صديقان



رأيته أول مرة منذ سنوات يعبر بابا حديدياً كبيراً عُلقت فوقه لافتة كُتب عليها "سجن برج العرب"

متغيراً كان لكن عينياي لا تتوهان عنه ولو تنكر. أعرج في مشيته بسبب حادث قديم. حليق الشعرين نظيف وكأنه شاب خرج للتجنيد، وقد بدت رأسه بيضاويه الشكل تلمع تحت ضوء الشمس الحارق. وكنت أقف وسط جمع من الناس والأهالي وذاك يوم خروج الذين قضوا فترة سجنهم وقد كان هو منهم. وكنت أجد نفراً من الناس ينفصلون عن الجمع ويحيطون بكل واحد يخرج، فلما خرج هو لم يهرع إليه سواي. ورمقني بنظرة عبوس لحظة رآني وقال ما إن التقيته بالأحضان:

- لا زلت أصيلاً يا بن فاطمة.

اعتصرته عصراً وأنا أكاد أبكي. قلت له وأنا أعطيه زجاجة عصير وحقيبة ورقية بها شطائر لحم أعدتها زوجتي:

- دع هذا الكلام لوقت لاحق. والآن خذ. أبرأ عظمك.

أخذ مني ما مددت به يدي دون كلمة. ونظر في الحقيبة فعرف أنها شطائر معدة منزلياً فعزف عنها وفتح زجاجة العصير المشترى وتجرع منها. قلت:

- هكذا؟ لم تنس بعد؟

قال:

- هل نذهب؟ الشمس كافرة يا رجل.

تنهدت وتقدمته إلى سيارتي فتبعني. وقال لما اقتربنا منها:

- عرفت أنها لك قبل أن نأتي هنا. أحدثهم وأفضلهم في الموقف كله! وأنت هكذا، لا تحب إلا الأفضل.

وفهمت أنه يقصد سيارتي البي إم دابليو الفارهة. أرد وأنا أفتح بابها له:

- ثمة أفضل لكن القوم هنا بسطاء. ذاك موقف سجن.

يغمغم بشيء من السخرية أثناء دلوفه:

- إذن أنا المحظوظ الذي زاره الرجل المهم.

أتجاهله وأغلق بابه بعد أن استقر في مقعده. أستدير حول السيارة فأجلس في مقعد السائق. أدير المحرك وأنطلق. أقول له إذ أفعل:

- كُل يا هادي. هي التي أصرت. قالت تحبها.. تلك الشطائر.

وأراقبه شذراً وهو يرخي ناظريه إلى الحقيبة، فرأيت في سكون جسده رحلة يأخذها في ذكرياته.

....

 هادي. شيء مثل الحلم في طفولتي. ولد من مثل عمري يقارع صورة الأبطال في خيالي. مثالي، أو هكذا كنت أراه بعينيّ البنيتين آنذاك، والتاسعة عمر الانبهار بكل حال. تزاملنا في إبتدائية وإعدادية وثانوية وكلية. غريب ورائع أن تتشارك ذات الأحلام وذات الرؤيا وذات الطموح مع صبي من بني جنسك. أن تحبان ذات الطعام وذات الأغاني وذات الأفلام وذات بطلات الأفلام. ذوقكما واحد ولونكما، تسكنان ذات المبنى بل تشجعان ذات فريق كرة القدم. أكثر؟ تلتقيان صدفة فوق سطح البناية لتكتشفان أنكما صعدتما لتتلصصان على ذات الفتاة التي تستحم وتترك شباك الحمام مفتوحاً فيُرى جيداً من فوق سطح البناية، وتكتشفان أثناء ذاك أنكما تحبان ذات الأجزاء من جسد المرأة. صدفة أو عبث أو وهم. أما الاختلافات بيننا فكانت موجودة لكنها معدودة. منها الشكل الخارجي. ففي حين كنت أنا صبياً عادياً متوسط الشكل والهيئة، كان هو وسيم الشكل طيب الهيئة، وكثيراً ما رأيت الفتيات تنظرن إليه إذا مشينا أو جلسنا سوياً، وكنت أحسده على ذلك لكني لا أتكلم في الأمر معه ولا أظهر ضيقي.

