الرجل الذي لا يعرف

 


كان محمود الشناوي لا يعرف شيئاً. يوم ماتت ابنته الصغيرة ذات الأربعة بين يديه سألته امرأته باكية أن كيف حدث ذاك فأجاب أنه لا يعرف. قال لهما الأطباء أن سبب وفاتها سكتة دماغية حدثت فجأة دون سبب.


محمود الشناوي رجل مستقيم. يعرف خالقه وله طريق معه. إذا مشى وإذا نام وإذا اختلى بنفسه شعر بعين تراقبه. وهو يدرك أنها ليست عين خلق بل عين خالق. يصلي ويستغفر ثم يلتمس التقوى في أفعاله وأقواله، حتى مع ظالميه.

محمود الشناوي لا يعرف لماذا جاء للدنيا. كبر في دار أيتام وحينما سأل لماذا أنا هنا لا يخبروه فصار لا يعرف أن أمه قتلت أباه وتركته وهربت. وحينما وجدوه رضيعاً هزيلاً جانب جثة المغدور كان هادئاً. أرضعته أم سماح الجارة وهي تستغفر من شر إنس يترك الرضع للجوع، وكانت تسأل نفسها كيف جائع لا يبكي! بل كيف رضيع لا يبكى!

محمود الشناوي لم يبكِ قط في حياته ولا يعرف لماذا. لم يحب امرأته قط ولا يعرف لماذا رغم أنها كانت تعشقه في السر والعلن. أذنب في حقها مرات ولا يعرف لماذا. لمس نساء لسن له وليس لهن ولا يعرف لماذا. وتاب بعد الذنوب ولا يعرف لماذا. سلك بعد الهوى طريق الله كاملاً مكملاً مستقيماً دون اعوجاج ولا يعرف لماذا. 

محمود الشناوي غريب. مثل الحلم أو الوهم. خانة بعيدة. رقم ليس مع باقي الأرقام. يستيقظ يوماً ويقرر أنه سيسافر إلى الإسكندرية. لماذا؟ لا يعرف. ويوم رأي البحر هناك شعر أنه يريد أن يسبح فيه، فذهب للشاطئ فوجده ملء النساء العاريات، ولما كان تقياً انصرف عن الشاطئ. سأله أحد المارة عن الطريق للشاطئ فقال إنه لا يعرف.


يحب مساعدة المحتاجين وإن كان هو محتاجاً. وكثيراً ما أرسل أكياساً من الخضر والطعام لأم حنان التي تربي خمسة من الأبناء اليتامى، فكان يترك ثلاجته فارغة ويملأ بطونهم. وزوجته تعرف ولا تشكو له جوعها، فكأنما كانا ملاكين بُعثا للناس. لا يشتكيان ولا يبغى أحدهما على الآخر، وهو العجب كل االعجب، فالبشر ليسوا بهذا النقاء والتقوى مهما حدث، وإذا كان واحد هكذا فهو لا يقابل الآخر مثله أبداً، لكنه القدر يختار وليس المنطق، واختار أن يجعلهما لبعضهما البعض هدية لهدية. 


محمود يعمل في مصنع منظفات بسيط مع شلة من البسطاء أمثاله. يسميهم عباد الله وهؤلاء يسمونه وينادونه الطيب لمحبته وتسامحه.

محمود الشناوي لم يكن يعلم أن المصنع يتعامل مع مواد سامة ممنوعة، فيضعها في منتجاته بنسبة بسيطة قد لا تؤذي مستخدميها. ويوم كان ينقل براميل هذه المواد السامة وانكسر أحدها لعيب صناعة وسال ما بداخلها على ذراعه وعلى جسده لم يعرف حجم الخطر الذي يحيق به. فبعث بطلب مدير القسم ليخبره أنه على استعداد لدفع ثمن البرميل الذي انكسر رغم أن ما حدث لم يكن ذنبه، وهم بعدها ينظف المكان فعب دفعات هائلة من البخار المادة السامة. سعل كثيراً ولم يعرف السبب. ولما ظهر المدير ورأى ما حدث التاع وقال له ماذا فعلت! أنت يا محمود قد جنيت علينا جميعاً. المصنع سيُغلق الآن. ولم يعرف محمود ولم يفهم شيئاً مما قاله مدير القسم. 


تبدل جسده بعدها واشتعلت ناراً به، فمرض وشعر بآلام لم يشعر مثلها قبلاً، وغاب عن العمل وبُعث له محقق من هيئة السلامة العامة ليسأله أن ماذا جرى ولماذا مرض فجأة، فيخبره محمود أنه لا يعرف، ولو أخبر ما حدث لقُطعت أرزاق كثيرة من المصنع. 


هكذا يسعل محمود الشناوي على فراش الموت جوار زوجته التي كانت تبكي دماً. تسأله أتتركني وحدي يا محمود فيجيب لا أعرف. تسأله بصوت يأن حزناً وألماً، والعهد يا محمود! والأطفال الذين تواعدنا أن ننجبهم للدنيا بعد ابنتنا رحمها الله! والعائلة السعيدة التي عهدنا أن ننشئها! أضاع كل ذلك؟
يسعل فيقول.. 

