الزوج الأزرق











 يجلس على الشاطئ ساهماً، يطالع أفق غروب برتقالي، سائراً داخل عقله في رحلة الذكريات التي كانت محطتها النهائية اللحظة التي يعيشها ويتنفسها. يسمعها وهي تجلس جانبه على الرمال. لا يأتي برد فعل ويتركها تمسك بيده وتريح رأسها على كتفه. يراجع ذكرياته مجدداً. 

في قرارة نفسه، كان يعرف أنها غير طبيعية، لأي مدى؟ يسأل نفسه، لمدى بعيد للغاية، يجاوبها. 

 في البداية، وقبل دقائق مرت، كان لا يذكر كيف قابلها لأول مرة، لكن كان يقول لنفسه أنه بالتأكيد في الشتاء، لأنه يذكر الجو البارد. كان ثملاً لكنه ما انفك يفكر لنفسه أن ذلك غريب، إذ كان لا يذكر أي شيء عن ذلك اليوم سوى محطات توقف صغيرة، مثلاً، قد كان لا يعلم ما الذي جذبه إليها، لكنه كان يعلم يقيناً أنه ليس لون عينيها، لأنه كرهه أيما كره في ذلك اليوم، قد كان يذكّره بشكل فج، بلون عيني شخص ما يغيظه، ذات الشخص الذي ثمل كي ينساه. 

المحطة التالية التي يذكرها هي حديثها معه، ثملة كما كانت هي الأخرى، وعلى ضوء القمر، سألته بالإنجليزية:

- تحدق فيّ كثيراً، هل أنا جميلة؟

مجدداً، لا يذكر رده ولا يذكر شيئاً عن ذلك الاتصال الأول، وتلك محطة أخرى مضت. عند لحظة ما، يذكر أنها ضحكت، فأُعجب برقتها حد الحب.

 أما آخر محطة فيذكرها تفصيلاً دون قصور في الذكرى، كانا يقفان على سطح الباخرة تحت نجوم وسماء زرقاء داكنة. كان غاضباً من الشخص الذي يكره، وكانت هي ثملة في دنيا أخرى. ترتدي بنطالاً واسعاً وقميصاً مزركشاً متسع الأكمام طويلها، وهو في بذلته الأنيقة يحاول ألا يلقى نفسه إلى المياه المظلمة. يقول لها وهو يتفحص ملامحها الناعمة:

- نصل بعد يومين إلى أستراليا، لنا في البحر أسابيع الآن. 

ترد وهي لا تناظره فتناقضه:

- أريد أن أصل الليلة إلى مكان لم يصله غيري. 

لم يفهمها ولكنه أعزى ذلك إلى أنها من نوعية الأشخاص التي يجعلها النبيذ غامضة وغير مفهومة. ثوان صمت ثقيلة يقطعها صوت صراخ يأتي من بعيد من أسفل الباخرة، فتقول هي بنبرة ضعف ومسكنة:

- يخبرني أني سأفعل قريباً. 

يثير الأمر انتباهه، فيطالعها بعد أن كان ينظر خلفه ناحية صوت الصراخ، ويسأل:

- من؟

تأن ثم تدريجياً تدخل في نوبة بكاء غريبة جعلته لا يجد بداً من أن يحتضنها محاولاً تهدأتها. تقول من بين الدموع:

- هو.. الصوت في رأسي. 

يتعاطف معها أكثر ولا يدري إن كان ذاك قد جعل كتفه أكثر دفئا من أجلها أم لا، وتكمل هي:

- يقول إننا قد نموت جميعاً الآن. 

لا يمنع نفسه من الابتسام:

- أنتِ آمنة هنا والآن. 

وتزامناً مع انتهاء كلماته سمع صوتاً هو الجحيم في ظنه. انفجار قوي يصم الآذان ويرعب القلوب، تلاه صراخ وضجيج وارتجافة منها شعر بها وهو ينظر حوله كالمجنون، محاولاً استشفاف ما يجري من العلامات حوله، وهي التي لم تأتِ بحركة غير تلك الارتجافة. همست له خائفة:

- الأمر يحدث الآن. هل تريد النجاة؟

بُهت منها وارتعد، فلم يجد قوة للرد، وإذ هي تجاوب عنه:

- أنا أحبك، سأنقذك. 