كانت صداقتنا قوية فكنا نتسكع معاً أكثر مما يحتمل الصديق صديقه، فتلاصقنا حتى لم يكن يُرى أحدنا دون الآخر، وكان أستاذ الرياضة يخبرنا دائماً أننا مؤخرتين في لباس واحد، وكان ذاك يضحكني ويضايق هادي. وهنا يظهر الاختلاف بيننا في الشخصية. فأما هو فكان عنيداً عنيفاً يأخذه شيء من الغرور. وأما أنا فكنت ليناً على قدر من الطيبة والسذاجة فوُجدتُ أتفهم ما يوجد أو على الأقل أحاول تفهمه.

وعشنا هكذا بقية أوقات الطفولة حتى كبرنا وحملنا أقداراً مختلفة. ورأينا في السماء نجمة وأراد كلانا الإمساك بها، فكان حلماً تشاركناه سوياً، وما كان الحلم إلا ليظهر مدى شغفنا باللعبة، بكرة القدم. والحلم إذن هو أن نصبح لاعبي كرة قدم محترفين. ورأيته آنذاك أقرب مني في الوصول. فكان ماهراً يملك موهبة تغلب موهبتي، ولما سجلنا سوياً في كلية التربية الرياضية تبين لي أن جانب من القتال يتضمن أن يكون اللاعب حسن الهيئة. فكنا هكذا نذهب سوياً إلى اختبارات قبول الناشئة في النوادي الرياضية، وفي حين لم أجد قبولاً في لاعبين أمهر منه كان دائماً يُرسل للاختبارات الثانية بعد قبوله في الاختبار الأول. غير أنهم في النهاية لا يقبلونه قبولاً نهائياً، ليس حتى تخرجنا ووجدته يحدثني عن نادٍ عريق أرسل له طلب تدريب مع فريق الشباب لهذا النادي، ولم أفهم كيف وصلته هذه الدعوة الخاصة جداً آنذاك. وذهبت معه بعد إلحاح شديد منه حتى إذا رأيت حشائش الملعب تحمست. وقضيت الوقت أراقبهم يركضون في كل مكان وينفذون أوامر مدرب غليظ يرميهم بكلمات آمرة ومحفزة. وبعد فترة تم تقسيمهم فرقتين للعب مبارة ودية. وكشيء مثل رسالات القدر، كانوا مع هادي واحد وعشرين لاعباً، ونقصهم لاعب وحيد لاكتمال العدد. فظهر عليهم إحباط شديد وكانوا حينذاك في حماس ونشاط للعب هذه المباراة، وإذا فجأة وجدت هادي يشير لي من بعيد وهو يتكلم مع المدرب، فانقبض قلبي ودق لما رأيتهما يقتربان مني، حتى إذا صارا على مقربة تسمح بالكلام قال المدرب بلهجة آمرة أن أخلع ملابسي وأستعد للنزول، ولم يكن فيّ من الحرج ما يجعلني أرفض هذه الفرصة الذهبية. نظرت إلى هادي فوجدته يغمز لي فضحكت وزاد حبي له مقداراً عظيماً لحظتها.

