء، المنزل بعيد لكن حتماً هناك شخص يضيء نور منزلي ويجلس فيه، ونعم لقد أطفئت جميع الإضاءات جيداً قبل أن أخرج بقاربي، أخاف فاتورة الكهرباء أكثر من أي شيء.

هذا، إن كان يعني شيئا فيعني أن هناك من يعبث بي، عبث من النوع الذي يغضبني!


و مرة أخری وجدت نفسي أجدف لطريقي نحو المنزل، ذلك الجهد هنا لم يكن من ضمن شروط عملي، حارس المنارة العادي لا يستيقظ ليلا كي يبحث عن الشخص الذي يضيء المنارة بدون علمه.



تركت القارب علي الشاطئ بين الصخور بدون حتی ربطه بشيء ما، وقفزت منه علی أقرب صخرة. كدت أن أقع لكنني تمالكت نفسي وعدت أهرول للمنزل. سأسبب بعض الضرر الحقيقي لهذا الوغد إن وجدته.


لم أجده!

المنزل كما تركته تماماً، لا أضواء ولا أبواب مفتوحة ولا آثار لأي شيء. خرجت من المنزل كي ألتقط أنفاسي بعد كل هذا المجهود الذي بذلته، وهنا رأيته.. الضوء!

ضوء المنارة مجدداً! لقد أُنير من جديد، وأقسم أن هناك شخصا يقف في الشرفة، في نفس المكان الذي كنت أقف فيه، الضوء يسقط عليه جيدا و ....

هل أنا أتخيل أم أن ذلك الشخص يُلوح لي بيده؟!

هل أنا أتخيل أم أن ذلك الشخص يتسلق سور الشرفة؟!

هل قفز لتوه؟!!



أظن أن كل شئ واضح هنا، إن الأشباح تحب أن تعيد آخر شئ فعلته قبل أن تموت، أما الآن فعليّ أن أنام. لست من النوع التافه الذي تقلقه النشاطات يومية لشبح ما، أي نوع من الرجال سأكون إن فعلت؟!


بالطبع أحببت هذا التفسير جداً، بدا لي منطقيا بالرغم من كونه غير منطقي، لربما وجدت بعض الطمأنينة في هذا التفسير.



في صباح اليوم التالي وجدت شخصين يقفان أمام بيتي يسألانني عن جثة الشاب الذي وجدت تحت المنارة القديمة!

أخبروني في وسط دهشتي أن الشاب قد مات بسبب أنه قفز من المنارة، سقط علی الصخور و انتهی الأمر. الشبح لم يكن شبحا بعد كل شئ، كل هذا جميل لكن كيف وجدوا جثته بهذه السرعة؟!


فيما بعد عرفت أن الرجل الذي مع الضابط هو شاهد رأی قارب في وسط المياه في وقت مقارب للثانية ليلاً، كان الشاهد يتجول ليلاً علی الشاطی حينما لاحظ علی ضوء القمر أن هناك شيئا يتحرك في وسط المياه، حينما دقق أكثر وجد أنه قارب  وأنه يتجه نحو جزيرة المنارة. ظن أن وجود قارب في وقت مثل هذا هو شئ مريب كفاية ليجعله يخبر السلطات، أرسلت السلطات شخصاً بعد شروق الشمس مباشرة كي يتحقق من الأمر، وحينها وجد الجثة، ومع قليل من البحث علموا عن حارس المنارة الذي يسكن في مكان ليس ببعيد عن المنارة..

بالطبع الشاهد الأحمق لا يعلم أنني هو الشخص الذي كان يجدف ليلاً، ولا يعلم أنني سأكذب عليهم فيما يخص ما حدث..


أنا؟!! أنا كنت نائماً كالقتيل في تلك الليلة ولا أعلم عما تتحدثون، مع احترامي ياسيدي إن مهمتي هي تشغيل المنارة كل الأيام ماعدا ذلك اليوم الذي تتحدثون عنه، عدا عن ذلك، لا أعرف ما الذي تتحدثون عنه، بدا لي خطاب جيد حين راجعته في عقلي وأنا أقف أمام الضابط.


أرجو أن يعذرني من لديه الحق في ذلك، فالقصة التي من طرفي ليست بالقصة التي تُحكی إلا من طرف شخص مجنون، ربما هذا وربما أنا أبالغ، لكن ما أعرفه هو أنني لن أخبرهم بشئ مما رأيته..

أعتقد أن الأسئلة التي لم يسألوها هي، ماذا كان هذا الشاهد يفعل علی الشاطئ في مثل هذا الوقت المتأخر؟!


