حكاية قرار
رغم أني بحثت كثيراً. رغم أني حاولت بكل جهدي. ورغم أنني مقتنع بالطريق الذي سلكت. رغم كل هذا لازلت أتساءل.. ما الذي كان سيحدث لو سلكت الطريق الآخر؟
وجب علي إعادة تشغيل الشريط من البداية حتی أتمكن من معرفة الإجابة.
في يومٍ ما، كان الجو بارداً. سماء سوداء قاحلة، وقمر يطل بنصفه في أعين الحالمين أمثالي. كنت أشاهده بهدوء وصفاء، لا أفكر في شيء بالتحديد سوی أن هذا الجو يجب أن يلمسني كل يوم، من أجلي، ليس من أجل العالم، العالم لا يستحق..
قبل أن تتناهی إلی مسامعي تلك الأصوات المألوفة، شجار كل يوم بين أبي وأمي، لكن هذه المرة بدا الأمر مختلفاً، هذه المرة بدا الصوت أعلی، هذه المرة كان الأمر مختلفاً بالفعل..
في بيتنا نحن أربعة، الأب والأم، الابن الأكبر والإبنة الصغری، ثم الحكاية عن علاقاتنا نحن الأربعة..
أبي رجل عملي، لا يؤمن بالحياة الرغيدة.. لا يؤمن بكل ماهو سهل، يؤمن بأن لليمين طريق وأن لليسار طريق آخر. لا يصدق إذا أخبرته أن هناك طريق ثالث في المنتصف، الخيار الثالث ليس موجوداً في قائمته، ليس حتی في آخر اعتباراته..
هي تقريباً شخصية كل رجل كافح وناضل من أن يخبز كعكة نجاحه، لكن لم يتسن له أن يتذوقها أبداً، وهنا، لا يمكن الجزم أبداً، لم يتذوقها لأنه كان مشغولاً بصنع المزيد، أم لم يتذوقها لأنه لم يشعر بوجوب تذوقها؟
في كلتا الحالتين، كان ناقماً علی كل طريقة حياة لا يوجد فيها تعب، العمل يساوي الحياة هي طريقته في فعل الأمور، لا اعتراض هنا، فبطريقةٍ ما، لا زلت أری أن هناك حكمة من نوع معين في نظرته للأمور، لو لم يكن، لما كان قد نجح في حياته، نصفها الظاهر علی الأقل..
زواج أبي من أمي كان زواجاً غريباً، شيء يجدر به أن يوجد في الحكايات والأساطير القديمة، حينما كانوا يحكون كيف أن البطل قاتل العالم كله من أجل يحظی بحبيبته، الفارق أن أبي فعل أكثر من مجرد قتال العالم، بدون ذكر الكثير من التفاصيل، هو أحبها وحصل عليها، لكن ما المشكلة؟! لا بد من أن توجد مشكلة هنا أو هناك، ستكون القصة ناقصة إن لم توجد..
المشكلة أن أمي لم تحب أبي قط، نعم، تلقيتها كصفعة على الوجه حينما عرفت أيضاً. يمكن القول بشكل نظري، أن أبي حصل علی أمي من براثن حبيبها الحقيقي، وبالطبع كانت القضية هو أن حبيبها هذا لم يكن يمتلك المال، أو علی أقل تقدير، لم يكن ثرياً بقدر أبي، وكلما سألت نفسي: كيف تمكن أبي من الزواج من أمي بالرغم من أنها أحبت شخص آخر؟ كنت أتذكر فوراً أن هذه عقبة القلب والحب هذه، كانت جزءاً من قتال أبي مع العالم، وأن هذه ليست المشكلة الوحيدة التي أضطر أبي للتعامل معها.. أقلها آنذاك.
لم يذكرا التفاصيل أمامي قط، فقط قالا أن زواجهما أراد له الله أن يكون وأن يتم، وقد كان وقد تم، بالرغم من هذا، كان يمكنني ملاحظة كل هذه الأمور الصغيرة التي لا يلحظها غريب على العائلة في العادة، بالتفسير المنطقي، هي أمور تجعلك تدرك أن هذا الزواج ربما ما كان يجب أن يتم، وأن العالم كان ليكون مكان أفضل لو أن هذين الشخصين لم يلتقيا أبداً.
أما أمي، فكانت من النوع الذي لا يمكنه التغاضي والسكوت عن الخطأ، النوع الذي لا يمكنه أن يريح رأسه إذا زادت الأمور عن حدها، ليس أن التغاضي عن الخطأ والصمت أمر جيد، إنما فقط أحياناً، السكوت يكون له فوائد أكبر بكثير من الحديث..
شخصيتها تشبه شخصية بطلة في رواية من الروايات المؤثرة إياها، أنثى مناضلة، انقلبت حياتها رأساً علی عقب بين يوم وليلة، تقاذفتها الأحزان مكان لآخر، مرة علی فراق حبيبها، مرة علی زواجها من شخص لا تحبه، مرة من وفاة أشخاص أعزاء علی قلبها، مرة من عدم تمتعها بحياتها بالشكل المطلوب نظراً لأن حياتها كلها عبارة عن كتلة كبيرة من البؤس، بنظرة واسعة، هي أكثر شخص تائه في هذه الحكاية، هي أكثر شخص يحتاج لحبل نجاة، أو كان...
مرة أخری، لم يكونا ليعلناها بهذه الصراحة "أنا أكرهك وأنا أعلم أنكِ تكرهينني ولا يهم" ليس أمامنا أنا وأختي بكل حال، لكن كما قلت أشياء مثل هذه لا يمكن التستر عليها للأبد، ليس علی شخص في مثل سني آنذاك.
كنت حينها في التاسعة، وأختي في سنتها الأولی، في تلك الأيام.. في أواخر عقدي الأول، بدأت الأمور تأخذ منحنی آخر، بدأت النظرات تزيد بشكل ملحوظ، بدأت المعاملة تصبح أكثر تعقيداً، تحديداً وبشكل كبير، بعد ولادة أختي، حينها صار التضاد أكثر وضوحاً، وأصبح التيار يقابل التيار في الليل والنهار، فيظهر خط التصادم واضحاً للعيان.
كان هو وقت الشجارات الفعلية، وبدء الصراخ.