وتطوقه في عناق قاسٍ وقوي. يدفعها عنه فلا يقوَ، متسع العينين يحاول فكها عنه بقوة فيجدها كالصخر جامدة يابسة. في تلك اللحظة يكاد يفقد عقله، هو يعلم أنه وقبل عام ونيف تقريباً، قد فاز بفضية رفع الأثقال للوزن الثقيل في أوليمبياد عام 1936م الصيفي، وبالتبعية يعلم أنه ليس ضعيفاً، لكن لا يعلم من أين أتتها تلك القوة الصارخة، ولا يعلم ما يجري في الباخرة، يعلم كذلك أنه ليس حلماً، لأنه ظل ما يقرب للدقيقة يحاول الفكاك منها. 

- ما هذا! من أنتِ؟! 

لا ترد عليه. 

- ابتعدي يا امرأة!

لا ترد. لثوان، ينسى نفسه ويسبها بالعربية أن تبتعد، وهذه المرة ترد بعربية نظيفة لا تشوبها شائبة:

- الحب في القلوب باق، وأنا قلبي في طريق، وقلبه في عقلي، وقلبها غريب. 

تزداد دهشته دهشة، إذ ظنها إنجليزية الأصل من لغتها فلكنتها وأزرق عينيها. زاره من الرعب ما زاره في تلك اللحظة، أما رعبه الأكبر فكان لحظة أدرك أن الباخرة تغرق، وأنه في سجن بين ذراعي امرأة قابلها منذ دقائق فقط. يثور كيانه ولكنها بدا كعصفور يحاول كسر كوب زجاج حُبس داخله. تهمس له وسط الصرخات ووسط الهبوط الملحوظ للباخرة:

- سننجو سوياً على تلك الجزيرة، وسننجب ذلك الطفل الذي أردته دوماً. 

مجدداً يتلقى لطمة نفسية منها، هو لا يذكر أنه أخبرها بأعمق أمانيه، هو لن يخبر امرأة قابلها لأول مرة في حياته، بأعقد مشاكله. يصرخ بأعلى صوته وما من مجيب سوى صراخ على الجهة الأخرى. يمر حوله من يمر، ولا أحد يهتم. يصطدم بهما أحدهم فيقع ولا تهتز هي قيد أنملة، هي الصخر إذا تنفس، هي إياه إذا همس:

- لا تخف، ثق فى، الصوت لا يكذب أبداً. 

يقول وقد ذهب عنه غطاء اللغة والاحترام، فلم يتبق إلا الخوف العاري:

- من أنتِ؟ وكيفِ تفهمين العربية؟ وما ذلك الصوت؟

- أخبرتك.. صوت داخلي يخبرني. 

لا يذكر كم قضيا على حالهما ذاك، واقفان دون حراك، وقد بدا له أنه الدهر كله أو يقرب. بعد ذلك لا يذكر شيئاً سوى أن الدنيا أظلمت. 




.... 




يتذكر أنه كان ينام على ورق شجر طري حينما استيقظ. ألم رهيب وبروز في مؤخرة رأسه. أمامه نار دافئة محببة تحارب برده، وظلام لا ينتهي في الأفق، خلف أمواج الشاطئ الهادئة بصوتها المخيف أحياناً، والمطمئن أحيان أخرى. حوله وجوه سبعة يضيئون بأصفر النيران وأبيض القمر، سبعة أزواج من العيون لا يعرف بينهم سوى زوجين فقط، وكلاهما أزرق اللون، وكلاهما يكره أو يخاف، يكره الزوج الأول على اليمين، وهو لزوجته، التي بينه وبينها مشاكل الأرض والسماء، والأصل يعود لأنها لا تريد الإنجاب وهو يشتاقه كما لم يشتق لأي شيء قط، وذاك هو الجذع تتفرع منه شجرة من المشاكل. أما الزوج الأول على اليسار فيخافه، وهو لامرأة جعلته يشعر بعجز لم يشعر به قط، تناظره بمسكنة الحيوانات الأليفة، وحب المخلصات الخائفات على المعشوق، وكانت هي أول الناطقين، فبارتياح قالت:

- استيقظ أخيراً! حمداً لله! 

حينها ينتبه له الجميع، ولا يهمه منهم سوى زوجته، أميرة:

- حمداً لله على سلامتك. 

