السماء لا تعرفني



السماء لا تعرفني. أتذكر تلك الكلمات جيداً، يتردد صداها في ذكرياتي كلما نسيت، وكيف أنسى إذن!

هل كان ديسمبر؟ ربما. إني أسمعها، أصوات بعيدة تهمس في أذني "ما كان عليك تركها"

 عميقة مثل جُب بئر، بعيدة مثل الغمام في السماء، يتردد صداها في البئر، وتمر مبتعدة كما السحاب. تفيض البئر وترعد السماء. يثور كياني ولا أجيب. 

لا أحد يعرف قصتي. لا أحد يعرف قصة الحطاب الوحيد ساكن الكوخ في الغابة. هي؟ رأيتها بين الأشجار والثلوج فحسبتها شبحاً. تطالعني فأطالعها. أول لقاء بين الحطاب وبين الشابة الغامضة التائهة.

 صامتة تحمل هموم العالم فوق كتفيها. تحدق في سرمد أبدي. يظن المرء أنها تبحث عن معنى الوجدان هناك في تلك الظلمة البعيدة. 

يسألني قلبي عن سر شغفي بشبيهة التماثيل التي تجلس قبالتي على الطاولة. السكون في تصرفاتها أقول، الوهج المنطفيء في عميق عينيها. برودة يدها ونعومتها، تلك اليد التي وجدت منزلاً في يدي تستغيث بدفئه ولا تمانع خشونته. طوّقت أصابعها سبابتي كما يفعل الطفل الصغير فأتاها منزل يدي الأخرى ليعم الدفء في أرضها الناعمة. 

حزينة كانت. متألمة بدت. ليلتها وهبتها سريري ونمت أرضاً، وضربتني دهشة حينما ألفيتها تهجر سريري وتهبط لي تدس رأسها بين ذقني وكتفي، فيلسعني أنفها البارد وتهوّن عليّ أنفاسها الدافئة. ثم كان النوم بجانبي على أرضية الكوخ المتهالك هو ما تلتمسه، فنالته ونامت، أما أنا فنالت مني دموعي. 

أهو ذلك الشيء الذي كنت أحتاجه لعقود؟ أهو رفيق القلب والعقل؟ كاسر الوحدة الموحشة؟ داهمتني ابتسامة، بعدها نمت بكامل الرضا. 


في الصباح لم تكن بجانبي كما تركتها، ولما بحثت، وجدتها أمامي تنظر لي بعينين ينزان دماً، وبابتسامة ارتسمت على وجهها. معلّقة من السقف بحبليّ العتيق. انتحرت. تحت جثمانها قرأت الكلمات. "السماء لا تعرفني". 


مَن كنتِ يا فتاة الغابة؟ ما الذي حدث لكِ؟ ما قصتكِ؟ 

هل عرفتكِ السماء الآن؟ ألهذا ترتسم الابتسامة الهادئة على شفتيكِ؟ هل تحلقين الآن بين الغمام كما تحلقين بين ذكرياتي؟ 

أعددتُ حبلاً بجانبها ووقفتُ على الكرسي. أهمس في أذنها.

"قد تحتاجين رفيقاً يا فتاة الغابة، قد أكونه، لكن عديني أنكِ سترضين أن تكونين رفيقتي إذا وافيتكِ" 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الرجل الذي لا يعرف

انتهى الدرس

الرجل الثاني على اليمين