الرجل الثاني على اليمين

قابلته في مكان راق. بهو فندق من تلك التي تتباهى بعدد نجومها. كان يدخن سيجارة بنية اللون -بطعم الشيكولاتة- ولم أنسها لأن دخانها مقزز. يضحك بشيء غريب من التفاخر والكبر. يأتي له رجل يخبره شيئاً فيميل ناحيته بأذنه على طريقة كبار الرجال. يجعلك تتذكر العراب فيتو كورليوني وهو يميل ليهمس أحدهم له شيئاً. أو بوش حينما يعلمه المبعوث بأمر البرجين. أراقبه بحذر وأنا أقترب منه. يضع عطراً فاخراً لا أظن أن سعره أقل من مرتب شهري لموظف. 

علمت أو ظننت أن ذاك رجليّ المنشود. صحيح وجهه مختلف عن صور الجرائد، لكن أولئك يشبهون بعضهم كلهم، وأنا  لي عنده مظلمة ويجب أن يعلمها. تحسست جيبي الخالي من النقود بعد الثروة الصغيرة التي أخذها مني الحارس ليجعلني أدخل الفندق في هذه اللحظة بالذات. وهذه اللحظة بالذات كانت لحظة مرور وزير الصحة على المدينة وبقائه فيها ليلة في هذا الفندق.

وإذن هي أمي التي قطعوا عنها تأمينها الصحي دون أسباب واضحة، وهو أنا أحاول رفع شكواي لوزير الصحة شخصياً عله يسمع. وهو وزير الصحة أمامي يتباهى ويضحك بهستيرية. عجب عجب! 

أقترب منه وأنا أهندم بذلتي الرسمية التي أجّرتها لكيلا يظنوا بي الظنون ويرونني في الظاهر من ضمن أعضاء وفد الوزير. أقف أمامه فأحمحم أن أقول شيئاً فيوقفني بيده أن أنتظر كي ينهي حواره مع أحد موظفيه على الأغلب. ويطول حوارهما ويلقيا النكات على بعضهما البعض وكأن ما في الغد نصيب من الضحك. دقائق مرت قبل أن يلتفت لي قائلاً:

- لا زلتَ هنا؟ ماذا تريد؟ أنا لا أعرفك. هل أنت من موظفي الفندق؟

أرد باستحياء:

- كلا سيادتكم. إن لي طلب.

يضحك دون سبب قائلاً:

- نعم نعم. أنت زوج نهاد؟ قل لها أن الأمر تم.

أرد محافظاً على هدوئي:

- لست زوجها. إني...

يقاطعني بسرعة:

- إذن لا بد أنك عم بدوي. لا تقلق يا رجل يا طيب. أمورك عندي.

ينبثق داخلي شعاع من نور. الرجل إذن يستمع للمظالم. أقول:

- لست هو.

يقول مغتاظاً:

- ومن أنت إذن؟

- إني رجل بسيط. كما ترى قطعوا عن أمي دواء التأمين الصحي و...

يقول بعصبية:

- وهل هذه وكالة دون بواب لتدخل علينا هكذا!

وكان يتابعنا رجل طيب الهيئة من بعيد فوجدته يقترب مع كلمات الوزير الغاضبة. يضع يده على كتفه قائلاً:

- اهدأ يا تامر.

ويحول نظره لي:

- ماذا تريد يا محترم؟

تهت منه في أول الثوان. ذاك أن الوزير ليس اسمه تامر. يكرر الرجل سؤاله بهدوء فأرد متلعثماً:

- أمي قطعوا عنها التأمين و...

يقاطعني:

- فقط؟ ما اسمها؟ الرباعي.

ويخرج من جيبه ورقة وقلم. أقول ويكتب ورائي:

- محاسن حسن صبري أبو السعود.

- جيد. من سكان هذه المدينة؟

أشير إيجاباً برأسي فيقول:

- ورقمك؟

أمليه رقمي وانا لا أكاد أصدق سهولة تعامل الرجل واهتمامه. يقول:

- انتظر منا اتصالاً بشأنها بعد يومين. أسأله:

- هل أنت معالي الوزير؟

يضحك الرجل قائلاً:

- لا. الوزير يأخذ جولة في الفندق.

ويتركني مع الوزير الزائف ويمضي. أنظر له نظرة احتقار فيضطرب هو قائلاً:

- إن مقامي مثل مقامه. إني أعمل معه في مكتب واحد!

أقول ساخراً:

- دع هذا الكلام لزوج نهاد.

وكأني أصبت وتراً. يقول وهو يمد يده في جيبه ليخرج صورة فوتوجرافية:

- إني أقرب إليه من كل الناس! أنظر هنا!

ويريني الصورة فأتفحصها. يكمل:

- هذه الصورة السنوية. أترى؟ إني مهم مثلهم. مثل كل أولئك الذين يقفون في الصورة.