وتمسك يده داعمة، ثم تقول قبل أن يسأل سائل:

- ذاك عبد الحفيظ سالم أفندي، زوجي كما أخبرتكم يا جماعة. 

يهنئونه وكأنه استيقظ من الموت، بل إن بعضهم يعتذر عن شيء هو لا يفهمه، فيبتسم مجاملاً، وبينهم يدور الحوار عما جرى في الباخرة. 

في النهاية، يلخصون جميعاً إلى أنه عطب أصاب المحركات، وأنهم الآن في ذات المستنقع، وعليهم العمل سوياً فالخروج منه. كان وقت سكوتهم، هو الوقت الذي انتحت فيه أميرة، زوجته، به سائلة:

- كيف أتيت إلى هنا؟

يسألها متعجباً:

- ماذا تعنين؟

- لا أحب الغباء! أنت تعرف ما حدث، كيف أتيت إلى الجزيرة؟

- لا أعلم... كيف وصلتِ أنتِ؟

- معهم في قارب نجاة، وصلنا فوجدناك هنا بالفعل. 

- لا بد إذن أننا وصلنا إلى هنا بذات الطريقة. 

تقول بحذر:

- أنتما؟

يشير للفتاة مرتبكاً:

- هذه. 

تصمت لثوان قبل أن ترد:

- وأين قاربكما؟

يثير استجوابها حفظيته، فيقول ثائراً:

- لا أعلم! ثم إنكِ في الأصل هربتِ مباشرة دوني! 

ترد بثورة مماثلة:

- أكان يجب أن أغرق مع السفينة كي أظل وفية لزوجي! 

يكاد يرد لكنه يلحظ خلفها ما جعله متسمراً، في البدء ظنهما نوع من الحشرات الطائرة المضيئة، لكنه حين بدأ يلحظ ثباتهما الدائم، وتحركهما سوياً، أدرك أنهما عينان زرقاوان يعرفهما حق المعرفة، تراقبان من بعيد، في تلك اللحظة يترك زوجته عائداً إلى الجمع المتحلق حول النار. 


.... 


في ثاني ليلة لهم على تلك الجزيرة، وحين كانوا يخلدون للنوم جميعاً في خيام يدوية الصنع من ورق الأشجار، استيقظ عبد الحفيظ ليلاً بقلب يضرب بقوة، ظن أنه كابوس في بادئ الأمر، وما هي إلا لحظات حين لاحظ زوج الأعين الأزرق إياه يراقبه من ركن بعيد، يكاد يصرخ هلعاً لكنه وفي اللحظة الأخيرة يكتمها. يحبس أنفاسه وهو يراها تقترب منه فيما يقرب الزحف بين الأجساد النائمة، وحين يصبحان أقرب ما يكون لبعضهما البعض، فيستشعر أنفاسها على شفتيه وخديه، تقول:

- كُن لي البيت. 

- ماذا؟

- دعني أنام بجانبك. 

يبتلع ريقه:

- بالطبع. 

وإذ بها تفترش الأرض جانبه، فتتمدد واضعة رأسها على صدره، ومن بعيد، كان زوج أزرق آخر من الأعين يراقب المشهد. 


.... 



كان يصنع بعض الحبال من لحاء الشجر حينما باغته الصوت العربي:

- مر علينا أيام هنا ولا زالت لا تريد الحديث معي. 

يتجاهلها ويكمل عمله، فتزيد:

- الصوت لا يزال يحادثني. 

يجد في قلبه الشجاعة ليرد:

- اتركيني وشأني. 

- أتعلم ما يخبرني؟ يخبرني أنك كنت تحبها حقاً، زوجتك، وهي كذلك كانت تحبك. 

- اتركيني يا أخليس، أرجوكِ.

- سنوات طوال، منذ الطفولة يقول، كبرتما سوياً وعشقتما بعضكما البعض سوياً. يقول إن الحال تبدل بينكما، كرهتك فجأة دونما سبب، ولكرهها لك كرهتها أنت بدورك. 

- أخليس... 

- تتمنى كل يوم أن تموت ولا تراها مجدداً. 

لا يرد ويسمعها تكمل:

- وأنا أتمنى مثلك، ماذا ترى؟

ينظر لها مقطب الجبين:

- ماذا تعنين؟

-أعني أنك لم تشكرني حتى على إنقاذ حياتك! 

- شكراً يا أخليس. 

