همسات في الظلام - الجزء الأول




قصة: همسات في الظلام - الجزء الأول

بقلم: أزيز الصمت

الكلمات التي لا تُغفر


“لا يمكن للإنسان الهروب من غريزته وفطرته التي من أجلها قد يضرب بمبادئه وحكمته عرض الحائط.”


وضعت ليزي القلم بجانب الأوراق المبعثرة فوق طاولتها المهترئة. كانت الغرفة التي تجلس فيها، التي عاشت فيها طوال سنوات عمرها، تعكس حالتها النفسية بشكل مؤلم. جدرانها التي كانت ذات يوم ملونة، أصبحت الآن باهتة، والهواء في الداخل كان كئيبًا، ثقيلًا بما يحمل من ذكريات حزينة وأحلام غير محققة. تناثرت الأوراق هنا وهناك، تحمل كلماتًا كانت يومًا مصدر فخر لها، ولكن الآن أصبحت مجرد علامات على فشلها في أن تكون شيئًا أكبر. نظرت إلى تلك الأوراق، ثم نظرت إلى ما حولها؛ كان كل شيء يذكرها بقيد الحياة الذي عاشت فيه، قيد لم تستطع التخلص منه.


كانت اللحظات تمر ببطء شديد، وكأن الزمن نفسه يأبى أن يتحرك في هذا المكان. أغمضت ليزي عينيها محاولة أن تجد مخرجًا من هذا اللامكان. كانت تحتاج إلى شيء ما يلهمها، شيء يعيد الحياة إلى أفكارها الميتة، ولكن دون جدوى. كان ذهنها مشوشًا، فارغًا. حاولت أن تجد المخرج في كلمات جديدة، ولكن تلك الكلمات كانت تختفي مثل ظلال غائمة، وكأنها ترفض أن تلتصق بالورقة.


“ألا تكفين عن العبث والخزعبلات؟!” فجأة، قطع صوت والدتها، ماري، هذا الصمت العميق، ليهبط على الغرفة كالمطر الغزير الذي لا يرحم. كانت تقف عند الباب، على وجهها ملامح الغضب المعتاد. رغم أنها تخطت الأربعين، إلا أن ملامحها ما زالت محتفظة بجمالها، الذي كان يومًا يلفت الأنظار في كل مكان. لكن هذا الجمال كان قد تلاشى تحت وطأة الزمن، كما تلاشت معالم الأمل من حياتها، ليحل محلهما التعب والندم.


ماري (بحدة): الأفضل لكِ ولنا أن تتركي هذه الأوراق وتبحثي عن زوج غني ينتشلنا من الفقر الذي نحن فيه. لديكِ جمال لا تعرفين قدره!


ابتسمت ليزي، ابتسامة ساخرة، وكأنها كانت تتذكر مئات المرات التي سمعت فيها هذه الكلمات. كانت تعرف جيدًا أن أمها، رغم حبها الكبير لها، كانت ترى فيها مجرد وسيلة للهروب من واقعهم المظلم. لكنها أيضًا كانت تعلم أن ماري، رغم قسوتها في كلماتها، كانت تخشى على حياتهم أكثر من أي شيء آخر. كانت تلك الكلمات تتكرر في كل مرة، كما لو أنها تحاول إقناع ليزي بخيار كان بالنسبة لها أقرب إلى الخيانة.


ليزي: وأين سأجد هذا الغني يا أمي؟ نحن في حرب، وأغنى الأغنياء صار فقيرًا بسببها. ثم إني لا أريد تعليق قلبي برجل قد يُقتل في أي لحظة، فأصير أرملة بين ليلة وضحاها.


كان صوت ليزي يتناغم مع صمت الغرفة، مثل موسيقى حزينة، تتناثر على إيقاعها خيبات الأمل. كانت تعرف أن حياتهم كانت تقترب من حافة الهاوية، ولكن فكرة الزواج من رجل غني لا تعتبر حلاً بالنسبة لها. كان قلبها ينبض بحرية لا تستطيع أن تساوم عليها، كما أن الخوف من أن يكون حياتها مجرد تبادل للمال بدلًا من الحب كان أكبر من أن تتجاهله.


ماري (بتحدٍ): أفضل من أن تبقي عانسًا! على الأقل سترثين تركته.


كانت كلمات أمها هذه بمثابة اللعنة. كانت تعرف أن ماري كانت تدفعها للبحث عن مخرج بأي ثمن، ولكن هذا المخرج لم يكن ما كانت تتوقعه. انخفض صوت ليزي، وبدا في عيونها شيء من الحزن، وكان الجرح الذي في قلبها يكبر أكثر.


ارتفع صوت أنين الكرسي الخشبي بجانب المدفأة، ليكسر الصمت ثانية. كان والدها، كريس، الرجل الذي نُهكته الحرب، يجلس هناك، جسده الهزيل يحمل الندوب التي تروي قصة من الألم والمعاناة. فقد ساقيه في انفجار قنبلة عندما تم استدعاؤه للحرب. كان دائمًا يجد السكينة في صمته، وحينما كان يتحدث، كان حديثه مختصرًا، ولكن كل كلمة كانت تنطق بها شفاهه كانت تحمل فيها سنوات من المعاناة.


كريس (بصوت هادئ لكنه قوي): ماري، دعي الفتاة وشأنها. أنتِ تعرفين أنها بارعة فيما تفعله. كتابها الأخير اجتاح إنجلترا كلها.


ولكن، رغم ذلك، كانت ليزي تشعر بوخزة في صدرها، فهي تعرف أن كلمات والدها لم تكن كافية. كانت تحاول جاهدة أن تملأ الفراغ الذي تركته الحرب في عيون والديها، ولكن في كل مرة كان يزداد هذا الفراغ.


ماري (بنزق): منذ شهرين! أخبرني، من سيصرف علينا وهي حتى لم تجمع شتات نفسها؟! أنت؟!


كانت ليزي تتأمل وجه والدها، وعينيه الغائرتين، فهما كانا يخفيان وراءهما قصة لا تحكى بالكلمات. اقتربت منه بحذر، وأخذت يده بيديها، وكانه في تلك اللحظة، كانت تحاول أن تجد القوة فيه. قبّلت جبينه برفق، وهمست في أذنه: "لا تحزن، أبي، أمي فقط تفقد السيطرة أحيانًا."


كريس (بابتسامة متعبة): إنها طيبة القلب، لكن الظروف أجبرتها أن تكون هكذا...


ثم أغمضت عينيها لحظة، كأنما تريد أن تنغمس في تلك الذكريات البعيدة. كانت تحتضن والدها كما لو كانت تحتضن كل آلامه وأحلامه المفقودة. وفي تلك اللحظة، شعرت بثقل الحياة يهبط على كاهلها أكثر من أي وقت مضى.


بينما كانت والدتها في المطبخ، تفتح الخزانة للمرة الرابعة منذ الصباح، كانت تعرف تمامًا أنه لا شيء هناك سوى رغيف خبز قديم، بدأ العفن يلتهمه. كانت تعرف أن حياتهم أصبحت مثل تلك الخزانة الفارغة، مليئة بالفراغ، ولكن لا شيء يمكن أن يملأه.


ماري (بهمس ساخر وهي تنظر إلى الرفوف الفارغة): كأنها ستملأ نفسها بنفسها...


ثم تقدمت ماري إلى النافذة، حيث كانت الأمطار تتساقط بغزارة، تغرق المرج تمامًا. كانت قطرات المطر تتناثر على الزهور المترنحة، وكأن السماء نفسها تبكي معها. كانت تشعر بألم عميق في قلبها، وكان ذلك الثقب في السقف الذي ينساب منه الماء يُذكرها بأن هناك دائمًا شيء ناقص في حياتهم. وضعت دلوًا تحت الثقب، محاولًة إيقاف الماء الذي كان يتسلل إلى داخل المكان، ولكنها كانت تعرف أن هذا الحل ليس حلاً حقيقيًا. كانت تصرخ في قلبها: "متى سينتهي هذا؟"


جلست ماري على الكرسي بعد ذلك، وأغمضت عينيها. انفجرت بالبكاء. كان البكاء هو الطريقة الوحيدة التي تستطيع أن تعبر بها عن أملها المفقود.

قبل ثلاثة أشهر: الفاجعة


كان المطر يهطل بغزارة، يلطخ الأرض وينسج حالة من الحزن في الأجواء. كان صوت بيتر يلوح في الأفق، غير معتاد، يحمل شيئًا من القلق. وعندما وصل إلى الباب، كان مبللًا حتى العظم، لكن ملامحه كانت تبدو مختلفة؛ كانت عيونه خالية من تلك البريق الذي كانت تحمله دائمًا. كان مجرد صبي في السادسة عشرة، ولكن في تلك اللحظة بدا وكأن سنوات من الأعباء قد مرّت عليه.


بيتر: "أمي! افتحي الباب، أنا مبتل من رأسي حتى قدمي!"


ركضت ماري بسرعة نحو الباب، مشحونة بالأمومه التي تغمر قلبها رغم تعبها، وأسرعت لسحب ابنها إلى الداخل. كانت الابتسامة التي ارتسمت على وجهها نادرة، ولكنها اختفت سريعًا حين لاحظت أن شيئًا كان قد تغير فيه. لقد كان ذلك الشاب الذي كبر أمام أعينها في صمت، ولم تشعر بذلك إلا الآن.


ماري (بمرح وهي تعطيه منشفة): أدخل بسرعة، لقد وضعت لك ملابس جافة في غرفتك. ثم تعال للمطبخ، الحساء جاهز.


كان بيتر، الصبي الذي كان يملأ البيت بالحركة والضحك، يأخذ وقته ليجفف نفسه. لكنه لم يكن كما كان، فقد كان يشعر بثقل في قلبه. كان هذا الصبي الذي اعتاد أن يكون مركز حياة العائلة، والذي لم يكن يفتأ يغني ويثرثر حول أحلامه، عن خطط حياته وكيف سيصبح في المستقبل. لطالما كانت أحلامه محط فخر لماري وكريس، فكانت العائلة كلها ترى فيه الأمل في المستقبل. لكن شيئًا ما تغير فيه تلك الأيام الأخيرة.