بالنسبة لي، كان الأمر مجرد لعبة، ما إن يبدأ الصراخ، فعليّ الإمساك بتلك الفتاة الصغيرة التي تلعب بألعابها، فأن أحضتنها بقوة حتی لا تسمع شيئاً، أو أن آخذها من يدها لنخرج للشرفة نراقب أي شيء سوياً، أحياناً تكون النجوم وأحيانا تكون العصافير..
تأخرتُ يوماً فوجدتها تبكي، استيقظ العقل وصار يسأل، لماذا يتشاجر أبي وأمي؟! وحتی حينما أخذتها للشرفة ظلت تبكي، من الصعب جداً إسكات طفل صغير حينما يجد أن الأمور أصبحت مخيفة، ورغم أنها كانت في السادسة حينما حدث هذا، إلا أنها كانت تبكي وكأنها في الثانية، هي رقيقة للغاية ولا تتحمل كل تلك الأمور، لازلت أشفق عليها حتی هذه اللحظة.
عدت لتلك اللحظة التي بدا كل شيء فيها مختلفاً، أخذت أهرول ناحية باب أختي الصغيرة، وجدته مفتوحاً، توقعتها هناك معهما.. تراقبهما من بعيد.. لكنني كنت مخطئاً، لقد كانت تجلس في الشرفة..
ما أن دخلت الشرفة حتی أحتضنت ساقي وبدأت بنحيب بصوت خافت، أنقبض قلبي حينها، وراح السؤال يتردد في ذهني مرات ومرات، صغيرتي الرقيقة.. ماذا فعلوا بك؟!
منذ تلك الليلة لم تعد الأمور كما عهدتها ابداً، لم أعد أنظر لهما نفس النظرة المعتادة، بدأت اهتم أكثر بالصغيرة، رسمت لها صورة أفضل عني. ومن هنا يمكن تخيل الذي صارت عليه الأمور بعد ذلك، خصوصاً بعد أن مات أبي.
***
كانت الأيام تمر بسرعة، لم ألحظ كيف كبرت الصغيرة وكيف شاخت الشابة، لم ألحظ تأثير الزمن علی أختي وأمي..
ربما لأن المسؤولية كانت ثقيلة علي كاهلي، يمكن لأي شخص ان يفهم الصورة، رجل البيت.. صاحب المسؤولية.. وأشياء كثيرة مثل هذه، ولن أنكر.. كانت الأمور لتصبح أصعب بكثير لولا أن أبي كان هو أبي، لا لشيء سو أنه -رحمه الله- لا يترك شيئاً للظروف، تجده جاهزاً معداً للعدة إذا ما داهمنا هجوم من المخلوقات الفضائية غداً، ولما كانت احتمالية موته واردة بالنسبة له، فقد كان من البدهي أن يجهز لكل الأشياء..
أشياء مثل أن أمي لن تحظی بقرش من الميراث إذا تزوجت، ليست لطيفة فكرة أن يدع كل شيء بيدها وحينما يذهب إلی بارئه تأخذ هي الثروة وتذهب تاركة إيانا لنموت، مع أنه يعرفها جيداً، ويعرف أنها لن تقدم أبداً علی فعل هذا، إلا أنه وعلی ما يبدو كانت لديه تراتيب أخری، ربما الأمر له علاقة بالحرص علی بقائها معنا.. عدم فقداننا لحضور الأم في حياتنا، لن أقول حنانها لأننا لم نحظ به قط قبل موته.. أقول فقط وجودها وحضورها.
بطريقةٍ ما رأيت أن هذا كان مثالياً لكلانا.. أنا وأختي..
مثلاً، بدأت أمنا تولينا إهتماماً أكبر من ذي قبل، بدأت حياتها تكون أكثر راحة، بدأنا نراها تبتسم، بدأنا نحصل علی تلك الأشياء التي لم نتمكن من الحصول عليها أثناء وجود والدي، بإختصار هم يقولون رب ضارة نافعة وأنا أوافقهم القول.
وقبل أن ألحظ وجدت نفسي في منتصف عشريناتي، ويرادفه أن مكاني ينتظرني في إحدی الشركات الكبيرة، فيمكن القول أن علاقاتي بهذه الشركة لم تكن سوی مجرد خدمة من صديق عزيز للغاية علی أبي، مرة أخری جزء آخر من تراتيب أبي يظهر أمامي.. الرجل الذي يدرك كل شيء، ويفعل كل شيء دون أن يدري الآخرون.
أدركت أن هذا ما يُسمی بالعيش في ظل الوالد، هو ما كنت أفعله منذ ولدت وعلی مايبدو سأظل أفعله حتی أموت. أهذا ما شعر به عبد الوهاب حينما أصر ألا يعيش في جلباب أبيه؟
بالطبع لم يكن يإمكاني أن أقول لا، البدء من الصفر ومن أسفل السلم كي تشعر بطعم نجاحك؟ للأسف لم أكن هذا الشخص، أنا أذكی من أن أفكر بهذه الطريقة.
وهكذا بدأت مرحلة جديدة من حياتي، صرت أری الأمور بمنظور مختلف، مثلاً، صرت أری أن أبي لم يكن مريحاً في بعض الأشياء، تلك الأفكار بأننا كنا نعيش حياة جيدة فقط لأنه قد مات.. ربما أتحامل عليه قليلاً؟ ربما، بالطبع افتقدناه في بعض الأشياء، ولكن يمكن إنكار أن بسمة وجوه البيت الأسبوعية، صارت بعده يومية، ومن السهل كذلك التفكير في أن عائلتنا كانت تتدمر بوجوده حياً بيننا، كان الأمر يحدث ببطء، لكنه كان حتماً يحدث، عشر سنوات في المستقبل وكان يمكنني أن أري كيف يمكن أن يكون الحال، أم تائهة وربما مجنونة لا تعرف شيئاً عن أولادها، ابنة عاقة بطريقة غير عادية وتحمل كره مبرر تجاه الأم والأب، وأنا.. ابن مجنون ضعيف الشخصية لا يری في حياته سوی أشياء سوداء أياً كانت، ثم الأب.. السم والترياق لكل ما يحدث.
حينئذٍ قررت.. أنا سأصبح عكسه.. سأتعلم من أخطائه حتماً وأبني عائلة كبيرة تحبني وتحزن علی فقداني، لا أن يقولوا موتي كان أجمل شيء حدث لنا!