- بطريقة أخرى تشكرني، حياة مقابل حياة، حتى تعتدل كفة الميزان. 

مجدداً، يتصنع أنه لا يفهمها:

- ماذا تعنين؟

في تلك اللحظة تظهر أميرة منادية عليه، يلتفت ناحية الصوت ويرد أنه هنا، وحين يعود لأخليس لا يجدها موجودة في المكان بأكمله، فيبتلع ريقه بصمت، ثم يكمل عمله. 


... 


يقول له جون، أحد الناجين:

- أنظر كيف تتمايل! إنها رائعة، ببساطة، رائعة! 

ويقول مستر إيليتش، الناج الآخر:

- تباً! ملكة جمال هي! 

وثالث يقول:

- رقيقة للغاية، جميلة للغاية، ونحن لنا هنا أيام طوال، كم يا ترى سنصمد؟

وحين يرحلون عنه تأتيه هي متبسمة فرحة:

- أترى؟ كلهم يريدونني، علمت أن هذا سيحدث. 

ثم بجدية تسأله:

- متى ستفعلها إذن؟

يرد سؤالها بسؤال:

- أفعل ماذا؟

- متى ستشكرني؟

بخوف يطالعها ولا يرد. ترحل من أمامه قائلة:

- فكر جيداً، هي روح زوجتك في النهاية. 


.... 


لا يغيب عن باله يوم حادث مستر إيليتش عنها. يقول الرجل الخمسيني:

- هي مخيفة يا رجل، مخيفة! 

ينتبه عبد الحفيظ أكثر، فيسأل:

- هل... رأيت منها ما هو مريب؟

يرد إيليتش:

- لا تنفك تتحدث عن ذلك الصوت الذي يخبرها أشياء وأشياء. 

تتسع عينا عبد الحفيظ:

- وهل هو محق؟

- في يوم سابق، أخبرتني أن الصوت أخبرها أنكم ستعودون بصيد رائع من البحر، سمكة كبيرة ستكفينا لأربعة أيام على الأقل. 

يذكر عبد الحفيظ ذلك اليوم ويهمهم مصدقاً، ويكمل مستر إيليتش:

- كيف لها أن تعرف؟ لما تكن معكم، كنتم في عرض البحر!


في الأيام التي تلي تلك الليلة، راح عبد الحفيظ يكتشف حقائق كامنة. هم جميعاً بلا استثناء يخافون من أخليس، ولا يعتقدون أنها عادية، ذاك أنهم رأوا منها ما هو ليس طبيعياً، وكله يتمحور حول ذلك الشيء، ذلك الصوت. 

وانتهت الأمور إلى أنهم راحوا فيما بينهم يتواصلون خفية، ينقلون أخباراً ويجمعون خيوطاً ويتبادلون أحاديث عنها. 


.... 



ذات ليلة أتته وهو نائم، أيقظته ورأي الدمع يسيل على خديها، لا يدري لماذا لكنه شعر بشفقة نحوها، وشعر بقلبه يتأوه لها. يسألها جزعاً وهو يستقيم من نومته:

- ماذا هنالك؟

لا ترد ولكنها ترمي بنفسها في أحضانه بين نحيب ونشيج، فراح يربت عليها بحنو، حتى قالت أخيراً:

- أخبرني أنكم تتكلمون عني خلف ظهري. 

ثم تنظر في عينيه ببراءة:

- هل أنا سيئة كي تفعلوا هذا معي؟

انعقد لسانه وقلبه، فرقّ لها وحزن عليها، لكنه لم ينس أنها ذات الوحش المخيف الذي قيده على السفينة. تقول له فجأة غاضبة:

- أنا الوحش الذي أنقذك! 

دهشاً ينتفض، ويسأل نفسه: هل سمعت أفكاري؟

- نعم! نعم أنا أنقذتكم جميعاً! وأنتم هنا الآن تتآمرون عليّ من خلفي! 

- أخليس... 

- وزوجتك الطاهرة؟ هي تخونك الآن مع جون الوغد. ربما حبها كان صادقاً في البداية، في الطفولة والمراهقة وحتى في الشباب، لكن الآن حبها خائن! 

لا يأتي على أي رد فعل سوى سؤالها ببرود:

- أين؟

- على الشاطئ الآخر من الجزيرة. 