بيتر (وهو يشم رائحة الحساء): أراهن أن رائحة الحساء تصل إلى مدخل الحظيرة! ناوليني صحنًا كبيرًا، أنا جائع جدًا.


ضحكت ماري، وهي تتأمل ابنها وهو يأكل بنهم. كانت تراه يحاول أن يتنفس الحياة داخل جسده المرهق، لكن عينيه كانتا تتجنبان النظر إليها، كما لو كان يحاول أن يخفي شيئًا.


كان بيتر دائمًا ما كان يلتقي مع أمه في لحظات مميزة. كان يحب الاستماع إلى حديثها عن أيامه الصغيرة، عن ضحكاته وضجيجه في البيت. لكن اليوم، لم تكن ضحكاته هي ما يملأ الأجواء، بل كان الصمت يغطي كل شيء. وعندما تحدث، كان قلب ماري يختلج في صدرها.


بيتر (بصوت خافت): أمي... سأشتاق لطبخك.


توقف قلب ماري عن الخفقان للحظة، وانقضت عليها تلك الكلمات كالصاعقة. كان بيتر يتحدث وكأنه يعلم أن شيئًا قد تغير في حياته بشكل لا رجعة فيه.


ماري (بقلق): ماذا تعني يا بيتر؟


لكن بيتر لم يجيبها، بل أكمل تناول طعامه بصمت. كانت ملامحه تعكس شيئًا غريبًا، شيئا غير مألوف. كانت تلك المرة الأولى التي تشعر فيها ماري بأن ابنها يخبئ شيئًا عنها، وكان شيء ما في جو الغرفة يزداد ثقلًا، وكأنها تستشعر رياحًا قادمة.


ثم أخيرًا، وبينما كان يلتهم طعامه بصمت، قال ما جعل كل شيء يتوقف:


بيتر (بنبرة باردة لكنه يحاول أن يبدو قويًا): تم استدعائي لأحل محل أبي في الجيش.


سقطت الملعقة من يد ماري. كانت عيونها تتسع في ذهول، وكأنها كانت تنكر ما سمعته. كيف يمكن لذلك أن يحدث؟ كان بيتر، ذلك الشاب الذي عاش حياته في ظل الأمل، في قلب الأسرة، قد أصبح ضحية للحرب التي سرقت كل شيء. كيف يمكن لأم أن تتقبل أن ابنها الوحيد، الذي كانت تراه في حلم مستقبلي مشرق، سيرتدي زيًا عسكريًا ويذهب للحرب؟


ماري (بصوت مختنق): لا... لا، هذا مستحيل! لن أدعهم يأخذونك!


لكن بيتر، رغم قلبه المتألم، كانت عيناه مليئتين بتلك القسوة التي لا يستطيع أحد أن ينكرها. كانت أقدامه قد بدأت تسير في طريق لم تكن ماري مستعدة له. بيتر (يحاول تهدئتها): لا يمكننا رفض الأمر الملكي، أمي.


لكن ماري لم تسمع شيئًا، كان قلبها ينفطر على ابنها. كانت تتخيل يومًا بعد يوم كيف سيغادر المنزل، وكل ما تبقى لها هو صوته الذي تذكره في اللحظات التي تمر فيها الأيام. كانت ترى في ذهنها صورة ابنها وهو يرتدي الزي العسكري، مغادرًا في اتجاه لا يمكنها السيطرة عليه.


بعد أسبوعين... كانت ماري تجلس في ركنها المظلم، وتفكر في تلك اللحظات التي كانت الحياة تبدو فيها أكثر إشراقًا، لكن الآن، بعد أن تلقت البرقية المختومة بشعار المملكة، شعر قلبها وكأن الحياة قد تجمدت.


وصلت رسالة مختومة بشعار المملكة، وعندما فتحتها، كانت الكلمات الوحيدة التي قرأتها هي:


"لقد مات فداءً للوطن."


كانت هذه الكلمات تحمل بداخلها أكثر من مجرد خبر. كانت تحمل معها الوداع، الألم، والعجز. ومنذ ذلك اليوم، أصبحت ماري شخصًا آخر. كانت نظراتها مليئة بالحزن، وعيناهما فارغتان من الأمل.


لقد فقدت بيتر، ولكنها كانت تعلم أن فقدانها له لم يكن مجرد فراق جسدي، بل كان موتًا لكل أحلامها وطموحاتها التي كانت ترى في بيتر مستقبلًا مشرقًا لها ولعائلتها. كان رحيله هو الفاجعة التي قلبت حياتهم رأسًا على عقب، وكأنها خسارة لكل ما كان يشكل حياة عائلتها. كانت تلك الفجوة التي تركها وراءه لا يمكن ملؤها أبدًا.



ظل الحرب والفقر


كانت الحياة في المنزل تبدو كما لو أنها مُعلقة بين الألم والأمل الضعيف. الطابق السفلي من البيت الذي كان في يوم من الأيام يعج بالحركة والضحك أصبح اليوم مكانًا يعكس بؤس الحياة التي لم تعد رحيمة. بعد رحيل بيتر، زاد الفقر. كانت ماري وكريس يجاهدان كل يوم لتدبير ما يحتاجه المنزل من طعام، لكن الحظ لا يبتسم لهما كثيرًا. كانت أيامهما تمضي بين التفكير في كيفية تدبير المال لتغطية احتياجاتهم الأساسية وبين الانتظار الممل لأنباء جديدة قد تحمل الأمل أو تحمل معها خبرًا آخر من جبهات القتال.


لكن مع كل صباح جديد، كان كريس، رغم ضعف جسده بسبب الحرب، يحاول أن يكون مصدرًا للثبات لأسرته، حتى لو كان قلبه يغلي من الغضب والحزن. كان يتجنب الحديث عن الحرب، محاولًا أن يجعل ما تبقى من حياته وكأنها حياة طبيعية. لكن ماري، كانت دائمًا ما تستشعر غياب ابنها بيتر في كل زاوية من زوايا المنزل، وكان قلبها يتألم أكثر فأكثر.


ماري (وهي تمسح الغبار عن الطاولة): "أين ضاع كل شيء؟ كل يوم أشعر أن الحياة تسحبنا إلى الأسفل... وأنتَ، يا كريس، ماذا عنك؟"


كريس (بصوت هادئ): "نحن فقط في انتظار الضوء في آخر النفق، ماري. الحياة ستستمر مهما كانت صعوبة الطريق."


لكن كان كل منهما يعلم أن تلك الكلمات كانت مجرد محاولة للتعزية.




كانت ليزي تمر عبر السوق في الأيام التي كانت تخرج فيها لشراء ما يمكنها من طعام قليل لعائلتها. السوق كان مزدحمًا، لكن الصوت الوحيد الذي سمعته كان الصوت المتنقل بين الجيران، محملاً بالحزن والقلق. كانت الوجوه التي تلتقي بها في السوق هي نفسها الوجوه التي اعتادت على رؤية الظلم والفقر والحرب.


أحد الجيران (مردفًا بقلق): "هل سمعتم؟ تم استدعاء ابن السيد رالف للقتال... الحرب تلتهم شبابنا كالنار في الهشيم!"


جارة أخرى (تردد وهي تضع سلة الخبز على الأرض): "ماذا يمكننا أن نفعل؟ نعيش في خوف مستمر، والأمل في كل يوم يذوب أكثر. ماذا لو جاء الدور على أبنائنا؟"


كانت ليزي تستمع إلى تلك الأحاديث في صمت، بينما كانت تشعر بشيء ثقيل في قلبها. كانت ترى كيف أن تلك العائلات التي كانت قد اعتادت على الحياة تعيش الآن في ظل هزات مستمرة، كيف تاهت أحلامهم في الأفق المظلم. كانت الحياة في الريف قد تحولت إلى معركة بقاء يومية، حيث لا أحد يملك ضمانًا للمستقبل.


جارة أخرى (بصوت حزين): "إذا أردت أن تحمي ابنك، عليك أن تجعله يختبئ... أو تضعه في مكان بعيد. لكن الحرب تلاحقنا أينما ذهبنا."


ليزي (في سرها): "أين هو الأمان؟ وهل هناك أي مكان للهروب؟"


كان شعور ليزي بالفراغ في تلك اللحظات قاتلًا. هي أيضًا كانت تخشى أن يُسحب أحد أحبائها إلى تلك الحرب، وتُدمر حياته كما دُمرت حياة جيرانها وأصدقائها. لكن كان قلبها يخفق بحرقة أكثر عندما تفكر في والدتها، التي كانت لا تزال متمسكة بالأمل رغم كل شيء، والذنب الذي شعرت به لأنها كانت لا تستطيع فعل المزيد.




وفيما كانت ليزي تتجول في الأسواق، كانت تتساءل عن مصيرها، عن معنى الحياة التي تحياها، وعن دورها في هذا العالم المليء بالظلم. كانت تكتب كل ما تمر به في مذكراتها، محاولًة أن تجد ملاذًا في الكلمات. ولكن، مع كل يوم، كانت تجد نفسها أكثر انغماسًا في بؤس الواقع الذي تعيشه. كانت الحرب تأخذ معها كل شيء؛ البراءة، الفرح، والحياة كما كانت تعرفها.


في تلك الأيام، حيث كانت السماء تغطيها الغيوم، لم يعد للأمل أي مكان في قلب ليزي. كانت ترى في عيون الناس في السوق، في حكاياتهم، وفي وجوههم المرهقة أوجاعًا لا تنتهي، وتدرك أن الحرب قد دمرت أكثر مما دمرته الأرض نفسها.


وفي اللحظات التي كانت تجلس فيها في غرفة الكتابة، محاولة أن تكتب، كان قلبها يختنق. كانت الكلمات تنساب منها مثل سيل من المشاعر المتناقضة، بينما كانت عينها تركز على صورة بيتر التي كانت قد وضعتها على المكتب بجانب أوراقها. كانت تتذكره وكأنه جزء من قصة محزنة، قصة لا تنتهي.