هو بعض مما أقررته لنفسي بصمت في بعض الليالي.. حرصاً علی ألا أجهر بهاته الأفكار قط، كلما أتذكر الأمر، يرن صوت أمي في أذني حينما كانت تقول "اذكروه بالخير، اذكروا محاسن موتاكم" للأسف لم ألتزم بهذا حتی النهاية وكما ينبغي.
وإذا كان أول شيء قررته في تلك الفترة الحاسمة هو ألا أصبح مثل أبي، فإن أول امرأة أحببتها بصدق كانت قضيتها تذكرني بقضية أبي وأمي، وفي أعماقي وجدتني أنتحب لهذه الفكرة، أنا أحبها وهي تحب شخص آخر تماماً، أهذا ما شعر به أبي!
لازلت أذكر يوم ألمحت لها بأنني أهتم بها كثيراً، وربما أريد أن أبنی شيئاً معها، ظننتها ستفرح، هي موظفة عادية في المكتب، وحينما يخبرها رئيس القسم بأنها يراها شيئاً، فعلی الأقل كانت ستبتسم، بدلاً من هذا وجدتها تشير لأحدهم بحرج وتقول إنها ستبني كل شيء معه، لم أفهم القصة إلا بعد مرور بضعة ثوان، فهمت بعدها أن هناك شيئاً ما بين هذين الاثنين.. وليس أي شيء، شخصية خجولة مثلها تتمكن من إخراج هذه الكلمات من فمها؟! لابد من أن الأمور بينهما عميقة للغاية.
تفهمت الأمر.. مثل الأب يكون الابن، والظروف لا يمكن أن تدع هذه الفرصة تمر مرور الكرام، ليس معي.
ولما بدا الأمر أشبه باختبار صعب يقيس مدی تمسكي بمبادئي التي قررتها مسبقاً، فقد كان من البدهي أن أفكر في حل يشبه الحلول التي قد يتخذها أبي لو كان مكاني، حل يقول إن الفتاة فقيرة.. وهي مثل حالة أمي حينها، وبما أنه الفقر والحال اليسير، فأهلها سيسرهم كل السرور أن يقبلوا عرض هذا الفتی السخي الثري بالزواج، ستكرهني؟ فليكن.. ستحبني مع الوقت، سأبني عائلة مفككة؟ لا يهم.. سأعوضهم بأشياء أخری..
حينئذٍ انتبهت لأن صوت أبي في كلتا أذناي يبدو عالياً للغاية، تذكرت أنني قد عهدت لنفسي بألا أسمح لنفسي بالتأثر بهذا الصوت مادمت حياً، الثبات علی الموقف الحق.. بعضٌ مما يصنع شخصية الرجل، وأنا لطالما أردت أن أكون رجلاً، رجلاً حقيقياً.
وهكذا، راغباً مُرغماً، اضطررت للتخلي عن فاتن، عن أول شيء أردته فعلاً في حياتي، عن حب قوي وإحساس صادق.. رغبة عارمة وحياة أخری.
ولو أنني في النهاية وجدت القصة مختلفة عما أردتها أن تكون.. وجدت أن هناك من عبث بالنهاية التي وضعتها في خيالي، حتي بالكلمات وأماكنها، إن هذا ليس ما دفعت الثمن كي أراه، ثمة لصٌ بيننا!
***
مع اختلاف منظور الوقت من شخص لآخر، وجدت أن العام الذي مر منذ آخر مرة تحدثت بها مع فاتن، بدا كعامين وربما ثلاثة لو بالغت، فأنظر لنفسي في المرآة كل يوم، وأرى الفروق، صرت أكبر قليلاً في التفكير والشكل، ربما صرت أكثر حكمة وخبرة في الحياة كذلك.
كانت حياتي وقتها عبارة عن الاستيقاظ صباحاً.. الذهاب إلی العمل.. العودة من العمل، تقبيل رأس أمي، العشاء، ثم النوم، روتين طبيعي للغاية، أشياء لا تستحق الذكر.. ليس في كتابي.
حتی أتی ذلك اليوم الغريب..
اتصلوا وقالوا إن هناك شيئاً سيئاً قد حدث.. هذا النوع من الأشياء الذي يتطلب مني الذهاب إلی المشفی بأقصی سرعة، فقط لأكتشف في النهاية أنني متأخر للغاية، وأن الأمور لا يمكن أن تكون أسوأ.
قالوا إنها كانت تجلس في الحديقة تراقب الطيور، ثم فجأة سقطت عن الكرسي، رآها أحدهم فاتصل بالإسعاف بسرعة، السيارة أخذت وقتاً، والوقت في مثل هذه الحالات يعد مسألة حياة أو موت..
بالطبع لم يجرؤ السائق أن يقول إن الناس أغبياء للغاية وأنهم هم من أخروه، فقط قال إنه فعل كل مابوسعه، وهو تقريباً ماقاله الطبيب أيضاً، لم يشعر أن من واجبه إخباري بالسبب الرئيسي لموت أميط بقدر إخباري بأنه حاول، لم أسأله بالرغم من هذا، أزمة قلبية.. سكتة دماغية.. أكانت المعلومة ستحدث فرقاً كبيراً!
خريف ورياح.. سقطت ورقة أخری من الشجرة الذابلة، ولم يعد هناك سوی ورقتين يافعتين من المفترض ألا يقعا، لكن القاعدة الثابتة أن جميع الأوراق تتساقط في الخريف.. حتی لو كانت خضراء.
بكيت كثيراً علی فقدان أمي في تلك الليلة، بكت أختي أيضاً، وقتها تضايقت جداً لمعرفتی بأن البكاء هو كل ما نملكه في مثل هذه الحالات، أليس بإمكاننا فعل شيء آخر؟!
تمر الأيام..
هند تكبر وتصبح فاتنة، تعرف طريقها جيداً وتقيس خطواتها بالمسطرة، شيء أنا نفسي لم أكن أفعله، ذكية من النوع الذي لا يدرك فطنته في بعض الأحيان، وهو النوع -كما يقول أبي- الذي يحتاج لأكثر من مجرد دفعة معنوية.. النوع الذي يحتاج أكثر من مجرد.. كلمة.. جملة.. أو نظرة..
كانت مرتابة.. كانت ضعيفة خائفة.. كعادتها، كانت تحتاج لذلك الشيء.. ذلك الظل الذي يقيها من ضوء الشمس الساطع، شخص تتسلق علی أكتافه ربما، مظلة تقي بها نفسها من سيول الحياة..