بداخل منزلي جلس الضابط هو والشاهد. سألني الضابط عن ماحدث ليلة البارحة، حكيت ما تدربت عليه، بعدها بدأ الشاهد بالكلام، وحكی الرجل ما حدث معه بداية منذ خروجه الساعة الثانية و انتهاءً بإخباره الشرطة، حينما سألته عن سبب خروجه في مثل هذا الوقت من الليل قال أنه قد خرج لكي يشتم هواء نقياً علی الشاطئ حينما رأی ما رآه، تساءلت في بالي حينها عن مدی قابلية الضابط للاقتناع بقصته وسببه إذا ثبتت أن هذه جريمة قتل..


لكن الحق، كل الدلائل تشير إلی أن هذا انتحار، لا آثار مقاومة أو ضرب علي الفتی كما أخبرني الضابط، مما يعني أنه إذا حالفني الحظ، فسيفترضون أن القارب الذي رآه الشاهد ليلا هو قارب الفتی، وأنه كان في طريقه إلي المنارة كي ينتحر هناك، كنت محظوظاً!


أخبرني الضابط أن أبتعد عن المنارة حتی يتسنی لهم فحص مسرح الحادث بأريحية، أمرني ان أبتعد أسبوعاً، وافقت علی مضض بسبب طول المدة، لكن يا سيدي، خذ سنة إذا أردت، إذا قالت لي السلطات هذا، فتلك إجازة مدفوعة الأجر. 


حينما خرجت أنا و الشاهد من منزلي كان الضابط قد رحل بعد أن بدا لنا أنه تقريباً قد صدق أن ما حدث لهو انتحار بسيط لا يستحق كل هذا العناء، فقط أمرنا أنت نتجهز إذ ربما يستدعوننا مجددا..


وقفنا نتحدث قليلا أنا و الشاهد، أحاديث من نوع -أعتقد أننا أصبحنا في زمن يوجد فيه حراس للمنارات- و -أعتقد أنه نفس الزمن الذي يجعل بعض الأشخاص يخرجون الساعة الثانية ليلاً فقط كي يشتموا بعض الهواء-


مع قليل من الحديث اكتشفت أن الرجل قد حدث معه نفس ما حدث معي، يقول إنه كان نائما قبل أن يسمع صوت ما يناديه باسمه، استيقظ الرجل ليجد أن هناك من أضاء المنارة، المثير للسخرية أن الرجل قد صعد للمنارة هو الآخر لكنه لم يجد شيئا، قصة مثيرة هنا..

إذن هو ذهب هناك مثلي ولم يجد شئ مثلي وعاد مثلي ورأی الفتی ينتحر مثلي ولم يخبر الشرطة بما حدث خوفا من عدم تصديقه مثلي، وقتها بدا لي أن هناك العديد من الأشياء غير المنطقية فيما حدث، مثلاً، إذا كان الرجل قد ذهب للمنارة مثلي فلماذا لم أره؟!

 ربما المنطق سيقول أنه ذهب بعدي أو قبلي، ولكنه ذهب وقت إضاءة المنارة مثلي تماماً! وهذا معناه أننا كنا يجب أن نتقابل، لم أعر للأمر الكثير من الاهتمام، ستعرف الشرطة كل شيء قريباً..


بعد أسبوع كتبوا في الجرائد عن أكبر عملية تهريب للمخدرات في التاريخ الحديث، كتبوا أنهم قد خبئوا الكمية كلها في مكان ما، وحينما انتهي تفتيش خفر السواحل، أخذوا المخدرات و رحلوا، و الآن ينتشر المخدر في الأسواق ويبحثون عن المدخل الذي أتی منه المخدر نفسه..


وجدت أمام بابي في ذلك اليوم ورقة صغيرة :

"نشكرك علی حسن تعاونك سيد كذا، لقد تركنا لك هدية صغيرة في المنارة"


و في المنارة وجدت الهدية، كيلو تقريبا من المخدر الأبيض، كمية إذا بعتها سأصبح ثرياً، وإذا استخدمتها فسأنتشي حتی الموت، لكن ما الذي حدث حقاً؟!

لقد تخيلت الأمر في عقلي..

في ليل السبت كانت السفينة المحملة بالمخدرات تمشي علی غير هوادة، يجدون في الأفق شيئا يبدو كمنارة و يبدو أنها مغلقة، يوم السبت لا تعمل المنارة، يقول قائدهم بنظرة خبيثة بعد أن ارتسمت الخطة في عقله:

- "يا رجال، لقد وجدنا المكان المنشود"

يسأله أحدهم عن حارس المنارة فيقول :

- "سنجذبه إلينا"


و هكذا يبعث أحدهم للمنارة كي ينيرها و يصدر بعض الأصوات الغريبة ثم يهرب و يختبأ في مكان ما، علی إثر هذا يستيقظ الحارس الذي هو أنا ويذهب للمنارة في قاربه الصغير، يعرفون مكان بيت الحارس و يرسلون شخصا إلی هناك كي يؤكد لهم أنه حارس المنارة، بالتأكيد سيجد أشياء تدل علی أنني حارس المنارة في بيتي، وفي الوقت الذي ينتهي فيه من عمله و يهرب، أكون أنا في الطريق بعدما لم أجد شيئا في المنارة..