ونزلت إلى أرض الملعب أشتم عبق حشائشه شاعراً بقوى خفية تتفجر داخل نفسي. فقمت بالأحماء وتعرفت أثناء ذلك على أعضاء فريقي وكان هادي منهم في مركز الجناح المهاجم، بينما أنا أخذت مركز قلب دفاع لأن ذاك كان نقص مركزهم. وبدأت المبارة بعنف لا يشي بكونها مباراة ودية. ورأيت حماساً وناراً مشتعلة في عيون شباب الملعب. قدمت يومها في الشوط الأول من المباراة أداءً طيباً، فكنت قد مررت تمريرة عالية حاسمة إلى هادي الذي أحرز منها هدفاً جميلاً. وكانت تمريراتي دقيقة لا تخطئ. في ما بين الشوطين أخبرني المدرب أن أتقدم أكثر لنصف الملعب وأن أصنع اللعب من هنالك وأترك مركز قلب الدفاع، ففعلت ما طلبه فرحاً وصرت أتقدم إلى منطقة الخصم فأبدع في اللعب والتمرير، وأكثر إبداعي كان في تمريراتي إلى هادي الذي شعرت أني أريد رد الجميل له. فصار دون أن أدري رجُلي الأول في الملعب، ومركز تمريراتي ولعبي، وكان لاتصالنا الروحي ولعبنا المتواصل سوياً دور في ذلك، فكنت أعرف أين سيتحرك ومتى فأرمى الكرة هنالك دون وعي مني فتصله فيُذهل اللاعبين والمدرب مما صنعت. وغطت الملعب روح قتال غريبة وجدتها تسكن داخلي كما سكنت كل لاعبي الملعب. فكان الفريق الخصم يتقدم بهدف فنلحقه بهدف منا بتمريرة مني أو هجمة أقودها بذكاء. حتى صار لاعبي فريقي دون أن أدري يبحثون عني في كل تمريرة، ذاك أنهم رأوا فيّ مفتاح لعبهم. هكذا فرضت سيطرتي على أرض الملعب. وأذكر النهاية جيداً. كانت لعبة مرتدة لنا نجونا قبلها من هدف بمعجزة ما، وارتدت الكرة أمامي فلم أفكر ودفعتها مطلقاً ساقيّ للريح، وهنا تكشف لي وللجميع أني لست سريعاً فقط، بل وأيضاً قدرة تحمل الإرهاق عندي هائلة، إذ كيف لشخص ظل يركض لتسعين دقيقة، أن تظل عنده القدرة على الإتيان بمثل هذا المجهود البدني في الركض السريع. وهكذا أذهب وبالفطرة أراوغ واحداً واثنين، وأصير أمام المرمى وحدي وجهاً لوجه مع الحارس ولا يبقى لي إلا ركل الكرة والتسجيل. فمددت ساقي ولويت باطن قدمي مما فصح بأني سأركلها في زاوية معينة، فتأهب الحارس وقفز حيث رأى نيتي، وإذ بي أخادعه ولا أركل الكرة، فيظهر أمامي المرمى خالياً، ولكني رغم ذلك لم أسدد ودفعتها جانبي حيث كنت أعلم بإحساسي ولا شيء سواه أن هادي موجود هناك، وما إن فعلت حتى وجدت قدماً ظهرت أمامي من العدم، ووجدت صاحبها ينزلق أمامي على الأرض المخضرة الناعمة، فعلمت أنه ظن أني سأركلها في المرمى الخالي، مما قاده إلى فعلته تلك، ولو كنت فعلاً قد ركلتها آنذاك، لكان قد تصدى لها بأعجوبة. هكذا تدحرجت الكرة ناحية هادي الذي لم يدخر وقتاً وركلها ناحية المرمى فهزت الشباك وسط صيحات فريقنا الذي وجدتهم ينهالون فوقي فأسقط بينهم. وصفر بعدها المدرب بانتهاء الوقت لهذه المباراة العظيمة.

قدمت لهادي ذلك اليوم خمس تمريرات حاسمة، وسجل هو ست أهداف في المباراة. وضحكنا ما ضحكنا ذلك اليوم وأشاد بي كل اللاعبين رغم حصول هادي على لقب لاعب المباراة لتسجيله ذلك الكم من الأهداف. وخرجنا مع الفريق بعد ذلك فدعانا المدرب مع الفريق إلى عشاء على حسابه فذهبنا وكلانا يشعر بفرحة غامرة. تالي يوم وجدت هاتفي يرن وإذ به المدرب يحادثني يخبرني أن لديه مكانين شاغرين في فريق الشباب. وأني يمكنني الانضمام إذا أردت. سألته عن هادي فقال هادي يأخذ مكان وأنا آخذ الآخر. وهكذا أدركنا أننا وصلنا لمنتصف طريق الحلم. أننا قد اجتزنا عتبته ومشينا فيه بالفعل. لكن القدر كان يخبئ لي ولهادي أكثر مما ظننت.