في البداية، كنت أُعد نفسي هذا الشخص بالنسبة لها.. بشكل كبير السبب في وصولها لهذه المرحلة من حياتها، حتی بدأت أدرك أنني أختفي تدريجياً من حياتها، أنني أُستبدل!
الأمر صعب.. حقاً صعب، تخيلت الأمر..
هند في الثامنة عشرة الآن، تتفجر مشاعر الأنوثة بداخلها، تحتاج لأن تُحِب.. وأن تُحَب، ليس الحب الأخوي.. بل الحب الأسطوري الذي يعيشه الجميع عداها.
رقيقة كالعادة وتخاف من كل شيء وأي شيء يمكن أن يُخيف، تنظر في أعين الناس وتستشعر الغُربة في أعينهم، حتی تنظر في أعين ذلك الفتی، عيناه مميزتان.. تحملان بريقاً، يبدو مثلها تائهاً، هنا تخطر ببالها فكرة، إذا كان هو تائهاً وأنا تائهة، لماذا لانكون تائهين سوياً! علی الأقل سنجد بعض الألفة في ذلك، بعدها لاتهم القصة كثيراً.. لاتهم الكيفية، فقط هما أصبحا هما.
الآن من أنا لكي أعترض علی ما يريده قلب هذه السنيورة؟!
لن أنكر، قد أحببت الأمر، لقد وجدَت كتفاً أخری تُريح عليها رأسها، هذا يزيح عني بعض العبء قليلاً..
بالطبع نقصتنا بعض التراتيب، خطوبة رسمية وبعض الأشياء الصغيرة هنا وهناك، ما أن ينتهي كل هذا أخيراً... ستشرق الشمس بشكل أجمل علی زهرة الربيع.. هند.
كان خيالاً جميلاً بالفعل.. حلماً رائعاً، شيء يخبرك أن القادم أفضل، هذا هو ما توقعناه طبعاً، لم نعرف أن الفتی لديه ورم خبيث في المخ.. وأنه عليه أن يبقی في المشفی حتی يأذن الله بغير ذلك، اعتراضي لم يكن علی مرض الفتی أو علی تأخر الخطط، اعتراضي كان علی المسكينة التي تعلق قلبها بقلب الفتی.. هي ليست قادرة علی تحمل كل هذا.
الجزء الادم من الحكاية باختصار، هي أحبته وهو قد مات....
لا كلمات تكفي لوصف الأمر.. يمكن للمرء التخيل فقط لا غير، أما أنا فقد رأيت، لأول مرة منذ سنوات أشاهد تلك الدموع في عيون تلك الفتاة، رأيتها تتحطم وتنهار أمامي..
مرة أخری عاد ذلك الصوت المزعج يرن في أذني، ذلك الهاجس، هي رقيقة أكثر من اللازم، دائماً تبالغ في تقدير هذه النوعية من الأمور وتعطي المشاعر أكثر من حقها، لماذا لا تعنفها قليلاً وتتحدث معها بصوت العقل بدلاً من أن تواسيها! لماذا لا تظهر بعض الحزم وتخفف من هول الأمر بالنسبة لها! تخبرها بأن الحياة لم تنتهِ بعد.. تخبرها أنه لا يزال هناك الكثير في الطريق، ترفع صوتك قليلاً كي تهابك وتعلم خطورة ما تتحدث فيه..
كان صوت أبي مجدداً.. وعرفت هذا منذ اللحظة الأولی، سمعته وسددت أذناي، لو تخليت عن ما قررته من مبادئ مسبقاً فلن أختلف عن هذا الرجل في شيء، والشيء بالضد ظهر صوتي أنا يقول: عليك ان تكون مختلفاً.. عليك أن تجرب الطريق الآخر.
أنتِ حزينة يا هند، يا أختي العزيزة؟ أنا أيضاً حزين، أنتِ تبكين ياهند؟ انظري، أنا أيضاً أبكي.
حاولت وحاولت أن أواسيها بكل الطرق.. حاولت أن أغلق لها باب الماضي، لكنها أصرت ان تعيش هناك.. وسط ذكرياتها، اختارت ألا تتقدم.. أن تبقی في الخلف، وبقيت أنا وراءها أحاول أن أدفعها للأمام..
لكم كانت عنيدة!
تركتها، أضطررت لتركها، لا يمكنني أن أقضي بقية عمري في محاولة انتشالها من حزنها، لدي حياة أنا الآخر، ولا أريد أن أراها تتدمر بسبب أنني ظللت ذلك الأخ الصالح الذي بقي مع أخته حتی النهاية..
لا.. لم أكن وغداً.. أبداً، الوغد هو من يستسلم بعد شهر أو اثنين، أما أن أظل أتنقل معها من مصحة لأخری، ومن طبيب نفسي لآخر، لعام وربع تقريباً، فهنا تختلف الأمور قليلاً، هنا يمكن سحب كلمة وغد، ووضع كلمة غبي مكانها، أو ربما إهانة أكبر من مجرد كلمة غبي.
بالتفكير في الأمر، كانت هند تمر بفترة صعبة حقاً، العشرين هي سن مخيفة إذا تعلق الأمر بهذه الأشياء.. الحب وما شابه، ضف علی هذا كونها حالة أو إنسانة مختلفة، هي ليست تلك الفتاة العادية التي يمكنها أن تكن بعض الحقد هنا أو هناك، ليست تلك التي يمكنها أن تدافع عن نفسها إذا ظلمها أحدهم، كانت صافية القلب والعقل..
وتطبيقاً لحكمة أن لا أحد كامل، كان عيبها أنها ورغم فطنتها، ساذجة في الحياة الشاعرية، أنها يمكن السقوط من أقل دفعة، ضعيفة، لهذا ظننت دوماً أنهاً كانت تحتاج لشخص يساعدها في حياتها، هي من تلك النوعية من الأشخاص الذين يحتاجون لأشخاص مؤثرين في حياتهم، حضورهم وتشجيعهم.. كلماتهم وأفعالهم، وجودهم نعمة لا يحظی بها الجميع.
شحبت هند..
نحفت وصارت أشبه بالموتی، حتی أنني لم أكن لأستغرب لو وجدتها ميتة علی أرضية المنزل بعد أن جرحت شريانها أو تعاطت بعضاً من العقاقير المنومة.
***
وجدت الأمر أشبه بكابوس.. كابوس من نوع آخر..