ليزي (متمتمة لنفسها، في غمغمة): "هل سيأتي اليوم الذي نستطيع فيه أن نعيش من دون خوف؟ من دون أن نضحي بكل شيء؟"


كانت تحاول أن تجد في نفسها القدرة على المواجهة، لكنها كانت تدرك أن واقعها قد يكون أقوى من أي حلم يمكن أن تكتبه. كان الواقع مريرًا للغاية، والحرب لا تسمح لأحد بأن يكون في مأمن منها، حتى وإن كنت تختبئ في زاوية من زوايا هذا العالم.





الليلة التي تغير فيها كل شيء


في تلك الليلة، جلست ليزي بمفردها في غرفتها الضيقة، حيث كان الضوء الخافت للشمعة يرقص فوق صفحاتها المبعثرة. كان الجو يعبق برائحة الرطوبة المنبعثة من جدران الغرفة المتآكلة، والأوراق كانت مكدسة على الطاولة، تتساقط منها الكلمات التي كانت قد تجرأت على كتابتها. كانت تعلم في أعماقها أن هذه المرة ستكون مختلفة، فكلماتها لن تلامس فقط القلوب البائسة، بل ستقلب الأوضاع في المملكة.


"الشعب ليس أعمى، ولا أصم. يرى الظلم، يسمع الأكاذيب، ويشعر بالجوع الذي فرضتموه عليه. لكن لا تقلقوا، أيها السادة، فدوام الحال من المحال."


ابتسمت ليزي بسخرية وهي تضع النقطة الأخيرة، ثم دفنت الأوراق بعناية تحت ألواح الأرضية. كانت تعلم أنها قد وضعت نفسها في خطر عظيم، لكن لم يكن لديها خيار آخر. كان القلم سلاحها الوحيد، وإن كلفها ذلك حياتها.


قبل الفجر بقليل...


استفاقت ليزي على وقع خطوات ثقيلة خارج باب المنزل. كان هناك شيء غريب في الصوت، شيء غير طبيعي. ثم تلتها طرقات عنيفة على الباب، جعلت قلبها يقفز في صدرها. صرخت والدتها بصوت مرتعش، تملؤه الهلع.


ماري (بصوت مرتعش): من هناك؟!


من الخارج، جاء صوت رجولي قاسٍ، يملؤه التهديد: افتحي الباب بأمر الملك!


تجمدت ليزي في مكانها، كأنما تجمد الزمن نفسه. كان قلبها ينبض بسرعة، ولكن عقلها كان يرفض التصديق. الباب انفتح بعنف، ودخل أربعة جنود يرتدون ملابس سوداء، يتقدمهم امرأة ذات ملامح صارمة، عيونها مثل سكين حادّة. كانت كاثرين بلاكويل، مستشارة الملك، وكانت تحمل في ملامحها شيئًا من القسوة التي لم تتوقع ليزي أن تراها في امرأة.


كاثرين (ببرود، بينما كانت تقيم ليزي بنظرة احتقارية): إذًا، هذه هي الكاتبة الصغيرة التي تظن أنها أذكى من الملك؟


أمسك الجنود بليزي وسحبوا جسدها بعنف، كأنها لم تكن سوى دمية في أيدٍ قوية. نظرت إلى والدتها، التي كانت تصرخ وتقاوم، ولكن لا فائدة. نظرت إلى والدها، وكانت عيونه مليئة بالحزن والخوف. تلك النظرات، التي لم تفارقها طوال حياتها، كانت الآن أكثر ثقلاً، كأنها تخبرها أنها ستفقد كل شيء.


كريس (بصوت خافت لكن ثابت): لا تدعيهم يكسرونكِ، ليزي...


لكن ليزي لم تسمع شيئًا سوى دقات قلبها. كانت تعلم، في تلك اللحظة، أن حياتها لن تكون كما كانت أبدًا. إنهم يقتادونها إلى مكان لا مفر منه، إلى مكان ستواجه فيه مصيرها. لكن هل يمكنها النجاة؟



كانت يداها مقيدتين خلف ظهرها، والأصفاد المعدنية تحفر في معصميها، تأخذ منها قوتها شيئًا فشيئًا. العربة الملكية كانت تتحرك ببطء، والجنود المسلحون يحيطون بها، وجههم خالي من التعاطف. كانت ليزي تشعر بشيء ثقيل يضغط على صدرها، وعقلها يعيد ترتيب الأفكار.


ماذا لو لم أستطيع النجاة؟ ماذا لو كانت هذه هي النهاية؟ كانت تسأل نفسها، لكن في أعماقها كانت تعرف أن التفكير في هذا سيضعفها، لذا حاولت صرف ذهنها عن تلك المخاوف.


الجنود كانوا يضحكون من وقت لآخر، يتناولون مواضيعهم السخيفة التي لم تهم ليزي أبدًا.


"هذه هي الكاتبة العظيمة؟ لا تبدو عظيمة على الإطلاق!" قال أحد الجنود ضاحكًا.


"سمعت أن كلماتها جعلت بعض الفلاحين يجرؤون على التذمر... مسكينة، ربما كانت تظن نفسها ملكة!" أضاف آخر.


لكن ليزي ظلّت صامتة، كانت تعلم أن أي رد سيزيد الوضع سوءًا. ومع كل ضحكة قاسية، كان قلبها يزداد وجعًا. كانت تدرك أن الكلمات التي كتبتها أصبحت الآن السوط الذي يجلدها. كان الجفن يرتعش، وكان عقلها يصرخ بالتساؤلات، لكن العيون التي تراقبها لا تُظهر أي رحمة.


عند وصولهم إلى القصر، توقفت العربة فجأة.


سمعت الأبواب الحديدية تفتح ببطء، والأقدام الثقيلة للجنود تتبع الخطى في الصمت الذي كان يحيط بها. أخذ الجنود يدها وأخرجوا من العربة بعنف، ودفعتها بقوة نحو بوابة القصر. لم يحاول أحد مساعدتها على التوازن، بل دفعوها بكل قسوة.


"تحركي، أيتها الكاتبة العظيمة." قال أحد الجنود، متأففًا من بطء حركتها.


لكن ليزي كانت لا تزال تحاول الحفاظ على كبريائها. على الرغم من كل ما حدث، رفعت رأسها متعمدة، مُظهرة تحديًا لكل ما يحيط بها. لكنها كانت تشعر في أعماقها أن هذا التحدي لا معنى له، فالقصر الذي تنتقل إليه ليس مكانًا يمكن أن تُبقى فيه حرة.



داخل القصر – اللقاء مع كاثرين بلاكويل


في الممرات المظلمة داخل القصر، كانت كل خطوة تخطوها ليزي تبدو أكثر كآبة من التي قبلها. كانت خطوات الجنود تردد في أرجاء المكان وكأنها تتابعها، لكن ما كان يزعجها أكثر هو تلك النظرات الثاقبة التي كانت كاثرين بلاكويل تراقبها بها. كانت عيون كاثرين مليئة بالاستخفاف، ولم تترك ليزي فرصة للهروب.


عندما وصلت ليزي إلى القاعة الكبرى، كان الملك إدريك جالسًا على عرشه، يتأملها بنظرات قاتلة. بدا وكأن عيناه تخترقانها مباشرة، كما لو أنه يرى في داخلها أفكارها المتمردة، مشاعرها المتجمدة.


الملك (بصوت عميق وبارد): "إليزابيث كراوفورد... أو كما يلقبك الشعب، الكاتبة المتمردة."


تجمدت ليزي للحظة، لكنها اجتمعت شجاعتها، ورفعت ذقنها عالياً، متجاهلة الخوف الذي كان يتسلل إلى قلبها.


ليزي (بصوت ثابت، لكن عيناها كانت تحاولان التسلل نحو الملك): "إن كان قول الحقيقة تمردًا، فليكن."


ابتسم الملك ابتسامة خافتة، لكنها كانت باردة، فارغة من أي معنى. كانت ابتسامة المهيمن الذي يعتقد أن أي مقاومة أمامه هي مجرد صراع مهزوم.


الملك (بهدوء متلاعب): "أعجبني تمردكِ، لكنه قد يكون مميتًا إن لم يُروض."


سرت قشعريرة باردة على ظهر ليزي، لكن رغم هذا لم تُبدِ تراجعًا. فكيف يمكن أن تُروض؟ هل سيسحقونها بأيديهم؟ أم سيكون ذلك في طريقتهم الخبيثة؟


بينما كانت تفكر، تدخلت كاثرين بلاكويل مجددًا، وهي تقترب من ليزي، وعينيها مليئتين بالتهديد.


كاثرين (بصوت قاسٍ): "حذاري من التمرد مرة أخرى، فهذه ليست المملكة التي كتبتي عنها، والملك لا يرحم."


كانت تلك الكلمات بمثابة سكين غرس في قلبها، لكنها قالت لنفسها أن كل شيء سيتغير الآن. هي لن تكون مجرد سجينة، بل ستكون لها خطط أخرى في المستقبل، مهما كانت الصعوبات.

رُفعت زوايا فم الملك في ابتسامة خافتة، لكنها لم تكن تحمل أي دفء، بل كانت ابتسامة شخص يستمتع بالسيطرة على من يعتقدون أنهم أحرار. كان هو ذاته الذي سلب من الآخرين قدرتهم على العيش بحرية، ثم يتمتع بمشاهدتهم في فخ لا مخرج منه.


كان الأمير واقفًا بجانب الملك، على الرغم من أن ملامحه كانت تتسم بالهدوء، كان هناك شيء غريب في عينيه. كان طويل القامة، بملامح شديدة الوضوح، وعيونه ذات اللون الداكن، وكأنها تجذبك في عمقها، لكنها في الوقت ذاته تحتفظ بغموض غير مريح. شعرها، الذي بدا متجمدًا في مكانه، جعلها تركز عليه أكثر من الملك نفسه. كانت تلك النظرة التي لا تكاد تُقاس بحجم الكلمات، مثل قنبلة موقوتة، كأنما هو حاضر بشكل ما في كل كلمة تقال.


شعرت ليزي بقشعريرة باردة تزحف على ظهرها، لكن قلبها كان يرفض التراجع. هذا هو ما أرادت طوال حياتها، أن لا تكون جزءًا من آلة ضخمة، أن تظل تملك حريتها الفكرية على الأقل.


