عنبة

ملحوظة: هذه القصة لا تمت للواقع بصلة.

 عنبة شاب عشريني. له كشك مشروبات ساخنة في موقف سيارات، والاسم اسم فقط لأنه لا يقدم سوى الشاي ونادراً القهوة. عنبة له ماض وتاريخ لا يحب تذكره، لكنه يعيش فقط. لا أحد يعرف قصته وهو كتوم بكل حال. ويكره النساء حتى ظنه الظانون مثلياً.

عنبة وعي على الدنيا في الشارع. لا يعرف من أنجبه ولماذا. حوله أناس يتكلمون ويذهبون ويجيئون في سيارات. يشعر بألم في بطنه فيعرف أنه يجب أن يأكل. وهكذا يتعلم أول شيء في هذه الدنيا. هو يجب أن يأكل ليعيش. هكذا يمضي ليستجدي الناس طعاماً أو ما يجلبه. وكان ابن خمسة أعوام حينها وينام في الشارع.

بعدها يتعلم الكثير من الأشياء. منها أنه من الأشرف والأفضل له العمل بنفسه وعدم مد اليد للغير وهذه تعلمها وحده. هكذا يمضي عنبة إلى السعي فيعمل وهو في السادسة في مقهى رجل عجوز. عنبة حيوي هزال ويحبه الناس. ضعيف الشخصية لكنه تعلم أن يكون قويها من الظروف حوله. يكاد يموت عدة مرات وأصابعه مليئة بجروح إثر المشاجرات. يكبر في المقهى حتى يصير في الخامسة عشرة. لا يكتب لا يقرأ لكنه حلو اللسان. عليه أعين كثيرة لكنه لا يبالي. 

ذات يوم تناديه امرأة النجار من شرفة فوق المقهى، وكان الأخير غائباً عنها. ينظر لها أن ماذا تريد، فتخبره أنه تريد بعض الخضر من عند حميدة بائعة الخضر. ولم يكن يكلمها وكانت هي تعرفه. علمها عنده أنها امرأة النجار ضخم الجثة فقط لا غير، وأنهم سكان جدد في المنطقة. تخبره أنها ستعطيه المال حينما يجلب الأكياس ويصعد لها. ولم يسأل نفسه الكثير. انبرى لطلبها دون استغراب. تلك امرأة زوجها غائب وتريد المساعدة، وقد علمه صاحب المقهى العجوز أن يساعد المحتاج متى ما احتاج. تخبره أنها تريد أنصاف كيلوهات من الطماطم والباذنجان والبصل والخيار والعنب والموز والتفاح. وكان ما معه بالكاد يكفي لدفع ثمن كل ذاك. يصعد لها ويرن الجرس فتقابله بابتسامة ودود. تأخذ منه الأكياس شاكرة وتعطيه مالاً يزيد عن ثمن ما ابتاع، وتقول احتفظ بالباق يا عنبة فذاك رزقك. يفرح بالجنيهات الزائدة ويهبط من عندها رائق البال.

في الأيام التالية يتكرر الأمر. تطلب خضراً أو بقال أو آخر. راح يلحظ أنها صارت تثق به أكثر في كل مرة. من عباءة محشتمة ورأس يطل من باب، إلى بيجامة وشعر أسود لامع غير مغطى وابتسامة تسكره لليال كاملة. راح يلحظ الأمر. أيدق قلبه بدل الدقة دقتين أثناء وجودها؟ أهو تائه في البحر وهي جزيرة في الأفق؟ لم يعلم.

يلحظ في عينيها أحياناً نظرة ماجنة. وكانت صاحبة جمال شرقي أصيل. ولقد رآى نفسه أعلاها أو أسفلها في أحلام كثيرة. ولشد ما عجب لعقله أن كيف يريه شيئاً جميلاً كذاك وهو نائم، ثم يعجز بعد ذلك أن يستجلب مثله أثناء الصحو. وهاله الأمر. ظن أنه إذا لم يعتليها مثل الحلم فهو مجنون أو هالك. وكانت هي أول عهده بالنساء، فلم يعرف معنى جسد امرأة إلا معها، ولم يستأنس بعطر نسائي ويعشقه إلا بعطرها، ولم يحب الشفاه والثغر والبسم في النساء إلا فيها. وهي من كل ذلك تمثل أنها لا تعلم. وقد بدا له أحياناً أنها تستلذ بعذابه. 

فكر أن يتجرأ ذات مرة لكنه تراجع. ليس هكذا يجب أن ينالها. وانتظر وراقب. تبتسم له فيبتسم ويرحل. لا يطيل النظر والكلام مثل المرات السابقة. وتلاحظ هي ويزيد إلحاحها وكأنها تريد تعذيبه المزيد. عنبة لديه خطة تنجح. ينال منها الأمر، هكذا يفكر لنفسه. تستبقيه ذات ليلة فتقسم عليه أنه سيشرب معها عصيراً من -عمائل- يدها كما تقول. انتفض قلبه ودق بقوة. لحظة الحقيقة يا عنبة. بنظر لها ويشرب. تبتسم له. ينظر لعنقها الأبيض ويشرب. هل تغمز له أم أنه يتوهم؟ ينظر لفتحة تكشف جزءاً من صدرها البض ويشرب. ويقرر أنه لا بد ينالها الليلة. ثم ينام.

حين يستيقظ يشعر بألم فظيع في ما بين فخذيه. لم يفهم أبداً ما يجري. لماذا هو وحيد في شقة النجار؟ ولماذا ثمة دماء في المكان؟ لماذا يتألم بهذا القدر؟ لا يعرف الإجابة  سوى بعدها.

إن النجار ليس نجاراً. أولئك عصابة أعضاء بشرية يصطادون ضحاياهم بعناية. وماذا أخذوا منه؟ خصيتيه فقط. فقط!

هكذا يقوم عنبة بتقديم الشاي للمسافرين في الموقف وهو يزفر في ضيق. بعد الحادث كره المقهى وترك العمل به. والآن يسعى لرزقه في مكان آخر. عنبة مسكين. عنبة قد ينتحر الليلة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الرجل الذي لا يعرف

انتهى الدرس

الرجل الثاني على اليمين