....


أنتبه له وهو يفض الحقيبة الورقية ليأكل مافيها. تفلت مني ابتسامة وأتركه لحاله. أراقبه بعدها بثوان بطرف عيني ويهالني ما أراه. أجده يقضم الشطيرة ودموعاً تنهمر منه عليها. أعلم مجدداً أنها بوابة الذكريات. أقول:

- هل طعمها لذيذ لهذه الدرجة؟

يقول ماسحاً ما يسقط منه:

- اخرس. لو تعلم. آه لو تعلم!

أبعد بصري عنه وأعود به للطريق. يقصدها. تلك الفتاة وليست من سواها. حلمه الذي غربت شمسه للأبد.

عرفناها في رقة الزهور ورائحتها. تبدت لنا ملاكاً أو أكثر. بياض الحليب وليونة الرضّع. فتاة سكنت نفس بنايتنا. مثل النسيم إذا مرت، ومثله إذا ضحكت أو تكلمت أو ألقت سلاماً وفي رؤياها كل السلام. حديثة العهد بالبناية لكنها استقرت داخل قلوبنا. لا شيء يصف الأمر سوى كلمة الحب أو العشق. أما هادي فكان يحوم حولها ويحاول الحصول منها على ما حصل على مثله من الفتيات السابقات، وكان لعوباً مقيتاً يجيد العزف على أنغام الفتيات الحالمات، ويجيد كذلك اللعب بأحلامهن لعباً. وأما هي فكانت بكراً أرضها خضراء لا تعرف شيئاً عن الذكور، فتلك تربية والدها الحريصة لها. صدته ولم تُقم له المقام الذي أراد، فغاظه ذاك وكأنما هي الغنيمة التي استعصت عليه. وحار فيها أياماً يقول لي، هي تريدني وأعلم ذلك، لكنها لا تريد فتح أبواب أخرى غير النظرات وكلمات السلام والتحية. أقول له يا حقير إنما هي التربية الحقة!

تمر الأيام ولم يعد غريباً أن نتقاسم ذات الشغف تجاه شيء ما، بل العجيب لو وجدنا بيننا اختلافاً في وجهات النظر. هكذا ناظرتها وناظرها. هكذا بدأ الخيط بالانقطاع. الخيط الذي يربطنا سوياً. تغيرت أشياء كثيرة في ذلك الوقت. شهور كثيرة تمر قبل أن يتم تصعيدنا سوياً للفريق الأساسي لما أظهرناه من مهارة وذكاء في اللعب. وقعنا عقوداً وصار المال سهلاً لنا. واشتريت أول ما اشتريت من أول راتب سريراً طبياً لأمي التي كانت تعاني آلام ظهر مقيتة. وأذكر أني كنت أصرف عليها الكثير لما فُتح لي من باب نعمة كبيرة. كنت سعيداً. فعلاً وقولاً سعيد. أعيش الحلم وأملك المال وهذه نهاية صفحة آمالي وأمنياتي في كتاب حياتي.

وأما هادي فقد تفرقنا واشترى كلا منا بيته بعيداً عن البناية التي جمعتنا يوماً ما. لكننا رغم ذلك حافظنا على الأواصر قوية، فكنا نتقابل أسبوعياً خمس مرات منهم مرتين في تمرينات الفريق. وعلمت أنه هام بتلك الفتاة حتى أملكها قلبه وعقله. وكأن ضبط النفس زر يُضغط، تغير حاله وابتعد عن طريق النساء فلم يعد زيراً لهن. فهمت أنه تغيّر لأجلها في ذاك فقط، أما البقية فظلت كما هي. تقدم لها مرات لكنها رفضته بعددها. أما أنا فآثرت الابتعاد عنها لأنها لم تسلك عميقاً في قلبي مثلما سلكت في قلبه، ولو أنها كانت هناك بكل حال.