ليزي (بتحدٍ، رغم الخوف الذي بدأ يتسلل إليها): "لا يمكن ترويض من يكتب بالحبر، لأنه يسيل في العروق بدل الدم."


ارتفع حاجب الأمير قليلًا، وكأنه لم يتوقع منها أن تتحدث بهذه الجرأة أمام والده. للحظة، لمعت في عينيه نظرة تقدير، لكنها اختفت بسرعة، وعاد إلى قناعه الغامض.


ضحك الملك بصوت منخفض، ثم نهض من عرشه، واقترب منها بخطوات مدروسة. كانت رائحة العطر الفاخر تفوح منه، لكنها لم تستطع إلا أن تشعر بأنفاسه تثقل الهواء حولها.


الملك (بابتسامة باردة): "كان يمكنني التخلص منكِ بسهولة، لكني قررت منحك فرصة."


شعرت ليزي بالتوتر يسري في جسدها، لكنها لم تسمح لملامحها أن تنكسر. كل خطوة، كل نظرة، كانت تقربها أكثر من قفصها الذهبي، لكنها ظلت ثابتة.


ليزي (بصوت منخفض لكن حاد): "أي نوع من الفرص؟"


وقف الملك أمامها مباشرة، عيناه تنظران إليها وكأنه يمتحن رد فعلها. كانت لحظة صمت، على الرغم من أن قاع قلب ليزي كان يهدر بسرعة، كما لو أنها على وشك السقوط.


الملك: "من اليوم، ستكونين تحت رعايتي في القصر. سأراقب كل ما تكتبينه، وستعملين ككاتبة خاصة لحاشيتي."


ارتجف قلبها للحظة. لم تكن سجينة... لكنها لم تكن حرة أيضًا. كانت في الفخ، داخل قفص ذهبي.


التفتت بسرعة إلى الأمير، متوقعة أن ترى رد فعل منه، لكنه ظل واقفًا في مكانه، يعاين المشهد بصمت مخيف. هل كان موافقًا على هذا القرار؟ أم أن لديه رأيًا آخر لا يستطيع التعبير عنه؟ كان هناك شيء غامض في عينيه، كما لو كان يحاول أن يفهمها، أو ربما كانت هي من تحتاج إلى فهمه.





في تلك الليلة، تم نقل ليزي إلى جناحها داخل القصر. الغرفة كانت فاخرة، الجدران مزينة بنقوش ذهبية، والسرير أكبر من أي شيء نامت عليه من قبل. لكنها لم تشعر بالراحة، بل شعرت أنها محاصرة. رائحة الخشب في الغرفة، والنوافذ التي تفتح على عالم بعيد، كانت جميعها تذكيرًا لها بأنها ليست ملكة لهذا المكان، بل مجرد أسيرة في قفص ذهبي.


تحركت ببطء في أرجاء الغرفة، تلمس الجدران وكأنها تبحث عن شيء مخفي. فجأة، سمعت صوت خطوات هادئة في الممر، فتجمدت مكانها. كانت تلك الخطوات تعرفها جيدًا.


لم يمض وقت طويل قبل أن ترى نفس الأمير الذي رأته بجانب الملك، يقف عند مدخل غرفتها، مستندًا على الإطار الخشبي، عيناه تراقبانها. كانت الملامح القاسية على وجهه تبدو أكثر وضوحًا الآن، وكأنها جزء من تعبيره المستمر عن الغموض.


الأمير (بصوت هادئ لكنه يحمل تحذيرًا واضحًا): "لا تثقي بأحد هنا."


شعرت ليزي بتيار من الشك يتدفق في عروقها. نظرت إليه بتمعن، محاولة قراءة ما خلف كلماته. لم يكن هناك شيء مباشر في كلامه، لكن كانت هناك تحذيرات غير معلنة تكمن في تلك النظرة.


ليزي: "ولا حتى بك؟"


ارتفع حاجبه قليلًا، قبل أن تتسع شفتيه بابتسامة غامضة. تلك الابتسامة التي كانت تحمل شيئًا غير واضح، كأنها ليست للراحة بل للمراوغة.


الأمير (بهدوء مخيف): "خصوصًا بي."


لم يكن هناك أي مساحة للحديث بعد ذلك. كانت كلمات الأمير مثل طعنة سكين، دُفِعَت فيها ليزي إلى الحافة، محاطة بتساؤلات عن هذا الأمير الغامض الذي بدا يلاحقها. هل كان يحاول مساعدتها أم كان جزءًا من الخطة التي تهدف إلى تدميرها؟ سؤالات ظلت تلاحقها بينما كان الأمير يغادر بصمت، تاركًا إياها في حالة من التوتر والقلق المتزايد.



 الوحدة والمراقبة


في اليوم الأول، أيقظتها أشعة الشمس التي تسللت عبر النافذة العالية، لكنها لم تشعر بأي دفء. كان القصر باردًا، ليس فقط بسبب الحجارة الصلبة التي شُيّد بها، بل بسبب الفراغ القاتل الذي يحيط به. جلست على السرير الفاخر، تلمس الأغطية الحريرية التي لم تعتدها. كل شيء هنا كان أرقى مما عاشته يومًا، لكنه لم يكن منزلها. كانت تلك الغرفة كقبعة ذهبية تحتفظ بأسرارها، جدرانها المزخرفة بالألوان الفاتحة والمنقوشات التي تعكس الأضواء بطريقة تجعل المكان يبدو أكثر برودة، أكثر عزلة.


تحركت في الغرفة بتردد، تراقب التفاصيل وكأنها تبحث عن شيء مألوف، شيء يجعلها تشعر بأنها ليست غريبة تمامًا. لم تجد شيئًا سوى الأثاث الفخم، والشمعدانات الذهبية، والمرايا الكبيرة التي عكست صورة امرأة فقدت جزءًا من نفسها ليلة أمس. جلست على حافة السرير، ثم نظرت إلى المرآة، فارتسمت في عينيها نظرة ضبابية كمن يبحث عن شيء غامض داخل نفسه.


"هل كنتُ حقًا حرة يومًا؟" تساءلت ليزي داخليًا، تلمس وجهها الذي بدأ يظهر عليه التعب. هل أنا هنا لأكون أسيرة؟ أم أنني دخلت في لعبة أكبر من أن أرى حوافها؟


اشتاقت لرائحة الخبز المحترق الذي كانت تعدّه والدتها، ولصوت والدها وهو يروي لها قصصه القديمة بجانب المدفأة. اشتاقت حتى للمطر الذي كان يتساقط على سقف منزلهم المهترئ، يذكّرها بأنهم على قيد الحياة. هنا، في هذا القصر الفاخر، شعرت بأنها محاصرة أكثر مما كانت في شوارع مدينتها. لكن ما كان أكثر إثارة للقلق هو شعورها المتزايد بأنها ليست وحدها، وأن مراقبة لا تنتهي تلاحق كل خطواتها.



منذ لحظة دخولها، شعرت بعيون غير مرئية تتابعها. لم يكن ذلك مجرد وهم، فالخدم كانوا يتهامسون كلما مرّت، والحراس لم يحاولوا حتى إخفاء نظراتهم المتفحصة. لكن الأكثر رعبًا كان الملك إدريك. لم ترَه كثيرًا في الأيام الأولى، لكنه لم يكن بحاجة إلى الحضور شخصيًا لتشعر به. كان يراقبها من الظلال، يرسل جواسيسه، يتحكم في كل حركة تقوم بها. كانت تعلم أن كل كتابتها، كل خطوة، وحتى كل نفس تأخذه قد يكون محسوبًا. هل كان يقصد أن يعاقبني أم أن يزرع الخوف في نفسي حتى أظل تحت سيطرته؟


في إحدى الليالي، عندما جلست إلى مكتبها، وجدت ورقة أنيقة موضوعة بدقة فوق سطح الخشب المصقول. لم تكن تتذكر أنها وضعتها هناك. حاولت أن تلمس الورقة بحذر، شعرت بحوافها ناعمة تحت أصابعها، لكنها لم تكن بحاجة لقراءة الكلمات المكتوبة عليها. كان صوتها الداخلي يصرخ: "اعرفي من يحرك الخيوط حولك."


"لا تنسي... القفص الذهبي لا يزال قفصًا."


لم يكن هناك توقيع، لكنها لم تكن بحاجة إليه. كان هذا تحذيرًا، رسالة غير مباشرة من الملك ليؤكد لها أن حريتها لم تعد ملكها. قبضت على الورقة، وألقتها في المدفأة، تراقبها وهي تتحول إلى رماد. لكن الكلمات لم تختفِ من ذهنها. هل حقًا لا أستطيع الهروب؟


لقاء غير متوقع


في مساء اليوم الرابع، وبينما كانت تتمشى في الحديقة محاولة أن تستنشق بعض الهواء بعيدًا عن الجدران الخانقة، سمعت صوت خطوات خلفها. التفتت بسرعة، لتجد الأمير يقف هناك، ملامحه هادئة كعادته، لكن عينيه تحملان فضولًا غامضًا. كان يقف هناك، كأثرٍ باقٍ في المكان، ملابسه الفاخرة تتناغم مع الظلال التي تغمر الحديقة. كان حضوره قويًا، وكأن الهواء ذاته يتغير عندما يتنفس.


"لا أستطيع الهروب من هذا المكان، حتى الهواء فيه محكوم." فكرت ليزي بصمت، وعيناها تسعيان نحو الأمير، حيث لاحظت بطريقة غير واعية تقلبات عواطفه التي تبدو دائمًا متوارية.


الأمير (بصوت خافت لكن ساخر): "بدأتِ تتأقلمين، على ما يبدو."


رفعت حاجبها، محاولة أن تبدو أكثر تماسكًا مما تشعر. في قلبها، كان القلق يعصف بها. ماذا يريد مني الآن؟


ليزي: "إن كنتَ تقصد أني لم أهرب بعد، فهذا لأن القصر مليء بالحراس، لا لأنني وجدت الراحة هنا."