الجميع لديهم مشاكلهم، والتي بطبيعة الحال تكون مرتبطة بطريقة حياتهم، من يركب سيارة فارهة يفكر في أن طعم الكافيار الذي تناوله علی الغداء لم يكن بهذه الجودة، تصبح مشكلته أنه نسي أن يضع بعضاً من عطر أوروڤان قبل أن يخرج الليلة. ثم هناك من تكون مشكلته أنه قبيح أكثر من اللازم.. يخاف من أن هذا سيؤثر علی مسار حياته، وهناك من لا تهمه مشكلة قبحه بقدر ما تهمه روحه.. كل مايريده هو أن يبقی حياً فقط.
الخلاصة.. تختلف المشاكل من شخص إلی آخر، ويمكن القول بشكل كبير أنه كلما ارتفع الإنسان في حياته، كلما صارت مشاكله أكثر تفاهة.. أو كلما أنحصرت طريقة تفكيره واضيقت..
مجرد تفكيري بهذا، كان يجعلني أدرك شيئاً مهماً للغاية.. شيء يساعدني علی إكمال يومي بذهن قادر علی الاستمرار، أدركت أن مشاكلي تافهة حقاً.. أنني أعيش حياة رائعة فعلاً مقارنة بحيوات أخری، أنني لا يحق لي التذمر أو التأوه بصوت عالٍ للغاية، يكفيني فقط الأنين بصمت، وتذكر أن هناك من يبكي بصمت أيضاً.
وبقدر ما أحزنتني هذه الأفكار ،فقد أعطتني دفعة غريبة لا أستطيع أن أسميها أو أصفها، جعلتني أتخطی فكرة أنني لازلت متمسكاً بفاتن أكثر مما توقعت، أني في الواقع لم أختلف كثيراً عن هند، أنا مغفل يعيش في الماضي..
الفارق أنني سمحت لهذه الأفكار أن تدخل عقلي فقط، بينما هند سمحت لهذه الأفكار أن تدخل لعقلها وتسیطر علی أفعالها، الفارق كل الفارق.
ظل الأمر هكذا حتی بلغت هند سن الثانية والعشرين، تخرجت بالكاد من كليتها ولم يعد هناك أية أهداف أخری، رآها أحدهم فرصة مناسبة كي يتقدم ويخطبها، ذلك الثري العادي الذي يملك بضعة شركات نفط وبضعة أسهم في عدة شركات.
الفكرة لهند لم تكن مطروقة من الأساس، علی ما يبدو أنها قد عقدت النية علی عدم الزواج أبداً..
لكن الرجل كان محترماً.. وجود شخص بأخلاقه ومكانته يعد أمر نادر الحدوث للغاية، وفوق هذا كله كنت أعرفه معرفة شخصية.. وأعرف جيداً أنه ليس من النوع المعروف لرجال الأعمال الذين غالباً ما يُعرفون بتنشقهم لشيء يُدعى النساء..
هو شخص بسيط تقليدي يبحث عن فتاة مخلصة ليخلص لها بدوره وتنتهي مهمة أخری من مهامه في حياته، ويمكنني الرهان بأنه سيحبها أكثر من أي شيء آخر.. وأن حياتها معه ستكون سعيدة.. سعيدة للغاية في الواقع، لكن مجدداً، هند ترفض.
هي تری أنه ليس بالشخص الذي يُمكن أن يُحب، وأنه ألدغ في حرف الراء، أنه ليس جذاباً وأن السلحفاة تبدو أجمل منه..
كانت تری الكثير بشأنه ولكنني كنت متأكداً أن ما تراه فعلاً هو صورة حبيبها الحقيقي، هي لا زالت تحبه ولا زالت مخلصة له، نوع من التفاني في الحب.. أو ربما مشكلة عدم نسيان ماضي.
"فرصة مثالية.. ستخرجها مما هي فيه، ستعلم أن العالم ليس متعلقاً فقط بذلك الفتی، لسوف تمضي قدماً وتنسی الماضي، صدقني.. عليك أن تزوجها!"
ذلك الصوت مجدداً.. يعبث في أفكاري وينهش في عقلي، ظننت أنني تخلصت منه سابقاً، هذه المرة، يبدو أن لديه شيء مهمٌ للغاية يريد قوله..
"هي تحتاج لهذا وأنت تدرك جيداً أنها تحتاج لهذا، لا يمكنك أن تضعها في موقف الاختيار والقرار أبداً، هي ليست أهل ثقة.. لا يمكنك ببساطة أن تأخذ برأيها وتدعي أن هذا يُسمی بالحرية، هي حمقاء محكومة بنظرة مشاعرها.. لا يمكنك ان تترك مشاعرها تتخذ القرار!"
أزوجها عنوة؟ يبدو لي هذا من نوع الأشياء التي قد يفعلها أبي.. الإجبار كان طريقاً رائعاً بالنسبة له، وهو بالظبط الشيء الذي أردت أن أغيره بداخلي، أردت أن أصبح شخصاً أفضل وأكثر حكمة.
لم أفكر هذه المرة كثيراً، أنا بقرار سبق وأن أخذته منذ أعوام رفضت الفكرة، لن أجبر هند علی الزواج أبداً، ظننت أنني حينها أفضل من أن أفعل هذا.. أفضل من أجبرها علی الزواج، أي نوع من الأخوة سأكون إن فعلت!
في الأصل، كل شيء كان قد انتهى حينما قالت لي ذات ليلة أثناء محاولتي بإقناعها.. "لو أجبرتني علی الزواج، فسأظل أكرهك كما كرهت أبانا طيلة هذه السنين"
قُضي السبيل، لقد قررت بنفسها ما تريده وأنا نفذت لها. نهاية فصل آخر من الحكاية.
فيما بعد أدركت شيئاً غريباً، صوت أبي آنذاك كان يقول لي شيئاً عن أنها -هند- محكومة بمشاعرها في قرارها، هو لم يكن يكذب.. هند بالفعل كانت محكومة مشاعرها وعرفت هذا، ونعم قرارها كان مبني بالكامل علی مشاعرها، الغريب أنني حينها لم أدرك أن قراري أيضاً كان مبنياً علی مشاعري، لم أرد أن أجبرها علی شيء لأنني أحبها، أتذكر هذا وأقول ربما.. ربما لو كنت قد فكرت بعقلي لكان الأمر قد اختلف.
