رماديات
يقول صديقي وهو ينفث دخان سيجارته:
"لا أعتقد أني أحب التفاؤل كثيراً، لكنني في ذات الوقت أكره التشاؤم"
كنا نمشي قبالة فرع من فروع نهر النيل، فأراه يرمي بفارغ علبة السجائر إلي المياه، ليزيد القمامة قمامة، ثم يقول:
"في الحياة، لا أرى أبيض ولا أرى أسود، أرى فقط الرمادي، والأمر لا يقتصر على أشياء معينة، بل يمتد لكل شيء أراه وأفكر به"
أسأله غير مبال:
"مثل ماذا؟"
فيشير بيده لفتاة ترتدي من الملابس الضيقة ما يرسم قوامها المثير:
"إذا رأيتَ هذه الفتاة وفكرت فقط في أنها مثيرة، فأنا أفكر في أنها مثيرة ولكن أفكر أيضاً أنها من الداخل ليست مثل الخارج"
أسأله بتعجب:
"وكيف تعرف؟"
فيقول ضاحكاً:
"ثق في، أنا أعرف"
أطالعه ولا أُطلعه على ما ببالي:
"ماذا بعد أن تعرف؟ ما الذي يتغير فيك؟ لا زلت تراها مثيرة"
يصمت لوهلة قبل أن يرد:
"أصير لا أرى فيها ما يجذب، وأنتم ترون القوام وتصفرون إعجاباً، وأنا لا أرى شيئاً يستحق الإعجاب بها، ولا أنظر لها بعين الإعجاب إنما بعين التحفظ"
"سأعتبر أني أصدقك، ماذا ترى في باقي الأشياء أيضاً؟"
"كنت جائعاً وعائداً من العمل فاتصلت بزوجتي لأعرف أنها طبخت لي أفضل وجبة أحبها، لم أتحمس كثيراً لأني أعرف أنها وجبة مشبعة بالدهون والنشويات، وأنها ستضر جسدي أكثر مما تفيده رغم حلاوة مذاقها الاستثنائي"
نظرت لكرشه وربتت عليه ممازحاً:
"لكنك تأكل ما تريده، وذاك يشهد"
يرد بغموض:
"صحيح، وكما ترى، أنا أيضاً رمادي، فإذا كانت إيجابيتي أني أعرف الحقيقة، وأعرف أن لا شيء جميل حقاً في هذا العالم، فسلبيتي أنني في بعض الأحيان لا أتحكم في نفسي، ولا أطبق معرفتي على ما أحب حقاً"
أقول دون تردد:
"ماذا تريد؟"
"أن تصدقني"
"لا أصدق المتناقضين"
يجاوب فوراً:
"وهذا جزء من النفس البشرية، التناقض والتضاد هو مفتاح الحياة، الظلام والنور، الحب والكره، الخوف والشوق، الماء والنار، النساء والرجال"
صعد الدم إلى رأسي فقلت:
"كف عن الفلسفة يا هذا!"
فيضحك ويظنني أمزح، فيزيد:
"عزيزي، ما أحلى العالم! ما أحلى الرماديات!"
تعليقات
إرسال تعليق