القناعة ضعف




 أعود مع ذلك الصديق مجدداً، ولا أعلم لماذا تضطرني الظروف للاستماع لترهاته كل مرة، ولكني أحياناً أعتقد أنه ذكي وأنه محق فيم يقول، وأحياناً أخرى أعتقد أنه أبله فعلاً.

هذه المرة كنا في أحد المولات الشهيرة الذي لا شك أنه يحتل المرتبة الأولى أو الثانية في قائمة أكبر مولات مصر، وكلمة مول هي كلمة مستحدثة وتعني مركز تجاري ضخم به العديد المحلات التجارية، أى مجمع استهلاكي بمعنى أدق، وهو كالمغناطيس لكل الفئات المستهلِكة، من المكافحين، إلى أصحاب القصور.

 هو طبعاً للمتواضعين أمثالي وزميلي، دنيا غير الدنيا، عالم لا نراه إلا هناك وهناك فقط، أناس دخلاء على غالبية أهل مصر البسطاء الذين يهشمون البصل باحتراف أثناء تناولهم الفطور على عربة الفول في الشارع. 

أجد نفسي أسأله فجأة:

- هل تظن أن هؤلاء ذهبوا إلى مدرسة وجلسوا في فصل به العشرات العديدة من الأطفال؟

ينظر لي فأكمل:

- مثلاً حضروا أجواء سحور عادي تقليدي أغلى مكون فيه هو الزبادي؟

يرد مقلداً صوت عادل إمام في أحد مسرحياته الشهيرة:

- أنا لا أعتقد! 

أحاول نقل طابع الجدية له:

- أقصد.. الجينات مختلفة والمنبت دخيل، ألا تظن؟ مصر أخرى غير مصر؟ ألا يجعلك هذا تفكر أن الفجوة الطبقية كبيرة للغاية؟

لم يرد عليّ لأنه كان منبهراً بأشياء أخرى، حتى قال لي فجأة:

- أتعرف لمَ ذاك؟ أتعرف لماذا هناك سلم وهناك درجات وهناك أناس على الدرجات؟ أتعرف لماذا لسنا مثلهم؟

سألته السبب فقاله:

- لأننا قنعنا، رضينا! القناعة ضعف! 

أضحك تلقائياً:

- كالعادة تأتي بكلمة من الشرق وكلمة من الغرب وتلصمهما سوياً، ثم تتفلسف في محاولة منطقة ذلك اللصم العشوائي.

- اسمعني أولاً ثم تكلم. أترى؟ حينما نقنع بشيء فإننا نتوقف عن السعي، أترى أولئك هناك أعلى السلم؟ أولئك لم يقنعوا ولم يتوقفوا عن السعي. 

- ومن قال؟

- الثري ثري لأنه لم يقنع، لأنه طمع في المزيد. 

- وبهذا الفكر الضحل قررت أن القناعة لعنة وليست هبة؟

- هي خداع نفس، محاولة إقناع بالرضا الحقيقي الذي لم يأتِ قط، ولن يأتي أبداً، واستبداله برضا مزيّف. 

- وإذا ظللنا نسعى ولم نقنع للأبد، كيف سيأتي الرضا الحقيقي؟

- في لحظة مثل هذه، أن تمشي وسط الناس وأنت تعرف أنك أفضل منهم، تشتري أي شيء إذا أردت، تشتريهم أنفسهم. 

- مبدأياً، لا أحد سيُهلك روحه من سعي متواصل لأجل لحظة واحدة، ثم ثانياً، المال لا يجعلك أفضل شخصاً! 

- بل يجعلك في عالمنا الرأسمالي الجميل. 

- طيب، ولماذا قنعت أنت؟ لماذا لست هناك معهم أعلى السلم؟

- لأنني ضعيف. 

- لا تقل ضعيف، قل متفلسف. 

يرد بحزن خفي في نبرته:

- لا أحد يفهمني بكل حال. 