وأبحث عنه وسط وجوه كثيرة قاربت الخمسين يتوسطها وجه الوزير كما أعرفه. أسأله:

- وأين أنت؟

- يشير بإصبعه:

- هنا. الرجل الثاني على اليمين. أتراني؟ بذلة براقة أليس كذلك؟

وأنظر حيث أشار لأجده منزوياً خلف كتف أحدهم ولا يظهر منه سوى نصف وجهه. وقد بدا أنه يحاول جاهداً أن يقف على أطراف أصابع قدمه ليظهر في الصورة. أقول له:

- نعم صحيح. يا لك من محظوظ! أنت الرجل الثاني على اليمين.

تمت


تعليقات

  1. لماذا لا تنشر منذ مده؟

    ردحذف
    الردود
    1. يا أهلاً وسهلاً بجنابك الكريم. هل لك علم سيدي/تي أن هذا هو التعليق الأول بهذه المدونة المتواضعة ههه.
      إجابة على سؤالك ثمة قصة طويلة بعض الشيء أخذت مني بعض الوقت. قريباً سأنشرها بإذن الله. وشكراً جزيلاً على الزيارة والتعليق. نورت المدونة.

      حذف
    2. كنت اقرأ قصصك سابقاً في موقع كابوس ، بعدما اغلق الموقع تذكرت مدونتك ، فأنت موهوب للغايه وتعجبني قصصك ..
      خذ وقتك المهم ان تكون جميله ، انا فقط ظننت انك تركت النشر لعدم وجود معلقين او دعم ، لكن لا بأس شيئاً فشيئاً ستصبح كاتب مشهور بأذن الله😃

      حذف
    3. مهما ذهبت ومهما فعلت أجد أن كابوس له أفضال كثيرة عليّ، وموضوع الإغلاق كان للأسف حتمي بسبب التراجع الكبير في عدد زواره.
      بالنسبة للمعلقين والدعم بصراحة أعتبر هذه المدونة مساحة توثق ما أكتبه باسمي وتبقي على أحرفي حية. هل أحب وأحتاج الدعم والتشجيع ومرور اللطفاء أمثالك؟ طبعاً! لكن هل سأتوقف عن النشر لقلة الدعم؟ أبداً، لأن الكتابة تجري عروقي، طبعاً ما لم تحدث لي ظروف تمنعني. ومن هذا أحب أنا أشكرك جزيل الشكر على هذا الدعم اللطيف الذي أسعدني حقاً😁
      وأتمنى أن أظل عند حسن الظن دائماً.

      حذف
    4. ان شاء الله يرجع كابوس متالقاً مره اخرى .. فأنا للان لم ولن افقد الامل ..
      في المدونه سيبقى اسمك شامخاً مهما مر الزمن .. بإذن الله
      شكراً لك ولكلامك الطيب ..
      انا سعيده لانني اول من علق على مدونتكم وسعيده اكثر لانني استطعت ان ارسم الابتسامه على وجهكم🌹😊
      اتمنى ان يبقى حب الكتابه في عروقك ابدا كي نستمتع بروائعك ..
      انا ايضاً اتمنى ذلك .. سابقى اتابع مدونتك دوماً💐
      ايضاً يمكنك ان تعتبرني اختك الصغيره .. بالتوفيق لك 🌺

      حذف
    5. أؤمن على دعائكِ وكل شيء ممكن يا أختي الصغيرة. وأشكركِ على هذا الكلام الذي قلبي له يطرب❤️ يعني أخجلتينا ههه. أتمنى أن تمر كلماتي وكل ما أكتبه عليكِ بالسلام والطيبة وتبلغ منكِ مبلغاً حسناً كما مرت كلماتكِ عليّ وكما بلغت مني. والشكر لا ينتهي ولا يوفيكي حقكِ أختي الكريمة
      تحياتي وامتناني🌷

      حذف
  2. ههه الرجل الثاني على اليمين بالماد يظهر نصف وجهه في الصورة التذكارية مع الوزير المبجل وااو انجاز عظيم

    ردحذف
    الردود
    1. هههه ماذا نقول! عقد النفس البشرية لا تنتهي أبداً. وهناك رسالة دائماً ننظر لها ويقرأها المرء في هذا النوع من البشر. تأتي على شكل نصيحة. جملة واحدة فقط. من تواضع لله رفعه.
      في الأخير نورت المدونة وشكراً على مرورك.

      حذف
  3. صدقت لا يوجد افضل من التواضع والقناعة على كل حال، لماذا ينزل المرء من قيمته بسبب المال فلتكن نفسه عزيزة دائما مهما كانت حالته الاجتماعية،
    انا سعيدة جدا بمدونتك الجديدة قفزة موفقة انت كاتب مجتهد تستحق البروز🌸

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الرجل الذي لا يعرف

انتهى الدرس