بعد ذلك سيكون من السهل تزييف قفزة شخص من تلك المسافة بين منزلي والمنارة، ربما ربطوه بحبل أو ماشابه، يقفز الفتی و حينها أری أنا ما حدث بدهشة..


بعدها، إذا ذهبت فسأجد المنارة فارغة، ولن أجد جثة على الصخور بعد أن أكل وأمل من البحث، لأنهم سيكونون قد عادوا لسفينتهم في تلك الأثناء. وإذا لم أذهب، وهو ما حدث، فسيعرفون أني لم أذهب. هكذا، عاجلاً أم آجلاً، سأعود لبيتي وأنام، كي يبدأ الجزء الأخير من الخطة. 

فيتبقی فقط أن يزورني الزعيم متنكرا هو و الشاهد المزيف كي يخبروني ألا أذهب إلی المنارة ريثما ينتهون مما يفعلونه، الاختباء!


 

أعتقد أنني لم أسل عن شارة الضابط الذي زارني، ولا من أين رأی الشاهد ضوء المنارة، ولا لماذا يزورني الضابط شخصياً كي يسألني عن الجريمة، ولا لماذا يأخذون أسبوع بأكمله كي يعاينوا مسرح الحادث.


 إذن لماذا لم يقتلوني أو ما شابه؟ سألت نفسي هذا السؤال. 

حسناً، اختفاء حارس المنارة مريب بما فيه الكفاية كي يبحثوا عنه في المنارة، حينها سيكتشفون الأمر. بالإضافة لأن قائدهم يبدو طيب القلب حقاً، الرجل وبدون سبب قد ترك لي هدية قد تغنيني طوال حياتي إذا قررت بيعها.


فيما بعد سيجلسون ليلاً مع بعضهم البعض يتسامرون ويحكون ضاحكين عن ذلك الأحمق الذي ساعدهم في تهريب الممنوعات، و حينها سأكون أنا أحكي لأصدقائي عن حادثة الانتحار التي حدثت أمام عيني ولم أجد الجثة! عن شبح المنارة. 


تمت


تعليقات

  1. أبدعت أخي البراء كالعادة ...أحسست أن الشخصية(حارس المنارة) تنظر لك من الورقة وتترجاك أن دعني أعود لمنزلي وأنام ولا تدخلني في أمور لا تعنيني ههه...لكن الهدية في الأخير كانت كفيلة لتهدء من روعه .
    تحياتي أزيز الصمت .

    ردحذف
    الردود
    1. أعتقد أن جميع شخصيات قصصي تترجاني نوعاً ههه... لكن نعم، هي مغامرة صغيرة سيحكيها لأصدقائه كما قال، وعلى الأقل عاش شيء مثير.
      شكراً على المرور والمديح أختي أزيز الصمت. كامل الاحترام والتقدير. تحياتي.

      حذف
  2. قصة الشبح الذي لم يكن شبح ..تعجبني النهايات الصادمه والخروج عن المألوف ..أحسنت وزينت أي بني ..وإني بكم لأسعد ولكم قلبي يطرب .
    لم تزرني منذ سنوات طوال أيها المتأمل ..وتضع على قبري ولو حزمة من الفجل .لا بأس أعلم أنه ولابد قد أخذتك لواهي حياتك من البيت والأولاد والعمل إلخ ..
    لن أقول بالطبع إن أملي قد خاب لحيدتك أنت بالذات عن غرسي .لا بالطبع . وإنني لأتمنى لك من قبري كل الخير والبركه والعافيه .لاتنس أن تسل عن رئيفه ونجاة ورضا وطلعت وهويدا وعزت وماجي بالطبع . وحتى تحترق النجوم .

    عمك رفعت
    المدافن الجبليه
    كفر بدر .الشرقيه .

    ردحذف
    الردود
    1. هذه القصة قديمة منذ سنوات، وفيها يتجلى تشابه في الأسلوب بعض الشيء من أسلوبك يا عمي، أتمنى أن تسامحنا.
      قد أحيي ذكراك بقصة رعب قريباً. أقول قد.
      شكراً على المرور. لا تنس أن تغلق باب القبر عليك جيداً، فالجو بارد هذه الأيام، ولعمري لا يوجد أسوأ من نزلات برد الموتى، لا تسلني كيف عرفت، هذه قصة قد أحكيها قي وقت لاحق.
      حتى تحترق النجوم.

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكاية قرار

ثرثرة تحت الأرض

لا تبتسم أرجوك