لا أدري بعد كل هذا كيف كان شعوري، هل أوصلت رسالتي؟ هل فعلاً أصبحت شخصاً أفضل مما كان عليه أبي؟ هل هذا حقاً هو ما أريده؟
كل ما عرفته آنذاك أنني قد فعلت ما بوسعي، كنت أظن انني حققت غايتي بأن أصبح شخصاً أفضل، أن رؤيتي للأمور كانت ممتازة وأنني ربما نجحت في مسعاي..
كان هذا قبل أن تبدأ الأمور بالتهاوي، وقبل أن تبدأ الحقيقة بالظهور أمامي، فقط لأكتشف أن رسالتي لم تكن مؤثرة علی الإطلاق.. ليس حتی بربع ما أردت لها أن تكون..
أنا فقط لازلت طفلاً في نظر العالم.
***
في نفس العام الذي رفضت فيه هند الزواج، قابلتها.. قابلت فاتن.. الحب الأول والأخير..
كانت تبدو كئيبة.. شاحبة اللون ونحيفة، لم أجرؤ علی سؤالها عن الذي حدث، آخر ما سمعته عنها هو أنها تزوجت ذلك الشاب ثم استقال كلاهما من الشركة، ليفتتحان مشروعهما الصغير، ويعيشان الحياة التي أراداها، ومن حينها لم أسمع عنها قط..
لهذا أدهشني كون أنها هي من بدأت بالحديث، كان الأمر طبيعياً.. مجرد أسئلة عن كيف ولماذا أعيش الآن.. لا شيء مهم فعلاً، إلی أن وجدت أن عيناها بدأتا تصبحان أكثر لمعاناً.. وأن الدموع ربما تريد أن تنزل منهما، في هذه الحالة لم يكن يمكنني التظاهر بأنني لم أر شيئاً.. مع أنني كان يمكن ان أفعلها ببساطة، ولكن جزءاً من فضولي قادني لألعب معها لعبة تشبه كثيراً لعبة الاستجواب، ولم تمانع أبداً، بدت وأنها كانت تريد أن تفصح قليلاً عما في قلبها.. باعتبار أنني أفصحت لها عما في قلبي في يومٍ من الأيام.
كنا نتجول سيراً علی الأقدام حينما بدأت تحكي لي ما حدث لها منذ أن تركت المكتب..
قالت إن حياتها لم تختلف كثيراً في البداية، إنها كانت طموحة ولديها أحلامها بالعيش في سلام مع حبيبها، ظنت أن الأمور كلها ستكون رائعة ما أن ينجبا أول طفل، ثم ما بعد ذلك سيكون ضرباً من الخيال.. الخيال الجميل بالطبع...
الواقع المحزن أنهما لم ينجبا قط، كان شيئاً غريباً، الطبيب كان يقول لهما بإستغراب إن زوجها يمكن أن يحظی بأطفال مع أية امرأة أخری.. وأنها أيضاً يمكنها أن تحظي بأطفال مع أي رجل آخر، أما أن يحظيا بأطفال سوياً فهذا مستحيل. حالة نادرة.
في البداية كانت الأمور بخير، عدم إنجابهما قصة حزينة ولكن قصة حبهما أكبر، ولا اعتراض هنا.. بالفعل من كان يراهما كان يقول إنهما مثاليين في كل شيء تقريباً.. وهي الحقيقة..
عدا أن الأمور بدأت باتخاذ منحنى آخر معقد أكثر من اللازم، لم تقل لي تحديداً كيف حدث الأمر لأن هذا -كما قالت لي- ليس من واجبي أن أعرفه، أو أنه لن يضيف شيئاً لو عرفته، فقط قالت إن كل شيء بينهما بدأ ينهار عند هذه النقطة، ولو أن هذا لم يكن الشيء الوحيد الذي حدث فإنه كان البداية لكل شيء أتی بعده...
قالت إن الأمور كانت تسير ببطء.. بدأ كلاً منهما ينفر أو لأقل يأخذ مسافة عن الآخر، بدأت الحياة تظهر الوجه القبيح لكليهما..
كان من الجلي أنها تحبه وأنه يحبها، لكن حينما يصل الأمر لنقطة الأطفال والإنجاب.. فحسناً يوجد هناك الكثير من الكلام هنا، هناك من يتخطون الأمر ويعيشون حياتهم بأفضل طريقة ممكنة.. وهناك من لا يستطيعون أن يتخطوا الأمر بهذه السهولة.. تماماً مثل فاتن وزوجها.
مجدداً لم تخبرني ما الذي آلت إليه الأمور.. لم أتمكن من معرفة ما حدث في النهاية، قالت إن القصة انتهت عند هذا الحد.. حينما سألتها كيف انتهت بالضبط، قالت كلاماً كثيراً عن أن الحياة لم تعد بهذه السعادة بينهما ورفضت إخباري تحديداً بنهاية الأمر بينها وبينه..
تولد لدي شعور بأنها نادمة علی الماضي.. نادمة علی الطريق الذي اختارته، ولأن خياراتها في الماضي كانت مرتبطة بي، قررت أن أخبرها بقصتي.. بالطريق الذي اخترته أنا أيضاً.. بالتحديد الطريق الذي ارتبطنا فيه سوياً.
أخبرتها بكل شيء.. أخبرتها أنني كنت أفكر بخطبتها من والديها عالماً بأنهم لن يرفضوني بل في الواقع سيجبرونها علی الزواج مني، وحكيت قصة أمي وأبي، فأخبرتها بالحقيقة.. بأنني لم أفعلها خوفاً من أن أصير مثل أبي.. لا خوفاً من أجرحها أو أُجبرها علی الزواج مني، لم تعلق ولم تقم بأي رد فعل.. ظننت حينها أنها كانت تتوقع شيئاً مثل هذا وأنني لم أفاجئها بالشكل المطلوب..
ساد صمتٌ ثقيل بيننا تبادلنا فيه بضعة كلمات غير مهمة، حتی افترقنا في النهاية، قبل أن ترحل قالت لي:
- "فيما يتعلق بالماضي.. أنا وأنت.. أنا أعتذر.. ربما عليك أن تنسی"
ثم صمتت لوهلة قبل أن تقول آخر شيء أتذكره منها.. أذكر جيداً آخر ما قالته لي قبل أن تبتعد بخطواتها عني.. جملة لن أنساها أبداً..