....


- وصلنا.

أقولها وأنا أشد مقبض المكابح اليدوية بعد أن أوقفت السيارة في الجراج العمومي القريب من منزلي. يسأل:

- هل صليت الظهر؟

تعجبت لسؤاله، فلم أكن أعرفه تقياً في إيمانه يوماً:

- لا، وأنت؟

- نعم.

- تغيرت كثيراً.

يتجاهل كلامي ويسأل بعينين خائفتين:

- هل شكلي جيد؟

أطالعه جاداً فأقول بباطن دعابة:

- كأنك قادم من الحج وليس السجن.

نضحك سوياً وأربت على كتفه وأنا ألف جذعي للمقعد الخلفي. أقول:

- يمكنك أن تختار رغم ذلك.

يلتفت مثلي فيجد أكياساً بلاستيكية كثيرة. يسأل:

- ملابس؟

- هيا اقفز وانتق ما تريد.

يفعل مثلما قلت وهو يغمغم:

- لو كنت ابنك الصغير لما فعلت لي كل هذا.

ويستقر على المقعد الخلفي متنهداً:

- ما كل هذا؟

- كله لك. اخترت مقاسك وأصغر منه قليلاً. قلت نحفت في السجن.

- لكن هذا كثير.

- وهل ستقابلها بملابس الإحرام هذه!

يضحك مجدداً ويرد هو يفض الأكياس:

- اسمع، تبرع بها غداً للمحتاجين.

- هي لك يا رجل! لن أتبرع بها.

يغممغم بشيء لم أسمعه، وبعد ثوان كان قد ارتدى قميصاً بعد أن أزال منه ملصقات البيع. وانتقى بنطالاً جينز أسود اللون ليرتديه، غير أنه وجد صعوبة في إدخال قدمه المصابة فيه. يجاهد وهو يلهث. ألاحظ دموعاً تتجمع في مقلتيه فأعود لأتذكر ما لا بد أنه يتذكره الآن.

...

بدأت الصورة تُرسم في تمرينات الفريق الأول. كنت أصل في الميعاد دوماً إن لم يكن مبكراً، وكان هو يأخذ وقته وغالباً ما كان يصل متأخراً. وفي حين كنت أُظهر أنا روح الانضباط كان هو يُظهر عقلية الاستهتار. قاده لمعانه إلى فخ الغرور. وقد كان يلعب أساسياً في مركز الهجوم على عدة نجوم صف ثاني، أما الأول فكان له وحده، وأما أنا فكنت ألعب احتياطياً لأحد أقوى لاعبي الدوري في خط الوسط. صبرت الكثير وتعلمت الأكثر منهم، حتى صرت أبني شيئاً فشيئاً لاعب شامل في منتصف الملعب. في تلك الفترة لم أعرف ما كان يحدث بالضبط مع هادي، لكنه كما لاحظت عليه، كان قليل النوم كثير السهر والشرب والعربدة مع النساء. كل شيء حدث بسرعة صدمتني فأذهلتني. لم أعلم الخبر منه لكن من حديث عابر في فطور صباحي هادئ. كانت أمي تأكل القليل من البيض بالخبز البلدي حين قالت:

- أعرفت؟ واحد من المجانين أمثالك تسبب في حادث أليم. حافلة مدرسية محملة بالأطفال.

كنت عكسها لا آكل إفطاراً بسيطاً من بيض وخبز وجبن، بل كنت أتناول الأكثر والأفخم من الطعام وأنواع الجبن واللحوم. سألتها غير عابئ بالخبر:

- نحن لسنا كلنا ملائكة. المال أحياناً يغيرنا.

وكنت حينها أقصد لاعبي كرة القدم وهي التي كانت تلقبني بالمجنون لأني أكسب من اللعب عيشاً. لم يكن ذاك منطق عندها ولا عند العالم التي أتت منه. ترد:

- بلى، ولكن أن تقتل روحاً؟

- أحد ما مات؟

- من الأطفال نعم.