- هل رأيتيهما بعينيك؟

- لا ولكن الصوت أخبرني، الصوت لا يكذب يا عبد الحفيظ. 

يقف شاعراً بغضب يجتاحه. تقول:

- حبك لي أيضاً خائن. 

- لم أحبكِ يا أخليس. 

- بلى فعلت، وأنت تحبني الآن لكنك خائن. 

ثم تفتح ذراعيها عن آخرهما:

- سأصفح عنك إذا عانقتني الآن. 

ببطء، يتقدم نحوها، ويعانقها في حرارة. 


....



في وقت ما، كانوا قد يأسوا جميعاً من وصول المساعدة، وقد داوموا على الحياة معاً حتى اعتادوها. قد لوحظ أن بطن زوجته صارت منتفخة بالولد الذي أراده منها دوماً، عدا أنه يعرف أن ذاك ليس ولده، وتلك ليست زوجته، أما هي فلم تهتم كثيراً. 

حينما أتى ذلك الصباح، كان قد عزم وأخذ قراراً نهائياً بخصوصها، وقد رتّب لكل شيء، فما هي إلا ميتة سريعة لها، تريحه وتُنهي عذابه، وتسترد شرفه المسلوب، وقد أيدته أخليس في ذاك بفرح. قالت وهي تحتضنه من الخلف:

- أخيراً ستشكرني بالطريقة المناسبة! 


في ذلك الصباح لم تنقذ الملائكة شخصاً واحداً فقط من الموت، بل أنقذتهم جميعاً بتلك الباخرة التي مرت على مقربة من الجزيرة، وذلك الزورق الذي هبط منه رجل يقول إن الإله قد إنقذهم. علموا منه أن أحد الناجين من طاقم الباخرة التي غرقت، قد دلهم على الموقع التقريبي للحادث، وأنهم ظلوا يبحثون شهوراً يتفقدون الجُزر، حتى وجدوا ضالتهم بعد عناء. اجتمعوا سبعتهم وراحوا عداه فرحين بابتسامات تكاد تشق الوجوه فرحاً يركبون الزورق، أما هو فراح ينادي على أخليس كي تأتي وتركب معهم، لكن لا أثر لها. قد لاحظ عينيها وراء الأشجار أكثر من مرة، ففهم أنها تأبى الخروج. يقول الشاب المنقذ:

- هيا يا سيد، الباخرة ستغادر قريباً. 

يرد خائفاً:

- ثمة فتاة أخرى. 

- لا يوجد غيرنا نحن السبعة. 

يلتفت ناظراً للقائل بدهشة فيجدها زوجته، يقول جون الذي جانبها:

- هل ستأتي أم لا؟

يصيح قائلاً:

- هل جننتم! هي لا زالت هنا، لن نرحل ونتركها! 

يرد أحدهم:

- لا يوجد أحد سوانا هنا، نحن سبعة فقط. 

- لا! أنتم خائفون منها! كاذبون! خائفون من الصوت الذي في رأسها! لهذا تخططون لتركها على الجزيرة! أنتم الوحوش الحقيقيون ليس هي! 

يقول مستر إيليتش:

- هيا يا عبد الحفيظ، تعال، سنعود من أجلها لاحقاً. 

- أخليس لا زالت هنا! لن أتركها! 

- أخليس لم توجد قط. 

يسقط عبد الحفيظ أرضاً:

- لا.. أخليس لا زالت على الجزيرة. 

يقول الشاب المنقذ:

- ما الذي يحدث هنا يا جماعة؟

ترد زوجة عبد الحفيظ:

- قبل غرق الباخرة، تلقى ضربة على رأسه وفقد وعيه، حين أتينا لهذه الجزيرة وجدناه جسده على الشاطئ، وقد قدرنا أن الأمواج جرفته إلى هنا. وحينما استيقظ من إغماءته، راح يتوهم تلك الفتاة الغامضة الغريبة، التي تعرف بالأشياء قبل حدوثها عن طريق صوت في رأسها. 

يزيد جون:

- اضطررنا لمجاراته في جنونه ذاك، لكن الآن لا سبيل ذلك، هيا يا عبد الحفيظ، تعال.