- "ليتك فعلتها قبل الآن"
نظرت في عينيها حينها، وأقسم أنني تمكنت من رؤية الدموع في عينيها، قالتها ثم ألتفت راحلة.. بينما ظللت أراقبها تصغر شيئاً فشيئاً حتی اختفی شبحها في الأفق، لم أقل لها وداعاً حتی.
ظللت فترة كبيرة أُفكر فيما قالته فاتن، ليتني فعلتها.. هل حقاً ليتني فعلتها؟!
أخذت أفكر بالأمر.. ما الذي كان سيحدث لو كنت قد خطفت فاتن لي؟ هل كانت الأمور لتتغير؟!
ما الذي كان سيحدث لو فعلت كل شيء بالطريقة التي يريدها جزء أبي بداخلي؟!
فاتن كانت ستكرهني.. حقاً ستكرهني، لكن ماذا سيحدث فيما بعد؟
الوقت يشفي وهذا ليس بشيء يمكن للوقت أن يشفيه، لكن ماذا لو افترضنا أنها ستغير رأيها عني بعد سنتين أو ثلاثة؟! ماذا لو افترضنا أنها ستحبني مع مرور الوقت؟! أو أنني قادر على جعلها تحبني مع الوقت! أن شخصيتها مختلفة عن شخصية أمي، فلن أحظى بذات رد الفعل منها!
وهند.. ما الذي كان سيحدث لو صفعتها لأجعلها تفيق من غيبوبة الحب التي وقعت فيها؟!
كانت ستكرهني، نعم ولكن ماذا كان سيحدث في النهاية؟!
كانت ستعرف أن الحياة لا تسير كما تطيب لها دوماً.. كانت ستتعلم شيئاً، لم تكن لترفض خطبتها بعد ذلك.
هل كنت قادراً علی إجبارها الزواج؟ نعم لكني لم أفعل.. أردت أن أكون مختلفاً.. أن أختار طريق مختلف.. طريق أرتاح لسلوكي إياه..
كنت أغمض عيناي وأتخيل كل شيء، أنا الآن أعيش حياة سعيدة للغاية مع فاتن.. تزوجنا وأنجبنا طفلين وها هي قد بدأت تحبني، هند تخطت محنتها وتفتح عقلها أكثر وصارت أكثر إدراكاً لفكرة الحياة.. وهي الأن متزوجة من رجل أعمال محترم لا يفعل شيئاً يغضبها أبداً.. هو يحبها وهي تحبه..
وحينئذ أفتح عيناي علی الواقع، أنا وحيد وأحتاج شخصاً ما، فاتن تعيش حياة بائسة لا تريدها وتتمنی لو أنني فعلت شيئاً حيالها في الماضي، هند تعيش في واقع وعالم آخر مختلف عنا.. وستظل هكذا حتی العشرين سنة القادمة.. ستظل حزينة ووحيدة مثلي حتی تموت، وعلی ما يبدو أنا أيضاً أحتاج العلاج مثل هند.. لماذا لم أتخط بعد شبح فاتن؟! ولماذا تختفي كل النساء من عقلي عند التفكير بفاتن؟!
دمعت عيناي، أخذت أراجع دفتر الذكريات في عقلي، الخيارات الخاطئة التي قمت بها.. اللحظات التي ترددت فيها.. الأوقات التي وثقت فيها بنفسي، كلها كانت تمر من أمام بصري.. تمر بسرعة في عقلي كالكهرباء.. كالنور الساطع الذي ينير النفق لثانية واحدة ثم يخفت مجدداً.. يتركني وحيداً في الظلام..
في تلك الليلة حلمت بها.. أمي، كانت تبتسم، قدرت أنها تسخر مني.. أو أنها لا تعلم شيئاً عما يحدث، لكن اتضح انها كانت تعلم.. قالت:
- صدقني يا بني، أنت لم تفعل أي شيء خاطئ، لقد حاولت أن تختار الطريق الصحيح.
قلت لها بيأس:
- لا يهمني إن حاولت أم لا.. هل أصبت الإختيار؟.
- الحياة دروس.. أنت تعلمت شيئاً أو اثنين من كل هذا.
علا صوتي وقلت بما يشبه الصراخ:
- نعم ولكن متی!! متی سأستخدم ماتعلمته، الحياة لا تعطي فرص أخری.. ليس في هذه الأشياء يا أماه!
- عليك إدراك أن نظرتك كانت قصيرة من نواحي معينة.. وهذا ليس ذنبك.. القبيح لا يعرف أنه قبيح إذا نظر في المرآة.. لن يعرف ما لم يخبره أحد أنه قبيح، لا أحد يعرف ما علته بدون أن يخبره الآخرون بها.
- نظرتي كانت قصيرة في كل شيء ليس في نواحي معينة، ثم ما قصة القبيح والمرآة؟ ما الذي تريدين قوله؟
- أردت أن أقول أن أختك بخير.. أنت هو المريض.
ضحكت:
- أختي بخير وأنا من أحتاج للعلاج النفسي.. عظيم.
- جاوبني.. لماذا لم تتزوج بعد؟ أنت في الثلاثين.. ولديك ما يكفي للزواج.. ما قصتك؟
هنا صمتُّ وأخذت أفكر بالأمر.. أردفت أمي:
- أنت لم تتخط بعد قصة حبك لفاتن.. أنت حتی تعترف بهذا لنفسك.. أنت المريض هنا وليس هند.
- ربما أنا مثل هند.. ربما لم أتخط الماضي بعد.. ربما لهذا لم أتزوج حتی الأن، لكن هند؟. هند لم تتخط الأمر هي أيضاً.
- ومن قال لك؟
- لقد رفضت ذلك الرجل بأسباب وهمية.
- ألم يخطر ببالك أنها رفضته لأنها تحب شخصاً آخر؟!
- ماذا تعنين؟ أتعنين شخص آخر.. غير الذي مات؟
- نعم.
- مستحيل.. كانت لتقول هذا.
- هند ذكية.. لقد عرفت أنها تحتاج لأن تنهض ولأن تنسی الماضي، لاحظت أنها دوماً كانت تحتاج لشخص يساعدها.. لذا حاولت لمرة واحدة في حياتها أن تساعد نفسها، خرجت وعرفت عن العالم وتعاملت مع الناس.. تعلمت، هند نضجت وأصبحت نظيفة الأفكار والعقل، الآن الدور جاء عليك لتفعل شيئاً حيال فاتن.. أتحبها لدرجة أن تدمر حياتك؟
- أتقولين أنني من أحتاج المساعدة، لا هند كما أعتقدت دوماً؟
- هند كانت تحتاج للمساعدة.. دوماً كانت تحتاج للمساعدة.. الأمر فقط هو أنها ساعدت نفسها بنفسها، الآن أنت من تحتاج المساعدة.. عليك أن تمضي قدماً بني.