داهمني شيء من المفاجأة فقلت:

- رحمهم الله. من أين عرفتِ الخبر؟

- سمعتهم على الراديو. تقطع قلبي.

هناك لمسني شيء. أمي لا تتابع سوى محطات محلية خاصة بالمدينة والمحافظة، مما يعني أنه ربما أحد لاعبي فريقي.

- لم يقولوا اسمه؟

- لا.

 لم أسألها المزيد وقمت عن الطعام. ثوان ثم كنت أبحث على الإنترنت على المزيد من المعلومات، وحينها عرفت. كان هادي هو بطل هذا الخبر! ما حدث بعدها كان بدهياً. تحصيل حاصل. الحكاية أنه كان مخموراً خرج متأخراً من سهرة ما فقارب الصباح. يصطدم مسرعاً بالحافلة والحافلة تصطدم بشجرة وتنقلب. وكان الغبي يقود معاكساً والتقطته الكاميرات وهو يفعل. يصاب هو في ساقه الإصابة التي لازمته للأبد، ويموت ثلاثة أطفال غير الذين جُرحوا. بعدما خرج من المشفى قضى فترة في بنايتنا القديمة وكنت أزوره بشكل شبه يومي. حاولت سؤاله لكنه لم يخبرني سبب إصراره على البقاء في المكان الي قضينا فيه طفولتنا. وفي المحكمة ولأسفي التهموه التهاماً. صادروا أمواله وأملاكه ووضعوه في السجن حتى صار مولوداً جديداً لا يملك حتى ثمن ملابسه. بمعجزة ما تمكن من الحصول على حكم مخفف، ذاك أنه عين أحد أكبر محامين مصر كلها، والذي تقاضي منه الأجر طبعاً قبل صدور الحكم بالسجن والمصادرة.

هادي، وبين يوم وليلة، هوى لمكان لا قاع له. بكيت أيامها كثيراً عليه، وشعرت أني فقدت جزء من روحي. حاولت زيارته لكنهم منعوني. قلت إذن هي كلها سنوات ويخرج، وحينما يخرج سينتهي الكابوس، لكني لم أعلم أن ثمة ما هو أكثر من الكابوس في القضية برمتها.



....

يمسح على صلعته بكفه سائلاً:

- هل أبدو جيداً؟

ثم يصمت قليلاً أن يُكمل:

- هل أبدو.. حياً؟

أتفحصه بحزم:

- نعم. رجل طبيعي عاد من خارج البلاد.

- جيد.

- لكنك تعلم أني أرفض أن تراها بهذه السرعة. يجب أن تجمع شتات نفسك و..

يقاطعني:

- جمعتها. أنا بخير. قضيت آخر شهوري أحصي الليالي استعداداً لهذه اللحظة.

أغمغم وأنا أتقدمه داخلاً المصعد:

- لك ما تريده.

يدلف ورائي ببطء غريب، وكأنه يحاول الهروب من الحقيقة. نقضي الوقت في المصعد صامتين حتى وصلنا للدور المراد فالشقة المرادة. ودون أن نضغط زراً للجرس أو نطرق باباً أو حتى نأتي بإشارة فُتح الباب. امرأة تجانب طفلة في الثامنة. ينهار هادي أرضاً بمجرد أن يراهما.


....