يقولها جون وهو يقترب منه ماداً يده له. تعود الذكربات لتتدفق بجنون داخل رأس عبد الحفيظ. كانت أخليس تحتضنه على الباخرة ولا يستطيع الفرار منها، وهو حينئذ يسمع صوت صرخة حبيبته الوحيدة والأبدية، صوت أميرة، حينها يجد قوة فيه فينتفض من مكانه ويدفع أخليس، فيراها تسقط أرضاً وعلى وجهها نظرة حزن. يهرول بكل ما أوتي ناحية أميرة، لغرفتهما. أحدهم يصيح: الباخرة تغرق! أحدهم يصدمه ويوقعه أرضاً. أحدهم يقع مغشياً عليه أمامه، يتجاهله ويتجاهل كل شيء ويشق طريقه إلى أميرته التي تنتظره في قلعتها. حين يصل، يجد الباب عالقاً، ينادي على أميرة:

- أميرة، هل أنتِ بالداخل؟

ترد بعد ثوان أن نعم. لم يهتم لماذا تأخرت كل هذا الوقت في الرد، بل كل ما اهتم له أن ينقذها، وكل ما فكر فيه هو أن يحطم ذلك الباب من أجلها. يسمعها الداخل منتحبة:

- المقبض عالق. 

يثير الأمر فيه غضباً كبيراً، داخله يرفض أن تموت أمامه! يرفض العجز! راح يحاول أن يدير مقبض الباب الدائري بكل ما أوتي من قوة دون استجابة. يسمع صوت بكائها من الداخل، صدمة أخرى. يصرخ:

- لن تموتي أمامي يا أميرة! لن أترككِ. 

تنفر أوردته كلها، تنتفش عضلاته عن آخرها. يحفز نفسه لأجلها، هو قوي، لقد فاز بالفضية في الأوليمبياد، هو ليس بضعيف! يدفع ويدفع، وحين تزحزح المقبض شيئاً فشيئاً، لم يتزحزح لأن عبد الحفيظ قوي، بل لأنه أراد فعلاً أن ينقذ زوجته من الموت، فليس للأمر علاقك بقوة الجسد بقدر ما له علاقة بقوة الروح. تدور عجلة المقبض وكأنما لم تكن عالقة منذ ثوان. يهوي عبد الحفيظ أرضاً وهو يلهث. نقاط الدم تهبط من يده المتقرحة من شدة الضغط. يبتسم وهو يدفع الباب متوقعاً أن تهرول أميرة نحوه فتعانقه. وفي ذلك الجزء من الثانية تخيل أن حياتهما ستعود مسالمة فرحة بعد ذلك الحادث، وسيسترجعان الحب الضائع، وسيبنيان كل الآمال مجدداً، فكما أخبره والده ذات مرة، من نهايات الصعاب، تولد براعم جديدة. كل ذلك مر عليه بسرعة هائلة داخل عقله، وكأنه شريط حياة جميلة قادمة، ليس حياة بائسة ماضية. حينما انفتح الباب عن آخره، وجد أميرة ترتجف في أحضان جون، الأسترالي من أصل بريطاني الذي كان معهما على الباخرة. شعر عبد الحفيظ حينها أنه ورغم ما فعله لأميرة، فإنها بالفعل قد وجدت الأمان في أحضان رجل آخر، وشعر أنه مهما حاول أن يستعيدها فلن يستطيع. من صدمته لم يقو إلا أن يقول:

- هيا، إلى زوارق النجاة. 

يتحركان بسرعة من أمامه، ويقوم هو بيدين مرتجفتين يتبعهما، مفكراً لذاته أن السبب في الباب العالق أنهما أغلقاه على نفسيهما بإحكام من الداخل، حتى لا ينكشف أمرهما، ثم حين وقع الحادث، علق الباب. يفكر أنه لو تركهما يموتان سوياً لكان أفضل لهما وله. يفكر أنه ساعدهما علي أذيته. يفكر أنه سينهي جميع علاقاته معها إذا نجيا، وإذا لم يفعلا، سيحرص على أن يتلذذ برؤيتها تموت أمامه. 

مع وصولهم إلى القارب، يكتشفون أنه القارب الأخير، وأنه لم يعد هناك مكان له، لأنهما سبقاه. غاضباً يقول وهو يدفع بنفسه دفعاً إلى القارب:

- كان من المفترض أن أسبق الجميع! 

يدفعه الطاقم الذي على القارب:

- سيدي، لقد تخطينا بالفعل الحد المسموح، سيغرق القارب حتماً إذا أتيت معنا. 