ابتسم الأمير ابتسامة جانبية، لكنها كانت ابتسامة تحمل في طياتها شيئًا غامضًا، شيء ليس تمامًا كما يبدو. لم يُجب. بدلاً من ذلك، تقدم خطوة نحوها، حتى كاد يقف بجانبها. كان قد اقترب بشكل غير متوقع، فشعرت بأنفاسه المقرّبة، واختلطت في ذهنها العديد من الأسئلة التي كانت ترفض الإجابة عنها.


الأمير (بهدوء غامض): "أبي يحب أن يراقب من بعيد، لكنه ليس الوحيد الذي يراقبك."


تجمدت ليزي في مكانها. كان في كلماته شيء مريب، شيء جعل القلق يتسلل إلى قلبها. من يراقبني؟ هل هي لعبة أكبر مما كنت أعتقد؟


ليزي (بصوت منخفض): "ماذا تعني؟"


لكنه لم يُجب، فقط نظر إليها للحظة طويلة، ثم استدار ليغادر. بينما كان يبتعد، شعرت بشيء غريب، كأنها قد تجرّبت لحظة مفصلية في حياتها.


وقفت هناك، تتأمل ظله وهو يبتعد، وداخلها إحساس بأنها بدأت تتورط في لعبة لم تكن مستعدة لها بعد. هل كانت مجرد قطعة شطرنج في يدهم؟ أم أن هناك شيء آخر لم تكتشفه بعد؟

الملكة والأميرات – صراع النساء في القصر




كانت الملكة إيزابيلا سيدة ذات حضور لا يُنسى، كما لو أن كل ملامحها قد صُبّت في قالب واحد: الجمال البارد، السلطة الصامتة، والحكمة الخفية. في كل مرة كانت تدخل فيها غرفة، كان الجميع يسكت، وكأنها تجلب معها الجاذبية التي لا يمكن إنكارها. شعرتها الباردة، عيناها الزرقاوان مثل الجليد، كانت تخترقك كما لو أن كل حركة قمت بها كانت تحت مراقبتها.


عندما قُدمت ليزي رسميًا أمام الملكة، لم تُبدِ الملكة أي علامة على الاستقبال الحار، بل رمقتها بنظرة طويلة من رأسها حتى أخمص قدميها. كانت نظرتها محملة بالتحليل، وكأنها تحاول أن تجد ضعفًا في تلك الفتاة التي دخلت قصرهم دون سابق إنذار.


وبينما كانت الغرفة صامتة، رفعت الملكة حاجبًا قليلًا، ثم قالت بصوتها الهادئ، الذي يحمل نبرة من الغموض:


الملكة: "لديكِ وجه نادر الجمال... أظن أنكِ تدركين ذلك."


لكن ليزي لم تُبدِ أي انفعال. كان الهدوء هو ردّها الوحيد.


ليزي (بهدوء، بثقة متزايدة): "وما الذي يجعل الجمال أمرًا مهمًا في هذا القصر؟ هل هو الكفيل بحمايتنا هنا؟"


رفعت الملكة حاجبها بشكل طفيف، ثم ابتسمت ابتسامة باردة. كانت تلك الابتسامة تعني أن ليزي كانت قد دخلت إلى لعبة لا تستطيع فهم قوانينها بعد.


الملكة (بصوت هادئ واثق): "لا، لكن الجمال هو سلاحك هنا... فتعلمي كيف تستخدمينه. الحيلة تكمن في السيطرة على الآخرين بما تُظهِرينه من مظاهر القوة."


نظرت ليزي إلى الملكة بتركيز، محاولة أن تستشف من تلك الكلمات شيئًا يخفى عنها. كانت تعرف أن الجمال ليس مجرد هبة، بل هو تحدي مُلقى على عاتقها الآن.





في تلك الأيام التي تبعتها، أصبحت ليزي شاهدة على بعض من أعظم الحفلات والمأدبات في المملكة. كانت القاعات فسيحة ومزخرفة، تعكس بذخ الحياة في البلاط الملكي. الثريات الذهبية كانت تتدلى من الأسقف، تلقي الضوء على الوجوه المتأملة والراقصة. المناظر كانت ساحرة، لكن وراء تلك الفخامة كان يكمن الصراع الخفي.


في إحدى الأمسيات، أُقيمت مأدبة ضخمة على شرف ضيوف المملكة، وقد دُعيت ليزي لتكون بين الحضور، إلى جانب الملكة والأميرات. كانت القاعة مليئة بالأمراء والضيوف النبلاء، وكل منهم يحمل معطفه المزخرف بأجمل الخيوط الذهبية، بينما الأطباق الفاخرة كانت تُقدم على الطاولات مثل كنزٍ من الطيبات.


جلست ليزي في المقعد المخصص لها على الطاولة الكبيرة، إلى جانب الملكة وأميرات المملكة. كانت تحاول أن تبقي نفسها في الظل، لكن الأنظار كانت تلاحقها في كل مكان.


الملكة (وهي تنظر إليها من زاوية عينيها، ببرود): "أرى أنكِ بدأتِ التكيف مع هذه الحياة... هل تجدينها مغرية أم خانقة؟"


ليزي (بابتسامة صغيرة، تحمل فيها شيئًا من التحدي): "كلاهما... لكنني أعتقد أن هذا يعتمد على من يراقب."


كانت تلك الكلمات تُخبئ وراءها أكثر مما ظهرت عليه. كانت الملكة تُراقب ليزي بعينين مشدودتين، غير قادرة على أن تُخفي تململها من هذا التحوّل الذي فرضته ليزي على حياة القصر.


الأميرة روزالين (وهي ترفع كأس النبيذ وتقترب منها): "أنتِ حقًا فاجأتنا بوجودك هنا، ليزي. لم نكن نعلم أن الجمال يمكن أن يكون سلاحًا قويًا... حتى نراه هنا، في هذا القصر."


ليزي (بنبرة هادئة، وهي تتجنب النظر إلى الكأس): "أنتِ على حق، أميرة. ولكن هناك قوة أكبر من الجمال، وهي أن تبقى غير قابل للمساس في عالم مليء بالألاعيب."


كانت الأجواء حول الطاولة مشحونة، وكانت الكلمات تُخبئ وراءها معارك نفسية غير مرئية، حيث كل واحدة منهن كانت تسعى لجذب انتباه الملك وحمايته.


بينما كانت الموسيقى تعزف في الخلفية وتتناول الأطباق الفاخرة، كانت ليزي تحاول أن تجد مكانها وسط هذه الحروب الخفية. لا أحد هنا صريح، وكل نظرة تحمل معنى آخر.


بينما كانت الأجواء تزداد كثافة، بدأت ليزي تكتشف أنه كلما حاولت التكيّف مع نظام القصر، كلما زادت المخاطر. كانت الحياة في القصر فخًا مترامي الأطراف، وكانت كل خطوة تُعدّ بعناية لتكون الخطوة التالية على شفا الهاوية.




بعد فترة قصيرة، وجدت ليزي نفسها في مواجهة مباشرة مع الملكة، دون أن يكون لديها خطة واضحة للمواجهة. كانت عيناها الزرقاوان تخترقان كل شيء، حتى روح ليزي نفسها. كانت الملكة جالسة في صمت، بينما الأميرات من حولها يراقبن الحدث كما لو أنه مجرد عرض آخر من عروض القصر.


الملكة (ببرود، وهي تضع يديها على الطاولة أمامها): "أنتِ تتمردين، ليزي. لكن هذا القصر لا يسمح للأفراد بأن يختاروا مسارهم بحرية."


ليزي (بتحدٍّ): "لا أظن أنني هنا لأكون جزءًا من سياستكم الخاصة. أنا هنا لأنني أُجبرت على ذلك... لكنني لست خاضعة."


كان الصمت يسود في الغرفة للحظة، بينما الملكة كانت تنظر إليها بلا أي علامة على الانفعال. كانت تحاول أن تجد الكلمة المناسبة لتُعيدها إلى مكانتها، لكن ليزي كانت أكثر من مجرد امرأة ضعيفة في القصر.


بينما كانت الأميرات يتابعن من بعيد، كان من الواضح أن الملكة ستجد نفسها عاجزة أمام هذه الشخصية التي أصبحت لا تُحتمل.



ليزي الفاتنة


كان جمال ليزي فريدًا بشكل يفوق الوصف، وقد تميّز عن كل من حولها في القصر. كان جمالها ينبع من طبيعتها، دون حاجة لتكلف أو زينة. شعرها الداكن كان ينساب كأمواج الليل الهادئ، طويلًا وحريريًا، يتراقص مع أدنى نسمة هواء، كأنه يروي قصصًا عن الليالي المظلمة التي قضتها في شوارع مدينتها القديمة. عيناها الواسعتان، بلون العسل الذهبي، كانتا تلمعان مثل الكواكب في سماء لا تُحدّ، تحملان في طياتهما ذكاءً لاذعًا وحزنًا غامضًا. كان من السهل أن تضيء عينيها ببريق لا يُخطئه أحد، بينما تخفي وراءه قصة عن امرأة فقدت الكثير في حياتها.


شفاهها الممتلئة كانت دائمًا ما تبدو في حالة استعداد، كأنها على وشك أن تهمس بكلمات حادة أو تبوح بأسرار لا يجرؤ أحد على سماعها. كانت تتحدث بصوت منخفض وحاد، يشد انتباه كل من حولها، ويجعلهم يتساءلون عن السر الذي تخفيه تلك الشفاه المرسومة بشكل طبيعي.


لكن الجمال الحقيقي لليزي كان في روحها التي لا يمكن اختزالها في ملامح وجهها. كانت تلك الفتاة التي حملت في قلبها طموحاتٍ أكبر من تلك الجدران الفخمة التي أُجبرت على العيش داخلها. كان هناك شيء في طريقة مشيتها، وكأنها تجذب الأنظار دون أن تسعى لذلك، فكل خطوة منها كانت مفعمة بالكبرياء، وعزيمة لا تهتز أمام التحديات.


حينما كانت تمر من أمامهم، كانت الخادمات يتبادلّن النظرات وهمسات منخفضة، والأمراء يراقبونها في صمت، وتلك النظرات التي لا تُخفي إعجابهم كانت تتناثر في كل مكان. كان كل مَن حولها يشعر بحضورها الطاغي، وكأنها كانت تمشي على الأرض كما لو كانت تملك مفاتيح السماء.