أصمت وأنا أشعر بالغيظ من طريقة تفكيره، ورحت طوال الطريق أراقب المستهلكين حولي بمختلف الدرجات. 

بعد افتراقنا وانتهاء يومنا، وأثناء عودتي إلى مسكني، وجدت نفسي أفكر في كلماته مجدداً. بدا حينها من الجلي لي أنه حاول اختلاق سبب مقنع ليبرر به الفجوة الهائلة بيننا وبين أثرياء المول، وكأنه يحسدهم ثم لا يرضى الحسد ويريد المبرر. وسألت نفسي: لماذا لم أخبره حينها أن هناك عوامل كثيرة جداً في معادلة الثراء؟ لماذا لم أحدثه عن تلك العوامل، الحظ والشخصية والبيئة والثقافة والتعليم والأخلاق.... إلخ، وهو الذي ربط الثراء كله بعامل واحد فقط وهو القناعة؟

حينما تقابلنا مجدداً بعدها بأسابيع، أعاد ذكر الأمر أمامي، فتذكرت ما لم أقله وأخبرته ما ببالي، فقال لي:

- أوتظن أني لم أفكر في هذا؟ كل تلك العوامل لا نختارها بأنفسنا، ولكن العامل الوحيد الذي نملكه ونتحكم فيه، هو القناعة، نقبع مكاننا إذا رضينا بما نملك، ولم نسع لزيادته. 

قلت له وأنا أضرب كفاً بكف:

- لماذا تجادل وأنت تعرف أنك على خطأ! أنت بررت كل الثراء في العالم بالقناعة، وأنا أخبرك أن الأمر مستحيل لأن عوامل الثراء كثيرة للغاية. 

قال لي ضاغطاً على حروفه:

- القناعة والرضا ضعف! الثراء قرار وخيار. 

ثم رحل تاركاً إياي متعجباً منه ومن أفكاره ومن شخصيته. 




تعليقات

  1. مرحباً براء كيف حالك؟
    كتبت قصه جديده🙃
    ولكن هذه المره ليست رعب ...
    بل نوع آخر هه

    ردحذف
    الردود
    1. بخير الحمد لله. شكراً لك. مبارك القصة الجديدة. أين هي كي نقرأها؟

      حذف
    2. حسناً سارسلها🙂..

      حذف
  2. الصديق المتفلسف هذا محق بالفعل، أعجبتني صراحته، إنك لن تجد رجلاً ثريا يقول لك وصلت إلى ما وصلت إليه بالقناعة، بل بالتمرد، بالطمع وحرقة النفس لتغيير نفسه نحو الأفضل، هذا ما يطور المرء،
    القناعة مجرد مبرر للكسالى.

    ردحذف
    الردود
    1. كما أقول، أحياناً أشعر أنه محق، وأحياناً أشعر أنه غبي فعلاً.. لا أعلم.
      لكن في موضوع الثراء هذا، أعود وأقول أن سلسلة من العوامل والقرارت هي التي تحدد الثري من الفقير. لا أعتقد أن رحلة الثري ابن العائلة الثرية المدلل لأول مليون، مثل رحلة الثري ابن القرية الفقير لأول مليون.
      ولكن نعم، قد يكون أول طرف لخيط الثراء يبدأ بطمع وغير قناعة، أو هوس عمل وجمع مال، شيء كهذا.
      مشكورة على مرورك أختي أسماء. شكراً على الدعم.
      تحياتي.

      حذف
  3. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف
  4. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف
  5. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف
  6. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف
  7. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف
  8. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف
  9. اعرف ان النهايه جاءت سريعه وغير مقنعه تماماً .. كنت مُستعجله نوعاً ما في كتابتها ..
    هذه المره الاولى لي .. في الكتابه بهذا النوع ..
    ايهما مناسب اكثر لي؟
    الرعب ام الرومانسيه ؟ ..

    اسماااء اقرأيها اذا استطعتي .. لأنني في انتظار رأييك ..