يتلفت نحو جون ليمسك به من تلابيبه بيده المرتجفة:

- أنت السبب! هذه زوجتي ويجب أن تكون معي. 

يدفعه جون عن نفسه، ويتدخل السيد إيليتش:

- اهدأ يا رجل. الجزيرة قريبة وفي الأفق، يمكننا أن نراها، ويمكن الوصول لها سباحة. 

يدفعه عبد الحفيظ:

- ولماذا لا تسبح لها أنت! 

ثم يلتفت لأميرة ويمسكها من ساعدها:

- ستأتين معي. 

تقاوم أميرة لكنه يشدها بعنف. يحاولون فصلهما لكنه كان كالثور رغم يديه المرتجفتين، يدفع باثنين منهم ويوقف الثالث. لا يعلم كيف أتته الضربة من الخلف، لكنه يذكر أنه نظر خلفه ليجد جون ممسكاً بالمجداف في يده، وفي عينيه نظرة الذكر المدافع عن أنثاه، هذا قبل أن تدور به الدنيا، فيتعثر فيجد نفسه يهوي إلى المياه. 

بين اليقظة والنوم، كان يرى أخليس تدفع إليه خشبه طافية. ينام قليلاً ثم يستيقظ ليراها تدفع الخشبة معه وتجدف ناحية الجزيرة القريبة. حين يصل إلى الشاطئ، يكون بالفعل قد نسي معظم ما حدث، بداية من تفاصيل حواره الأول مع أخليس، انتهاءً بصدمته لما رآه في غرفته، وسقوطه في المياه، وأما النسيان فكان مؤقتاً، وأما عبد الحفيظ وحين يرى الوجه القادم نحوه ماداً يده قائلاً:

- هيا يا عبد الحفيظ، تعال معنا. 

يعميه غضب عارم، ولا يشعر وهو ينقض فوق جون، ولا بالخشبة الحادة التي خبأها بين طيات ملابسه المهترئة، التي كانت في الأصل من نصيب أميرة، إلا وهي تنغرز في صدر جون. كانت أميرة أول من صرخ، وتبعها الباقون في رد الفعل، فهبطوا جميعاً من المركب، تسبقهم أميرة إلى جسد جون المضرج بالدماء، ويقف حينها عبد الحفيظ متحدياً، مرسلاً رسالة لمن يقترب منه، أن مصيره الهلاك. يسارعون هم ويحملون جثة جون المثقوبة، ويعودون به إلى القارب، آملين أن يصلوا إلى الباخرة فيعالجونه. 

يجلس على الشاطئ يراقبهم يرحلون، ولم ينس أن يلقي نظرة على عيني أميرة الحزينتين اللتان أسرتاه ذات يوم، الأزرق الجميل الذي تاه فيه مئات المرات. بين الحين والحين وهم في المياه، يصله صوت صراخ أميرة ونحيبها، ولم يكن ذاك يؤثر به إلا سلباً. حين تجلس أخليس جانبه، وحينما تمسك بيده، وتريح رأسها على كتفه، لا يشعر بشيء إلا حرارة جسدها. يسمعها تقول:

- ربما كان ذلك أفضل انتقام ممكن، فإذا قتلتها، تريحها، أما الآن هي تتعذب، وحين تلد ذلك الطفل، وكلما تراه، ستتذكر أن جون عشيقها، قد قُتل على يدك. 

- وما ذنبه الطفل؟

- ذنبه أنه ابن حرام! أن أمه باغية! 

يصمت وهو يقكر في أن أخليس محقة. يسألها بعد برهة:

- ماذا الآن؟ لا أعتقد أنهم سيعودون. 

- أنا وأنت هنا لبعضنا البعض. 

يهز رأسه موافقاً على ما تقوله. 


.... 


- عادت مجدداً؟

تهز رأسها إيجاباً دون كلام، ويسأل هو مجدداً:

- هل هي جميلة؟

- لا أعرف. 

يغمغم بينما تضع هي رأسها بين ركبتيها وقد كانت تجلس القرفصاء. يسألها:

- ماذا تقول؟

- أنك طيب، طيب للغاية، وأنها تحبك. 

-  تحبني؟ 

ترد بضيق:

- نعم

- كم عمرها؟

- في سننا، ثلاثة عشر. 