لكن الجمال في القصر لم يكن نعمة؛ بل كان تحديًا غير مرئي، حيث أصبحت ليزي قطعة في لعبة غير عادلة. ورغم أنها كانت جميلة جدًا، إلا أن جمالها كان يضعها في دائرة خطر مستمر، لأنها كانت تجذب الأنظار التي ربما لم تكن ترغب في جذبها.



روتين القفص الذهبي


أصبحت أيام ليزي في القصر تشبه بعضها بعضًا، روتين ممل يربطها بسلسلة من الواجبات والأعمال التي لا تكل ولا تمل. في الصباح، كانت تستيقظ على صوت خفيف للستائر التي تُسحب بعناية، وتدخل الخادمات بعينيهن المترقبتين. كانت دائماً تجد نفسها في ساحة عرض جديدة، حيث يُحضر لها ألوان جديدة من الثياب الفاخرة التي لم تعتدها، تُلبس جسدها بحذرٍ كما لو كانت دمية. وكانت الخادمات لا يتوقفن عن الحديث عنها بصوت منخفض أثناء ترتيب تسريحتها أو وضع المكياج، كأنها ليست جزءًا من هذه الحياة، بل مجرد مخلوق جديد غريب.


أول لقاء مع الخادمة ألين


في أحد الأيام، بينما كانت ليزي جالسة على المقعد في جناحها، تستعد ليومها الممل، اقتربت منها الخادمة ألينا، وهي فتاة شابة ذات شعر بني فاتح وعينين زرقاوين، كانت تبدو كما لو كانت قد نشأت في القصر.


ألينا (بهمسات مترددة):

"هل تحتاجين إلى مساعدة، سيدة ليزي؟"


ليزي (تنظر إليها بملامح متجهمة):

"هل سأحتاج إلى مساعدة طوال الوقت هنا؟"


ألينا (بتردد):

"أعتقد... ذلك سيكون الأفضل. القصر يعجّ بالعيون... لا شيء يمرّ هنا دون أن يُلاحَظ."


شعرت ليزي بثقل الكلمات في قلبها، لكنها لم تُجب. كل ما يمكنها فعله هو أن تتأقلم وتبقى على حياد.


الروتين اليومي في القصر


ومع مرور الأيام، أصبح روتينها اليومي كما يلي:


الصباح: يُوقظها الخدم في تمام الساعة السادسة صباحًا، ويُدخلون عليها كؤوس الشاي الساخن، بينما تُجلب إليها ملابسها بعناية. كانت تتساءل في كثير من الأحيان كيف يمكن لشيء يبدو في البداية كعناية أن يتحول إلى عبودية بمرور الوقت.


الظهيرة: يتم تناول وجبات الطعام مع أفراد العائلة المالكة. يتم تجميع الجميع في قاعة الطعام الكبرى، حيث تكون المائدة مغطاة بأفخم الأطباق، والأميرات يرتدين أفخر الأزياء التي تسرق الأنظار. وفي تلك الأثناء، تتبادل الأميرات نظرات الاحتقار والغيرة، بينما الملكة إيزابيلا تراقب الجميع بصمت. أما الملك، فلا يكاد يظهر إلا في لحظات قصيرة، ولا يلتفت إلى أحد. كان الملك يفضل دائمًا الانعزال عن المائدة، لكنه كان يراقب الجميع من بعيد.





في أحد الأيام، أثناء تناول الطعام، قررت ليزي أن تبدي اعتراضًا بسيطًا على الطريقة التي كانت تتعامل بها الملكة مع الخدم، حيث كانت توبخ أحدهم أمام الجميع. بينما كانت الملكة تتحدث إلى أحد الخدم، تدخلت ليزي دون أن تفكر.


ليزي (بتحدٍ في الصوت):

"الناس هنا ليسوا خدمًا فقط، هم بشر يستحقون الاحترام."


أوقفت الملكة حديثها ورفعت رأسها، وعيناها الزرقاوان تلمعان بغضب مكبوت. على الرغم من أنها حافظت على هدوئها، كان من الواضح أن كلمات ليزي قد أثارت شيئًا عميقًا في نفسها.


الملكة (بابتسامة باردة، بصوت متحفظ):

"أعتقد أن كلماتكِ ستجلب لكِ مشاكل، أيتها المتمردة الصغيرة."


أحسّت ليزي بوخزة في قلبها، لكنها لم تسمح لمشاعرها بالظهور. ظلّت عيناها ثابتتين، ولم تُجب. كانت تعلم أنها دخلت في صراع مع قوة أكبر منها، وأن هذه اللحظات ستكون أصعب في المستقبل.


المساء – قضاء الوقت في جناحها


في المساء، كانت ليزي تقضي ساعات طويلة في جناحها الفاخر، جالسة أمام النافذة التي تطل على الحديقة الغامضة. كانت تراقب الضوء الخافت للشموع وهو يرتد عن الجدران المحفورة من الذهب. ومع أن الغرفة كانت مليئة بالأثاث الفاخر، إلا أنها شعرت بالوحدة القاتلة. كان الجلوس هناك بمفردها يُشعرها بأنها سجينة في قفص ذهبي.


في إحدى الليالي، بينما كانت ليزي غارقة في أفكارها، دخلت الخادمة ألينا مرة أخرى، ولكن هذه المرة كانت تحمل معها علبة صغيرة مغطاة برباط حريري.


ألينا (بتوتر واضح):

"سيدة ليزي، الملكة طلبت منك الحضور إلى جناحها غدًا في المساء. هناك شيء تود التحدث إليه."


ليزي (تنظر إليها بفضول):

"الملكة؟ لماذا؟"


ألينا (بصوت هادئ):

"لا أعرف، سيدة ليزي. لكنها ستكون فرصة جيدة للتعرف عليها."


ابتسمت ليزي ابتسامة خفيفة، لكنها لم تقل شيئًا. كانت تعلم أن هذه "الفرص" لا تأتي دائمًا كما تبدو.

الملكة وإصرارها على ليزي – الحيلة في المكر


في اليوم التالي، عندما كانت ليزي تجلس في جناحها، تفكر فيما قالته ألينا حول الدعوة إلى جناح الملكة، شعرت بمزيج من الفضول والقلق. لم تكن هناك دعوات ودية من الملكة، وكانت تعلم أن وجودها في القصر لا يقتصر على كونها مجرد ضيفة أو كاتبة. كانت قطعة شطرنج في لعبة كبيرة، والملكة إيزابيلا بالتأكيد كانت تخطط شيئًا ما.


لم تكن الملكة تُبدِ اهتمامًا بالآخرين إلا إذا كان ذلك يخدم مصلحتها. ومنذ اللحظة التي رأتها فيها، كانت الملكة تُراقبها عن كثب، تلاحظ كل حركة وكل كلمة. جمال ليزي لم يكن مجرد سمة سطحية في أعين الملكة. كان الجمال يعني القوة، والنفوذ، وفي عالم القصر الذي يغلب عليه التنافس والهيمنة، كانت الملكة بحاجة إلى الأشخاص الذين يمكنهم أن يخدموا مصالحها. لكنّ ما لم تدركه ليزي في البداية، هو أن الملكة لم تكن ترى فيها مجرد منافسة بسبب جمالها، بل كانت تُمثل تهديدًا حقيقيًا لمكانتها.


الملكة في قلب اللعبة


الملكة إيزابيلا كانت تعرف أن جمال ليزي، وحضورها المثير، كان سلاحًا قويًا جدًا في القصر. كان من السهل أن تُلفت الأنظار وتكسب دعمًا غير متوقع، خصوصًا في وقت كانت فيه الملكة تحاول الحفاظ على سلطتها وسط القلاقل الداخلية. الملكة لم تكن غافلة عن حقيقة أن هناك مراكز قوة أخرى داخل القصر، وبعض الأميرات لم يكن يحترمنها، بل كان يخفين مشاعر من الغيرة والاحتقار.


لذلك، اختارت الملكة ليزي بعناية لتكون أداة يمكن أن تلعب بها في لعبة سياسية معقدة داخل جدران القصر. فالجمال كان له قيمة خاصة هنا، لكن الأهم من ذلك هو استخدامه في الوقت الصحيح وفي المكان الصحيح. كانت تعلم أن ليزي، إذا أحسنت اللعب، قد تشكل تهديدًا لها، لكنها كانت تعتقد أنه يمكنها السيطرة عليها. فإذا نجحت في جذب ليزي إلى جانبها، فإن ذلك يعني أن كل الصراعات الداخلية ستتجه لصالحها.


العلبة الغامضة – خطوة في لعبة الملكة


قبل أن تذهب ليزي إلى جناح الملكة، كما طلبت ألينا، كانت تُفكر في معنى العلبة التي كانت قد أُعطِيت لها. كانت علبة صغيرة ملفوفة بحذر في رباط حريري، وعندما فتحتها، شعر قلبها يهتز قليلاً. داخل العلبة، كانت هناك سلسلة من الحُلي الفاخرة، تتضمن قلادة ذهبية مشغولة بدقة، وتاجًا صغيرًا مرصعًا بالأحجار الكريمة، وخاتمًا براقًا.


عندما نظرت ليزي إلى هذه القطع اللامعة، شعرت بشيء غريب. كانت تعلم أن الهدايا في القصر عادة ما تكون أكثر من مجرد لفتة لطيفة. كان كل شيء يحمل معنى أعمق. كانت الملكة تحاول إظهار شيء ما، محاولة لجذبها في شبكتها بطريقة مرنة، كما لو كانت تُمهد الطريق نحو تحالف.


لكن ليزي لم تكن ساذجة. كانت تعلم أن هذه الهدايا ليست سوى وسيلة لتقوية العلاقة بينهما. كانت الملكة تعطيها ما هو ثمين، وفي المقابل، كانت تنتظر شيئًا ماديًا، حتى لو كان هذا الشيء مجرد ولاء صامت. لكن ليزي، التي كانت قد تعودت على العيش خارج القيود، لم تكن مستعدة لأن تكون مجرد أداة في لعبة الملكة.


