حوار مع عم صابر ج1

اسمه عم صابر. نحيل الجسد بارز العروق. لما رأيته أول مرة حسبته يتخطى العقد الخامس، وفيما بعد عرفت أنه أصغر مما ظننت، لكنه يظل كهلاً في كل الأحوال. يملك عربة فول على ناصبة حارة أمر بها كل يوم في طريق عودتي من العمل، وكنت كلما مررت به وكان متفرغاً وجدته جالساً يقرأ في كتاب ما. وتمر أياماً وأعتاد ما أرى منه فألقي السلام عليه وأمضي، ثم لا أعرف ما أسميه بغير الفضول يقتادني لأقترب من الرجل وأعرف ما يقرأ، وفعلت وإذ به يقرأ الليالي البيضاء لدُستويفسكي. عم صابر؟ الرجل الذي يشرب سجائر كليوباتر -فرط- ويبصق على السيارات، ويبول على جوانب الطرقات، يقرأ لعميد الأدب الروسي؟

ذهلت وهلة وظللت طوال طريق العودة أفكر في الأمر، حتى إذا وصلت نسيت أمره. دورة أخرى للأيام وأجدني مضطراً لشراء عشائي منه ذات ليلة تكاد تنتهي، فأذهب له وإذ به يضع كتاب أفيون الشعوب للعقاد على الرف، وأراه مهترئاً ممتلئاً بالبقع تلوثه الزيوت والأتربة. وكنت أعرف الكتاب وأعرف أن منهجه ليس سهلاً -على الأقل بالنسبة لي- وأقصد هنا أنه يتكلم في أمور فكرية معقدة مثل الماركسية وقوة الأيدي العاملة والوجودية وما إلى ذلك. هنا ولن أكذب انفجر شي بداخلي، وجدت نفسي أسأله ممازحاً وما رأيك في الماركسية بما أنك تقرأ كتاب أفيون الشعوب، فقال جاداً "الواد ابن الكلب ابني! لا تحلى له القراءة إلا في هذه الأشياء المخيفة" وسألته كيف مخيفة بالضبط، فقال مخيفة بأنها تعطيه وعياً و"تفتح عقله على الدنيا" والحق لم أفهم أين السيئ في ذلك بالضبط.

ودار بيننا حوار عرفت فيه أنه كان يقرأ من كتب والده، ولما صار والداً حبب ابنه في القراءة فصار يقرأ هو الآخر، ثم صار ابنه يشتري هذه الكتب الغريبة بثمن بخس من تجار الكتب المستعملة، وأصبح لا يجد بداً من أن يستعيرها من مكتبة ابنه ذو الخمسة عشر ربيعاً فيقرأ لأن "القراءة حياة" ولأنه لا يستطيع الابتعاد عن الكتب كما أخبرني. وحدثني عما قرأ فقال عناوين كثيرة وقال هذا ما يذكره فقط. والحق أني تساءلت في نفسي عن كمية التناقضات الموجودة في هذا الرجل. أن تسافر مع أليس في بلاد العجائب، وتذهب للحرب الأهلية الأمريكية وتقف مع سكارلِت أوهارا في ذهب مع الريح، ثم تجلس جانب الرجل الحزين على الثلوج وقت الغروب في الليالي البيضاء، وتحاور العقاد وتحاججه في أفيون الشعوب، وفي الوقت ذاته تقف على عربة الفول وتتشاجر مع رجل ما بأن هذا هو السعر الجديد لشطائرك وتصرخ بعصبية أن "كل حاجة غليت"

قلت لنفسي ذاك رجل لغز، وذهبت عنه ليلتها وأنا أنتوي أن أقابل ابنه لعلي أفك شيفرة هذا الرجل العجيب..

يتبع..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أبو علامة - الجزء الثاني

انتهى الدرس

أكرهها