لا أذكر الكثير من مشاعري وقتها. لكني حتماً كنت حزيناً على رفضهم لزيارة صديقي، ولم أقدّر أن ثمة صفعة جديدة في الطريق. استقبلت كلامها بهدوء أتعجبته في نفسي الآن. كانت تقف أمامي باكية بعد أن أخبرتني أن في بطنها نطفة منه. لم تكن سوى جارة بنايتنا القديمة التي نحتت لها تمثالاً من نور في قلبي، ولم أعلم كيف فقد الملاك كل ما يجعله ملاكاً بهذه السرعة. كيف هي التي لم تقترب يوماً من ذكرٍ واحد انهار عرشها بهذه السرعة. لا أذكر ما حدث بعد ذلك. كلام مثل أنها لم تجد غيري لأني كنت صديقه دائماً ولأنها أيضاً تعرفني. مثل أنها هالكة ومثل أني يجب أن أوصل له الرسالة كي يخرجها من ورطتها. صرفتها بعنف عن باب شقتي حتى وجدت أمي تسألني أن من أحادث على الباب ولماذا أصرخ فيه. لم أجبها. تالي يوم كنت في بنايتنا القديمة وتحديداً في شقة الفتاة التي كان قلبي لا يزال ينبض لها، حتى بعد ما حدث. أطلب يدها على وجه السرعة، والزفاف بعد أسبوعين من الخطبة. وافقوا ورأيت الدموع في عينيها. في فترة الخطوبة التي جمعتنا لأسبوعين فقط سألتها إن كان ما حدث بإرادتها أم غيرها، فلم تجبني قط. وبعد الزواج لم أسألها أبداً ذات السؤال، فلم أعلم إن كانت مع هادي مُغتصبة أم راضية.

 وضعت طفلتها متأخراً لرحمة الظروف وقلنا نحن إنها ولادة مبكرة، فكان أن قفزنا شهرين تقريباً عن أعين الناس، وكان أن المولود الجديد يحمل اسمي. بعدها تمكنت من تهريب رسالة إلى هادي في السجن أخبره فيها ما حدث ووصلني رده أن خير ما فعلت وأنه سيحمل جميلي فوق رأسه للأبد. وهكذا ظلت بيننا المراسلات التي أخبرها فيه عن ابنته وعن الحال الذي وصلنا إليه، والتي يوصيني فيها بابنته وبأمها.


....


تنظر له بعيون بريئة، وقد كان مرتمياً على كرسي أثير في صالة شقتي. يبتسم ويكاد يضحك فتسأله:

- هل أنت بخير الآن يا عمه؟

تشع عيناه حناناً ويقول بضعف:

- وكيف أراكِ ولا أكون بخير يا صغيرتي!

تضحك هي على ما سمعته ويتورد وجهها خجلاً. ويفرح هو ببسمتها رغم ما يظهر عليه من وهن. يسعل فأقول:

- يجب أن نذهب للمشفى. تلهث كثيراً.

يغمض عينيه ويرد خفيض الصوت:

- الآن رأيتها. تشع نوراً وبهاءً بسببك. يجدر بك الفخر. أنت رجل عظيم.

حينها أسأل نفسي. هل فعلتها لأجله؟ أم فعلتها لأنها فرصة وجاءت لي على طبق من ذهب؟ تراقبنا زوجتي بحزن إذ أقول:

- لا يعجني حالك.

 لا أنتظر رده وأحمله حملاً وقد نويت أخذه إلى المشفي. يقول:

- لا تتعب نفسك. كان ذاك وعد ودعاء بيني وبينه.

تفتح لي زوجتي باب الشقة مسرعة فآخذه خارجاً وأنا آمره بغضب:

- اخرس.

- اتفاق أن أراها لمرة واحدة فقط قبل أن أموت. أوصيك بها يا بن فاطمة.

تنقلب نبرتي للرجاء وقد خفت عليه:

- لا تتحدث أرجوك!

- لا تخف يا صديقي. في السجن توبة وندم وصلاح. أما الآن، فحَقّ الموت عليّ.

أصرخ فيه:

- لا تقل هذا!

لكنه حينها لم يكن يسمعني. كان في مكان آخر بالفعل.