- إذن هي تخطت أمر موت حبيبها؟! أتعنين أنني أتخذت القرارات الصحيحة.
- نعم، كل قرار مصيري قمت بأخذه كان صحيحاً مائة بالمائة، ماذا برأيك كان سيحدث لو كنت قد قسوت عليها حينما مات ذلك الفتی؟ كانت فترة صعبة جداً لها.. كانت ضعيفة ومهزوزة.. ربما كانت ستهرب أو ستفعل شيئاً غبياً مثل الانتحار وماشابه، وأيضاً أخبرني.. هل كنت حقاً حقاً تعتقد أن حياتك مع فاتن ستكون جيدة؟ أعني هل كنت تعتقد أنها ستحبك بعد أن سرقت منها حبيبها! بعد أن فرقت بينها وبين أكثر شخص أحببته في ذلك الوقت! كانت ستكرهك.. كانت ستراك شيطاناً.. النساء لا تنسی هذه الأشياء.. لا أحد يفعل.. سلني أنا.. أنا أعرف هذه الأشياء، ألم تفكر حقاً في قصتي أنا وأباك؟ أحلام اليقظة تكون غبية دائماً.
- لكنها أخبرتني.. قالت لي ليتك فعلتها.. ليتني تقدمت لها آنذاك.
- لا لا.. ليس هكذا أيها الأحمق.. فاتن لم تقصد هذا، لقد رأت في عينيك أنك لا تزال متعلقاً بك.. شعرت بالذنب لهذا حكت لك كل شيء حدث في حياتها، لقد كانت تُكمل جملتها.. كانت تقصد ليتك فعلتها ونسيت الماضي.. ليتك نسيتها.. ليتك لم تتعلق بها لهذا الحد.
هنا صمتّ وأخذت أفكر بالأمر.. يبدو لي أنها محقة، ومع إدركي لهذا بدأت أضحك بصوت عال... وبدأ صدی صوت ضحكاتي يتردد في المكان كله..
حتی أيقظتني هند وهي تسألني عن سبب ضحكي، تجاهلت سؤالها وذهبت فوراً لصورة أمنا الموضوعة علی الرف، رفعتها بيدي وأخذت أتأمل في ملامح وجهها وهي تبتسم، نفس ابتسامتها في الحلم، مسحت الغبار الذي علی الصورة ووضعتها مكانها مجدداً، سألتني هند مبتسمة:
- هل حلمت بها؟
نظرت لها مبتسماً بدوري:
- نعم.. لقد عرفت الكثير من الأشياء منها.
نظرت هند للصورة وقالت:
- ليس أكثر مما عرفته أنا منها.
نظرت لها مندهشاً.. سألتها:
- حلمتِ بها أنتِ أيضاً.
- نعم.. منذ زمن.. سنة أو أكثر، كنت تائهة.. وهي من جعلتني أفتح عينيّ علی الحقيقة.
ثم نظرت لي وأردفت:
- أنا أحبها كثيراً.
لم أرد عليها وسرحت بخيالي بعيداً، كنت أتخيلها وهي تجلس في أياً كان المكان الذي هي فيه الآن.. أتخيلها جالسة تبتسم.. وربما تضحك.. سعيدة لأنها أنقذت أولادها من المستنقع، صحيح أنها أخرتني للنهاية ولكنها أتت، المهم أنها أتت، ومن يعرف.. لربما أرادت مني أن أجد الحل بنفسي، نعم لمَ لا؟
أنا أعترف.. ربما كنت قريباً بالفعل من الاعتراف بمشكلتي، ولكن بدونها لم أكن لأعرف الحل أبداً.. بدونها كنت لأظل تائهاً.
حينما فكرت بالأمر كنت أومئ برأسي في رضا وأنا أفكر.. من غيرها كان ليقنع هند بكل شيء! من غيرها كان ليتمكن من فك عقدتها، أنا شاب ومهما فعلت واقتربت منها لم أكن لأستطع أن أوصل لها ما تريد أن تسمعه، أما أمنا.. فهي تعرف ما يريد كلانا أن يسمعه.. أنا وهند.
الجزء الحزين بالموضوع هو أنني لم أتغير.. مرت السنوات وتزوجت هند بحبيبها الجديد وتبنت فاتن ولداً رائع الجمال والخُلق، بينما بقيت أنا كما أنا، لكن هذه المرة ليس لأنني لم أتخط موضوع فاتن بعد.. لقد تخطيت الأمر منذ زمن، فقط لنقل أنني لم أجد فاتن الجديدة.
وهو ما حدث.. هند صارت تعرف كيف تكون سعيدة.. صارت تعرف طعم البسمة الآن، الآن هي أم لتوأم.. فتاة وفتی.. الفتاة باسم أمنا والفتی باسمي، لم أكن لأتمنی أكثر من هذا. لايبدو لي ان الحياة كانت يمكن أن تكون أكثر بهجة.
الآن أعرف.. إن الإجابات التي اخترتها في حياتي كانت صحيحة، الطريق الذي سلكته كان هو الطريق الصحيح، إنما فقط لم أعرف هذا سوی متأخراً.
النهاية.

قصه غريبه وعجيبه للغايه تشبه السيره الذاتيه لا اعلم من اين جاءت فكرتها لك وهي عميقه جدا ايضا
ردحذفتحياتي استاذ براء
سعيد أنني يمكنني ترك هذا الانطباع من قصة خيالية. أذكر أن هذه القصة بالذات أنهيتها في جلسة واحدة تقريباً، فلم أسعَ في فكرة معينة مسبقاً... فقط أمسكت القلم وكتبت وجاءت الأفكار تباعاً في عقلي أثناء الكتابة.. فخرجت بهذا الشكل الذي أحسب أنه ومن التعليقات على القصة جميل، لكنه بالطبع ليس أجمل من مرور جنابك الكريم ههه
حذفشكراً على التعليق والمرور.. أتمنى أن أظل عند حسن الظن دائما.. تحياتي.
أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.
ردحذفأزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.
ردحذفأزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.
حذفأزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.
ردحذف