    ردحذف
    الردود
    1. طيب يا روز.. سأقول رأيي الصادق. القصة في الأسلوب جميلة. نجحتِ في شرح دواخل البطلة بشكل هادئ وثابت، وهذه نجمة للقصة.
      الفكرة ليست الأجدد ولكنها بالطبع غير شائعة. قصة حب بين اثنين من عالمين مختلفين هي تميمة قوية لو لُعب على أوتارها بشكل صحيح. بالنسبة لي، المشكلة كانت في افتتاحية هذا الحب. الفتاة "أ" تقابل الفتى "ب" الذي يخبرها أنه وحيد، فتحبه حباً عميقاً، هكذا. في العادة في هكذا قصص، يكون مبرر الحب نقطة قوة، كأن ينقذها الشبح مثلاً من شر ما، مما يجعل القراء يتعاطفون معه، مما يجعلهم يتأثرون برحيله المحتم، وهذا يعطي القصة جمالها.
      لكن أعود وأقول، قياساً على أنكِ لم تكتبي الكثير من القصص، فهي قصة جيدة، وأرى التطور الحاصل بين القصتين وهو تطور جميل بصراحة. استمرى فهذه ثمار الاستمرار.
      تحياتي

      حذف
    2. شكراً لرأيك الصريح .. بصراحه انا ايضاً عندما كتبت القصه لم تعجبني .. شعرت بأنها تافهه نوعاً ما ومُفرغه من الاحداث .. والنهايه لم تقنعني اطلاقاً ..
      انا ايضاً اظن ان افضل ما اجدته في قصتي هو وصف مشاعر البطله .. اسلوبي في الكتابه جيد وعلى مستوى عالي دون ان اتدرب على ذلك اساساً .. وليس كافكار قصصي ..
      افكاري تحتاج للتطور .. وبصراحه انا لدي الكثير من الافكار ولكن ارى ان صياغتها صعبه .. واتكاسل من كتابة الكثير من الافكار التي تأتيني ..
      قصصي التي تحوي احداثاً كثيره .. لا تتعدى القصتين فقط .. من اصل 7 قصص تقريباً ..
      احداهن نشرتها في احدى المدونات .. ولاقت الكثير من استحسان القراء في مدونتها .. هي مُدونة كاتبه خاصه بها ولكنها سمحت لي بنشر قصتي لانها صديقتي وهي لطيفه جداً وكاتبه مشهوره في كابوس سابقاً ..
      والاخرى لم انشرها .. لانني اخاف عليها لأنني اعتقد انها اجمل قصه كتبتها الى الان ..

      حذف
    3. أظن أن النهاية كانت حتمية بالرغم من كل شيء.
      المطلوب منك الآن هو تنمية هذه الموهبةإذا أردتِ. أعتقد أن قلمك قادر بقليل من الجهد على قطع مسافات جيدة. بالنسبة لي كان العكس في البداية، فكانت الأفكار حاضرة ولكن الأسلوب سيئ.
      أتفهم رغبة إخفاء القصص الجيدة، لكن لا تضغطي على نفسك كثيراً، غالباً في المستقبل ستكتبين شيء أفضل وستتحول القصة الجيدة التي كنتِ تحافظين عليها إلى قصة متوسطة، هذا تخميني لأن هذا ما حدث معي والله أعلم.
      المهم، إذا كنتِ تأخذين الكتابة بجدية، وتريدين فعلاً بناء شيء منها، فنصيحتي هي أن حافظي على قوة قلمك، اعلمي مواطن الضعف وحاربيها، اكتبي كثيراً، واقرأي أكثر، وحينها سيأتي كل شيء لكِ. بالتوفيق إن شاء الله.

      حذف
  10. هل يمكنك حذف القصه ..
    لأن يبدو ان اسماء لن تأتي ..

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكاية قرار

ثرثرة تحت الأرض

لا تبتسم أرجوك