لا أعرف. 

تعليقات

  1. أحيانا لا أعرف يكون فقط افضل جواب بدل الخوض في نقاشات عقيمة ..

    ردحذف
  2. نعم ربما. لكن بكل حال بعض الناس لا يحبون ولا يستطيعون ألا يعرفوا. ذاك يمزقهم والكبرياء. يعيشون بيننا ولكننا لا نلاحظهم.
    كامل الشكر والامتنان على المرور اللطيف والتعليق. تحياتي.

    ردحذف
    الردود
    1. هذا صحيح حياة من لا يعرف شيئا، فارغة باهتة، يعيش ولا يدري لماذا صامت صمت الموتى ولكن في عقله حرب فلسفية لا تتوقف، وجوده لا يغني شيئا من عدمه وسط الناس فهو في النهاية جرة فارغة رقم منعزل في اخر الصف ليس بجعبته شيء جديد ولا يكلف نفسه عناء إلقاء كلمة او كلمتين حتى لو كان يعرف لذا فلا أحد يكترث به إنه فقط " الرجل الذي لا يعرف " حم حم ههه بالغت في الوصف قليلاً .
      لكن لا تتوقف عن طرح أي فكرة ببالك فلربما رغم بساطتها التي تبدو عليها قد تطوف بنا لتخيلات وافكار ابعد واعمق، أتعلم لقد نشرت الجزء الثاني من القصة.. ستسرني زيارتك .. وشكراً

      حذف
    2. لن أنكر بالغت في الوصف فعلاً هههه. شعرت أن صاحب التعليق يعرف كل شيء وأنا لا أعرف أي شيء ههه
      إن شاء الله سأقرأ الجزء الثاني. قد كنت متحمساً له. شكراً جزيلا على مرورك ولطفك.

      حذف
  3. هل يمكنك تغيير شكل المدونه؟

    ردحذف
    الردود
    1. أخبرني بما يضايقك في الشكل يا صديقي/تي وسأرى ما يمكنني فعله.

      حذف
  4. اتفق مع من اراد تغيير الشكل

    ردحذف
    الردود
    1. من فضلك أريد معرفة رأيك بمزيد من التفاصيل فيما لا يعجب سيادتك.

      حذف
  5. لا أدري ما المشكلة في التصميم يبدو مناسباً

    ردحذف
    الردود
    1. ولا أنا، لهذا أسأل لربما غفلت عن شيء ما. هي أذواق عموماً.
      شكراً على المرور يا أسماء. تحياتي.

      حذف
  6. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... أود فقط سؤالك أخي البراء. أأنت نفسه الذي كان يكتب بموقع كابوس؟ .. إن كنت هو فأنا ألقي عليك تحياتي الخالصة.. أنا أزيز الصمت كنت مدققة سابقة بالموقع وقد عملت مع الأخت وفاء رعاها الله أينما كانت.

    ردحذف
    الردود
    1. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. أهلاً أختي الكريمة. نعم أنا هو وأشكركِ جزيل الشكر. أعرفكِ بالطبع. لقب جنابك مر عليّ كثيراً في الموقع لذا لا داعي للتعريف. سعدت بزيارة واحد من المحاربين الأُخر مع الأخت وفاء والأخ جمال في الموقع. قد شرفتِ مدونتي المتواضعة. كامل تحياتي وشكراً على بادرة لطفكِ الجميلة.

      حذف
    2. أنا من أشد المعجبين بمؤلفاتك.. أسعدني كثيرا أنني وجدت مدونتك فقد تذكرت أنك قد تكلمت عليها سابقا في أحد التعليقات.. بإذن الله سأكون متابعة وفية.. وفقك الله لما يحبه ويرضاه.. من باب الاقتراح : لما لا تنشر كتابا يحوي جميع مؤلفاتك أنا أنصح بذلك بشدة فالقصص أكثر من رائعة بدون مجاملة مني.

      حذف
  7. اسم محمود كثيرا ما يتردد في قصصك، أذكر سابقا أنك قلت أنك تضعه تلقائيا دون تفكير..

    عموما بصمتك على قصصك هي نفسها لم تتغير، قصة رغم بساطتها وقصرها إلى أن رمزيتها أعمق بكثير فمحمود نسخة من ملايين النسخ في هذه الغابة التي نعيشها..

    مع تحياتي.. وفاء ..

    ردحذف
    الردود
    1. أهلاً وسهلاً أختي الكريمة وفاء. سعيد أنكِ لاحظتِ موضوع الأسماء. مشكلتي أني حينما تراودني فكرة وأحب كتابتها، أنسى كل شيء آخر عداها. لا أرى أمامي سوى أقصر طريق يجب أن أسلكه لأصل لهذه الفكرة، وبالتالي أختار أول اسم ينبض في عقلي، وهو أمر خاطئ على مستويات عدة، لكن ليس باليد حيلة.
      وربما كتبت هذه القصص التي أبطالها محمود على فترات متباعدة فأنسى تماماً التشابه.
      سعيد أن بصمتي لازالت حاضرة، ويسعدني أكثر مروركِ وتعليقك. تحياتي.

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

انتهى الدرس

الرجل الثاني على اليمين