- وما اسمها؟

- تسمي نفسها أخليس. 

- هل تضايقكِ؟

- لا.. هي لطيفة، لكن مخيفة. 

يقول بحماس:

- صفيها لي. 

تطالعه باستغراب:

- أنا لم أرها. 

- لكنك في بالكِ لديك صورة عنها. 

تتوه ثوان، ثم تعود لتقول:

- قد سمعتك، تخبرك أن لون عيناها مثلي. 

- أزرق صاف؟

- أزرق. 

- أميرة هذا رائع! أتمنى لو صار لي صوت يحادثني داخل رأسي! 

تطالعه بعطف:

- لن تراني مجنونة؟

- بالطبع لا. 

تمسك بيده:

- عبد الحفيظ، لنتزوج حين نكبر. 

- بالطبع! 



.... 


- لا زلت لا أصدق أنك الآن في العشرين يا عبد الحفيظ. 

- وأنا لا أصدق أنكِ لي يا أميرتي. 

تبتسم له بلطف، قبل أن تعود لتطالع أفقاً وهمياً. تسأل نفسها، أن كيف أغرقت عبد الحفيظ بحبها، هي ذاتها لم تحبه يوماً، إنما كان الرجل الذي وقف دائماً جانبها، الصديق الحقيقي الذي لم تحظ بمثله قط. لم تشعر أنه فارس الأحلام، فرغم لطفه، هي لا تراه غير ذلك الرجل اللطيف فقط لا غير. تسأل نفسها أن كيف تصارحه! 

يشعر بها، فيسأل:

- هل عاد ذلك الصوت؟

تهمهم سائلة، فيعيد:

- أخليس، هل عاد صوتها في رأسك؟

- لي فوق السنة لا أسمعها. أحياناً يُهيء لي أن كل ذاك كان حلماً. 

- المهم أنكِ بخير الآن. 

تعانقه وهي تتخلى عن فكرة أن تخبره بالحقيقة:

- كله بفضلك، أنت الوحيد الذي صدقني وآمن بمشكلتي. 

- وسأمشي العالم كله خلفكِ. 


..... 



- هل جننت يا عبد الحفيظ! تلك فتاة مجنونة! 

- أريد تلك المجنونة. 

تقول الأم داعمة للأب:

- يا بني، فكّر، البنت كانت تسمع أصواتاً في رأسها، البنت غير مستقرة نفسياً. 

- كلنا كذلك مع اختلاف الدرجات، اليوم وغداً والبارحة، أنا لا ولن ولم أر سواها. أميرة لي يا أماه. 

- اسمعني ها هنا، يوماً ما ستجعلك مجنوناً مثلها، ويومها ستقول أمي قالت.




... 


تقول له:

- أحذرك يا عبد الحفيظ، أنا مجنونة. 

- لا يهم. 

- أنا متقلبة المزاج، قد أحبك يوماً، وأكرهك في آخر. 

- عشنا مع بعضنا البعض فوق الخمسة عشر عاماً، أعرفكِ وتعرفيني، واليوم وقد تخطينا حاجز العشرين، فلا سبيل لنا إلا الزواج يا أميرة.

 

.... 



كان القارب البعيد في الأفق قد وصل لباخرة الإنقاذ حينما قال لها فجأة:

- أتعرفين يا أخليس؟

- ماذا؟



- أظن أنكِ كنتِ الفتاة التي أرادت أميرة أن تكونها، لكنها لم تقدر. 

- ربما. 

- أظن أنكِ الفتاة التي أردتُ لأميرة أن تكونها، لكنها لم تكنها. 

- أنا في السماء وهي في الأرض. 

يهمهم موافقاً، وتردف هي:

- عدا الزوج الأزرق.

يطالع السماء متبسماً:

- نعم، الزوج الأزرق. 

 النهاية

تعليقات

  1. انني كسولة جداً لدرجة انني اقول منذ ان نشرت قصتك هذه .. اليوم ساعلق ، ينتهي اليوم اقول غداً ساعلق .. وهكذا الى ان وصلت الى اليوم🥲🫤
    I so sorry ...

    ردحذف
    الردود
    1. لا بأس، هذا يحدث معي أيضاً أيضاً. شكراً على مرورك، تحياتي.

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أبو علامة - الجزء الثاني

انتهى الدرس

أكرهها