تعليقات

  1. يا لها من قصة يا براء، حزينة ولكن أتعلم كنت منسجمة معها سطرا سطرا في البداية، إلى أن اختل انسجامي مع بداية ذكرك لتغيير طباع الفتاة، كيف حصل هذا بسرعة وهي الفتاة العفيفة الشريفة، لم تطلعنا عن الاحداث، بدى ذلك مستفزا ههه صار لا بد من توقع خيبات الأمل من شخصيات اعتقدناها سلفا جميلة، كما استغربت ايضا من موت الرجل المفاجئ مم يعني كلن فقط ينتظر لقاء صغيرته ثم يموت..
    حسنا، بغض النظر من قلة الحبكة في هذه القصة، الا انها اشبه بيوميات صديق هادي يدخلنا في جو واقعي قد يحصل لاي انسان أكمل براء أسلوبك جيد 🌸

    ردحذف
  2. واجل من خلال العنوان ومضمون القصة بدأت أفهم المغزى، صديقان.. نعم كنت ذكرت في البداية إلى اي حد كانا يتفقان في كل شيء، كل ظل للآخر، إلى ان بدأ هذا الاختلاف بينهما يظهر تدريجيا، كيف تخلى هادي عن محبوبته بعد علاقة غير شرعية وكيف بادر صديقه بالستر عليها بالزواج الحلال.. كيف تهاون هادي في تدريباته بسبب غروره وكيف بنى الآخر مستقبله واشترى له سيارة فارهة واكل من اشهى الاطباق بسبب جهده ومثابرته صديقان .. لكن وجهان مختلفان لعملة واحدة 👍🏻

    ردحذف
    الردود
    1. يا أهلاً وسهلاً بصديقتنا العزيزة. عن الفتاة لا أخفيكي سراً، أنا أيضاً تفاجئت مما فعلت هههه.. انظري.. أحياناً أمسك بالقلم وأحركه، وأحياناً أخرى يمسك بي القلم ويحركني. الأمر معقد، أعلم. الخطة في البدء كانت أن يفوز واحد بكل شيء ويخسر واحد كل شيء. وبين لقائهما نتذكر الماضي. كل شيء صار كما هو مخطط له لكن في المنتصف وأنا أكتب زارني وحي خبيث وقال لي ضف بعض التوابل هنا. بعض الدراما. لا أعلم فعلاً. ثم إن البطل لم يكن ملاكاً أيضاً. ظروف جاءت له واستغلها هو.
      أيضاً ثمة نوع من التشويق في ألا نعلم كيف حدث ما حدث. هل هي عفيفة وحدث هذا غصباً عنها أم كانت على علاقة غير شرعية بهادي. لكن نعم أنا لست ملاكاً وأخطئ كثيراً. ربما ما حدث لم أفضل شيء ممكن. لكننا نحاول فقط لا غير.
      بالنسبة للنهاية شعرت أنه لا عيش لهادي بعد خروجه من السجن. أعنب.. كيف سيعيش هذا الرجل وهو يشاهد امرأة يحبها وابنته منها مع صديقه الأقرب. الموت هو النهاية الأكثر رحمة به حسبما أعتقد. سر سريع. فكرت للحظة أن تترك المرأة البطل وتأخذ ابنتها وتعود لهادي. لحظة سريعة فقط ههه. لكن نعم.. النهاية ليست ممتازة وليست مثالية طبعاً ولكن مجدداً.. هي وجهات نظر.
      بأي حال كامل الشكر وجزيله لجنابك الكريم على هذا المرور الطيب والتحليل الجميل للقصة. بارك الله فيكِ ولكِ.
      تحياتي

      حذف
  3. مرحبا اخي البراء حقاً لقد كان الموت اكبر رحمة لهادي ..لديك اسلوب في الكتابه لا أكل ولا املّ منه لدرجة انّي احيانا اعيد قراءة القصه مرتين

    هل تعلم اخي البراء اني ربما من العشرة الاوائل الذين زارو مدونتك حينما افتتحتها.
    وهل تعلم اني كثير الدخول لمدونتك دائما استرق النظر لمدونتك ربما اكثر منك انت هههه

    اتمنا لك التوفيق والنجاح

    اخوك (متابع من الصامتين) من كوكب كابوس

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أبو علامة - الجزء الثاني

انتهى الدرس

أكرهها