اللقاء مع الملكة – اللحظة الحاسمة


في المساء، عندما دخلت ليزي إلى جناح الملكة، وجدت نفسها في قاعة رائعة تزخر بكل شيء فاخر: الجدران المطلية بالذهب، والسجاد الفاخر الذي يغطي الأرض، والنوافذ التي كانت تفتح على منظر جميل للحديقة الملكية. وعلى الرغم من البذخ الفاخر الذي يحيط بها، كانت ليزي تشعر وكأنها دخلت إلى عالم آخر، عالم مليء بالأسرار والمكائد.


الملكة إيزابيلا كانت جالسة على مقعدها الفخم، نظراتها الزرقاء الثاقبة كانت تلاحق كل حركة تصدر عن ليزي، كما لو كانت تدرس شخصيتها عن كثب. كان الجو مشحونًا، لكن الملكة كانت تحافظ على هدوئها المعتاد، وكأنها تتصرف دائمًا وفقًا لسيناريوهات مدروسة مسبقًا.


الملكة (بابتسامة باردة، وهي تشير إلى مقعد أمامها):

"تفضلي، سيدة ليزي. أعتقد أننا بحاجة للحديث."


أجابت ليزي بحذر، وهي تتحرك ببطء نحو المقعد:


ليزي (بتحفظ):

"عن ماذا؟"


الملكة (بهدوء، وهي تلتقط فنجان شاي من أمامها):

"عن دورك في هذا القصر، بالطبع. أنتِ لستِ مجرد كاتبة هنا، كما تعلمين. وجودك قد يكون له تأثير أكبر مما تتصورين. لكن هل تفهمين ذلك؟"


نظرت ليزي إلى الملكة مباشرة، دون أن تُظهر أي تردد. كانت تعلم أن هذه اللحظة ستكون مصيرية.


ليزي (بصوت منخفض، لكنها ثابتة):

"أفهم جيدًا. لكنني لا أحتاج إلى أن أكون جزءًا من لعبتكم."


الملكة (ابتسامة خفيفة ترتسم على شفتيها):

"لا تقلقي، سيدة ليزي. لن أطلب منك أن تكوني جزءًا من شيء لا تريدين المشاركة فيه. لكن الجمال سلاح، ومعه يأتي تأثير كبير. كنتُ أتمنى أن نتعاون في هذا، لكن الخيار دائمًا لك."


الخاتمة – بداية الارتباط


كان هذا اللقاء مجرد بداية لما سيكون علاقة معقدة بين ليزي والملكة. كانت الملكة قد أظهرت أوراقها، لكن ليزي كانت مستعدة للعب بطريقتها الخاصة. في هذا القصر، حيث الجميع يراقب، كانت ليزي لا تزال تجهل ما يُحاك خلف الأبواب المغلقة.

بدأ الأمير يراقب ليزي تدريجيًا، وكأنما كان يراقب كل حركة تقوم بها داخل جدران القصر. في البداية، كانت تلك النظرات سريعة، خاطفة، لكنها سرعان ما أصبحت أكثر وضوحًا. في كل مرة كانت تجلس في مكان ما، كان يلاحظها من بعيد، يتسلل بنظراته من خلف الأبواب أو بين أضواء الشموع المبعثرة في القاعات الفخمة.


في إحدى المناسبات، كانت ليزي جالسة على شرفة القصر، تنظر إلى الحديقة، وعينيها تائهتان في الأفق. كان الجو هادئًا، وكل شيء حولها يبعث على الشعور بالعزلة. فجأة، شعرت بنظرة تراقبها. نظرت إلى الجهة المقابلة، وهناك، من بعيد، كان الأمير واقفًا في أحد الممرات التي تطل على الحديقة. لم يكن يبتسم، لكن عينيه كانت تحمل شيئًا لا يمكن تجاهله، كان يراقبها بعناية، وكأنما يقرأ كل تفصيلة في وجهها.


على الرغم من ابتعاده، شعرت وكأنّ هواء القصر أصبح أثقل، وكأن هناك شيئًا غريبًا يحدث بينهما. كلما رآها، كان يرفع حاجبًا بطريقة مميزة، ثم يغمزها ابتسامة قصيرة قبل أن يلتفت ليغادر، ولكنه كان يترك انطباعًا عميقًا في نفسها، انطباعًا لا تستطيع تفسيره.


وفي مرة أخرى، أثناء إحدى الحفلات الفاخرة، كانت ليزي تقف في أحد الزوايا، تراقب الجميع بعيون حذرة، ولاحظت الأمير وهو يبتعد عن المجموعة التي كان يتحدث معها. كان يتحرك باتجاهها، وكأنما كانت خطواته موجهة إليها فقط. عندما اقترب منها، التقت أعينهما، وفجأة، توقفت كل الحركات حولها، وركزت انتباهاتها عليه.


"أنتِ هنا، بين هؤلاء جميعهم، وكأنك لا تنتمي لهذا المكان"، قال الأمير بنبرة هادئة، لكنه كان يتسائل بصدق، أكثر مما يبدو عليه.


ابتسمت ليزي بابتسامة جافة، وكأنها تدافع عن نفسها. "هل يظن الجميع أنني دخيلة هنا؟"


"ليس الجميع"، أجاب الأمير، لكن كانت عيناه تقولان شيئًا مختلفًا. كان هناك شيء غير ملموس في تلك النظرة، شيء كان يشير إلى أنه كان يتأملها أكثر من مجرد امرأة جديدة في القصر.


مرّت الأيام، واستمر الأمير في مراقبتها، كان يبعث إليها نظرات خاطفة من خلف الأبواب، وفي اللحظات التي كانت تقف فيها وحدها في القاعات الواسعة، كان يقترب منها قليلاً، يتبادل معها ابتسامات لا يمكنه إخفاؤها، تلك الابتسامات التي كانت تترك أثرًا غريبًا في قلب ليزي.


وفي إحدى الليالي، بينما كانت تمشي في أروقة القصر، شعرت به من خلفها. التفتت، ليقابلها وجهه المألوف. كانت عينيه تلمعان بنوع من الفضول.


"هل تكرهين هذا المكان إلى هذه الدرجة؟" قال الأمير، صوته رقيق ولكنه يحمل في طياته بعض الحدة.


"لا أكره، لكنني أشعر وكأنني ضيفة غير مرغوب فيها." ردّت ليزي، محاولة إخفاء شعورها بعدم الارتياح.


ابتسم الأمير ابتسامة غامضة، ثم قال: "أعتقد أنكِ ستكونين أكثر قدرة على التكيف مما تعتقدين."


ومع تلك الكلمات، شرع قلب ليزي ينبض بشكل أسرع، وأدركت أنها بدأت ترى الأمير بعيون مختلفة.


بدأت اللقاءات العفوية بين ليزي والأمير تأخذ منحى مختلفًا، فبعد كل مواجهة، كان هناك نوع من التفاهم بينهما، كأنما كانا يكتشفان بعضهما البعض تدريجيًا. كان الأمير يتبعها بهدوء في الأماكن التي تذهب إليها، سواء كانت حدائق القصر أو الصالونات الفخمة، وكان يظهر فجأة أمامها في اللحظات التي تجد فيها نفسها وحيدة.


في إحدى المرات، كانت ليزي تسير في الحديقة بالقرب من النافورة، وكانت تفكر في كل ما يحيط بها، وكيف أنها تجد نفسها عالقة في هذا القصر الضخم، بين أفراد لا تشعر بأنها تنتمي إليهم. بينما هي غارقة في أفكارها، شعرت بشيء يلمس أطراف ثوبها، وعندما رفعت نظرها، كان الأمير يقف أمامها، يبتسم ابتسامة هادئة، لكنه لم يقل شيئًا على الفور.


"لم أظن أنني سألتقي بك هنا"، قالت ليزي، وهي تحاول إخفاء القلق في صوتها.


"كنتُ أنتظر اللحظة المناسبة"، قال الأمير، وهو ينظر إليها بحذر، كما لو كان يحاول اكتشاف ما يدور في ذهنها.


ابتسمت ليزي بخفة، متظاهرة بعدم الاهتمام. "أنت بالتأكيد تنتظر لحظة كافية."


"ربما لأنكِ لا تعرفين، ولكنني أحب مراقبة الناس قبل أن أتحدث إليهم." قال الأمير، نبرة صوته هادئة، ولكنها كانت تحمل خلفها نوعًا من الفضول.


كان هناك صمت بينهما للحظة، حيث وقفت ليزي تنظر إلى الأمير، وعينيها تلمعان بالحذر، لكنها كانت أيضًا تشعر بشيء غير مفسر يدفعها للحديث أكثر.


"هل تظن أن مراقبتي ستعني شيئًا؟" قالت ليزي أخيرًا، وعيونها تحمل نظرة مستفزة.


"أعتقد أنه ليس فقط مراقبتك، بل ما خلف كلماتك أيضًا. ليس كل شيء ظاهر هو الحقيقة، أليس كذلك؟"


نظرت ليزي إليه لحظة، متأملة كلماته. كان هناك شيء في عينيه، شيء يجعلها تشعر وكأنها تتحدث مع شخص يعرفها أكثر مما ينبغي، أو ربما يحاول فهم أعماقها أكثر.


في لقاء آخر، كان الأمير يراها وهي جالسة بمفردها في زاوية القاعة الكبرى بعد العشاء، مع بعض الكتب المبعثرة أمامها. اقترب منها بهدوء، دون أن يشعرها بحضوره المفاجئ.


"أنتِ لا تشبهين الأميرات هنا"، قال الأمير، وهو يلتقط أحد الكتب من الطاولة.


"وهل كنت تتوقع مني أن أكون كذلك؟" أجابت ليزي بابتسامة ساخرة.


"أعتقد أنه يمكنني القول أنكِ تحملين شيئًا مختلفًا. ليس بالضرورة أن يكون ذلك سيئًا." قال الأمير، وهو يمد يده نحو الكتاب الذي كانت تقرأه. "ماذا تقرئين؟"


"كتاب عن السجون..." قالت ليزي، ونظرت إليه بابتسامة غامضة. "ربما يتعلق الأمر بحالة القفص الذي نحن فيه."


ألقى الأمير نظرة سريعة على الكتاب، ثم عادت نظرته إلى ليزي، كانت عيناه تحملان شحنة من الاهتمام.


"أعتقد أن القفص يمكن أن يكون مكانًا للاحتجاز، ولكنه أيضًا مكان للحرية إذا اخترت أن ترى ذلك." قال الأمير، وهو يجلس بجانبها دون أن يبتعد كثيرًا.


كان الجو بينهما مختلفًا، وكان الأمير يستمر في محاولاته لكسر الحواجز بينهما. كان يبتسم أكثر هذه المرة، لكن كانت ابتسامته مليئة بالغموض. لم يكن يريد أن يُظهر لها أنه يهتم، لكنه كان يظهر دائمًا في اللحظات التي تحتاج فيها إلى شخص يشاركها اللحظة.


"أنت تعرف، سمو الأمير"، قالت ليزي، وهي تتأمل الكتاب بين يديها، "الحرية شيء قد يظن البعض أنه مجرد وهم. حتى في أكثر الأماكن رفاهية، يمكن أن تكون الروح في سجن."


أجاب الأمير، وهو يحرك رأسه بتفكير: "ربما. لكن في كل سجن، هناك دائمًا طريق للهروب."


نظرت ليزي إلى عينيه، وكان الوقت يتوقف بينهما. كان هناك صمت ثقيل، لكن تلك الكلمات تركت تأثيرًا عميقًا فيها. بدأت تشعر أن العلاقة التي كانت بينهما قد تتغير، شيئًا فشيئًا.


في إحدى اللحظات التالية، بينما كان الأمير يقترب منها بشكل غير متوقع، همس بصوت منخفض، "هل تخافين من التغيير؟"


"لا"، قالت ليزي، وهي ترفع رأسها، "أنا فقط أخاف من الوعود الكاذبة."


ابتسم الأمير، لكنه لم يُجب. فقط كان ينظر إليها وكأن شيئًا قد تغير في نظرته إليها، كما لو أنه بدأ يفهمها أكثر من قبل.





في الأيام التالية، بدأت ليزي تلاحظ أن الأمير يظهر أمامها في أكثر اللحظات غير المتوقعة، وكأنها تتقاطع طريقها مع طريقه في كل مرة. في البداية، كانت اللقاءات عابرة، لكنها سرعان ما أصبحت تثير فضولها أكثر. في إحدى الأمسيات، بينما كانت تجلس وحيدة في الحديقة، تتأمل الأضواء الباهتة المنعكسة على نافورة المياه، شعرت بشيء غريب يحيطها. ثم فجأة، رنّت خطوات هادئة خلفها.


"ألم تشعري بالملل من قضاء وقتك في القصر؟" جاء الصوت بشكل غير متوقع، وكان يحمل نغمة هادئة، لكن مع بعض اللمسات الغامضة.


التفتت ليزي بسرعة، لتجد الأمير يقف أمامها بابتسامة نصفية، وكأنها لحظة من لحظات التقاء القدر. كانت عيناه تحملان بريقًا يجعل قلبها يتسارع ضرباته، فارتبكت للحظة.


"قصر من ذهب، ولكن..." ردت بصوت منخفض، مع محاولة للتهرب من صراحتها، "ليس أفضل من الحرية."


ضحك الأمير ضحكة خفيفة، لكن هناك شيء في نظرته جعل ليزي تشعر وكأنه يفهم أكثر مما يظهر. تقدم نحوها خطوة، دون أن ينطق، وكأن هناك شيئًا يريد أن يكتشفه في عينيها.


"الحرية... أظن أنكِ من الأشخاص الذين يحبون إخفاء مشاعرهم." قال وهو ينظر إليها بنظرة هادئة، كان صوت صوته مملوءًا بشيء من الفهم الذي لم تتوقعه.


"هل تعني أنني أبدو خائفة؟" أجابت ليزي، وتحدت تلك النظرة التي كانت تشعر وكأنها تتسرب إلى أعماقها.


"لا، لكنكِ تفعلين كل شيء كما لو أنكِ تخفين سرًا." أجاب الأمير، مبتسمًا لكن مع نظرة تلمح إلى شيء لم يكن ليزي مستعدة لفهمه بعد.


شعرت ليزي بارتباك شديد في قلبها، ولم تعرف كيف تتصرف. لماذا كانت كل كلمة يصدرها الأمير تجذبها إليه أكثر؟ لماذا كان حضوره يوقد في قلبها شعورًا غريبًا لم تعهد مثله من قبل؟


ثم في اليوم التالي، في مكتبة القصر الضخمة، بينما كانت تحاول أن تغرق في صفحات كتاب جديد، مدّت يدها نحو أحد الرفوف لتصطدم فجأة بيد شخص آخر. التفتت بسرعة، فوجدت نفسه، الأمير، يقف بجانبها، ينظر إليها بعينين متفحصتين كأنهما تقيسان كل جزء من وجودها.


"ألم تجدي كتابًا آخر في القصر لتقرئيه؟" قال الأمير، وهو يبتسم بابتسامة متحفظة، لكن عينيه كانتا تتابعان حركاتها عن كثب.


"أعتقد أنني أفضّل هذه المكتبة. إنها أكثر هدوءًا." ردّت ليزي بصوت غير ثابت، لأنها كانت تشعر بأن وجوده يضغط على أعصابها بطريقة غير متوقعة.


"لكن... أليس الكتاب مجرد وسيلة للهروب؟" سأل الأمير، بينما مدّ يده نحو الكتاب الذي كانت تحاول الوصول إليه، وأمسكه، ثم قدّمه لها.


"هل هذا ما تظن، سمو الأمير؟" قالت ليزي، وهي تلمس أطراف الكتاب الذي مدّه إليها، بينما كانت تنظر إليه بتحدٍ، وهي تحاول إخفاء الفوضى التي تجتاح قلبها.


ابتسم الأمير ثم نظر إليها بنظرة جادة، جعلت قلبها يخفق بشدة. "ربما..." قال، "ربما هو مجرد وسيلة للهروب، لكن هذا لا يعني أن الهروب غير ممتع."


كانت ليزي تشعر وكأن كلمات الأمير تحمل معانٍ غير مباشرة، وكان يختبر مشاعرها بطريقة غير واضحة. ابتعد عنها قليلاً، لكنها لم تستطع إخفاء شعورها الغريب تجاهه. كان هناك شيء في تواجده يجعلها تشعر بأنها لم تعد قادرة على التفكير بوضوح.


ثم، وفي اليوم التالي، بينما كانت تتجول في الحديقة، جلست تحت إحدى الأشجار، محاولًة أن تجد لحظة من السكينة، ولكن فجأة، ظهر أمامها من جديد. كان يقف على بُعد خطوات قليلة، مبتسمًا لها بابتسامة دافئة.


"أنتَ دائمًا هنا في هذا الوقت؟" قالت ليزي، محاولًة أن تكون غير مكترثة، رغم أن قلبها كان ينبض بشكل أسرع.


"وأنتِ؟ دائمًا تظهرين في هذا الوقت؟" ردّ الأمير بابتسامة خفيفة، ثم اقترب منها قليلاً. "أم أن هذا المكان أصبح يشدك كما يشدني؟"


"ربما، أو ربما أنا فقط أبحث عن شيء أفتقده." قالت ليزي بصوت خافت، وهي تشعر بأن تواجده في تلك اللحظة يشدها إليه أكثر مما تريد.


ابتسم الأمير، لكن كانت ابتسامته تحمل سرًا لم تكن ليزي قادرة على كشفه بعد. "ربما نحن جميعًا نبحث عن شيء نفتقده... لكننا لا نعرف ماهيته." قال بصوت هادئ.


ما لم تدركه ليزي في تلك اللحظة هو أن الأمير الذي قابلته في المكتبة ليس هو نفسه الذي رأته في الحديقة. ولكنها لم تكن تعرف أن هناك شخصًا آخر، يحمل نفس الوجه، نفس الشخصية، نفس الجاذبية. كان توأمه، الذي لا تعلم أنه يتنكر في صورة أخرى.


كان قلب ليزي يتسارع في كل مرة تلتقي فيها بأحدهم، لكن مشاعرها كانت تتوزع بينهما دون أن تدرك الحقيقة. كانت تقع في حب شخصين دون أن تعرف ذلك بعد.


يتبع..... 




تعليقات

  1. طبعاً هذه قصة مفاجأة صاحبة القلم المختبئ، أزيز الصمت.
    تعرفين رأيي بالفعل أختي الكريمة. لكن سأختصره هنا سريعاً، في كلمات قصيرة. واقعية احترافية. إبداع في الوصف بكل أنواعه. حوارت قوية. نهاية متكاملة لم تحد عن الطريق. سأترك المزيد للجزء الثاني إن شاء الله ههه
    مبارك هذه القصة وهذه الموهبة الكتابية أختي الكريمة.
    خالص تحياتي.

    ردحذف
    الردود
    1. شكرا أخي البراء ..لقد أخجلتني بكرمك وطيبتك بمنح قصصي مساحة على مدونتك ..والله لا تعرف قدر امتناني وسعادتي ...إنه شرف أتمنى أن يقدرني الله على سداده لك يوما ما ...وفقك الله لما يحبه ويرضاه ..تحياتي
      أزيز الصمت .

      حذف
    2. لم أفعل شيئاً، في الواقع، أنقذتِ المدونة من خيوط العنكبوت، لذا الشكر موصول لكِ أيضاً.
      أؤمن على دعاؤك الجميل وأدعو لك بالمثل وأكثر.
      تحياتي

      حذف
  2. الآن أقرأ قصة أختنا أزيز ويبدو إنها متحف كامل للفنون المرويه ولكنها بحاجه لكثير من التركيز والوقت سأعلق عليها متى أنهيتها
    حتى تحترق النجوم

    ردحذف
    الردود
    1. حتى تحترق النجوم عمي رفعت.
      ..والله اني انتظر تعليقك بفارغ الصبر..تعليق يثلج الصدر كالذي رأيته بالمنارة .
      تحياتي الخالصة .
      أزيز الصمت .

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكاية قرار

ثرثرة تحت الأرض

لا تبتسم أرجوك