المشاركات

أبو علامة - الجزء الثاني

صورة
  وقف أمامي يطالعني بشيء من الحسرة، وشعرت أنه حزين عليّ وغاضب مني. لم يكن ذاك سوى مدير المشفى الذي أعمل به يقول وهو ينظر لساقي المعلقة أمامه: - كدت أخصم منك أسبوعاً لانقطاعك عن العمل. - لكن قلبك طيب وأنت تحبني. - لكن عفاف شرحت لي الوضع. أصررتُ على زيارتك بنفسي وإعطائك ورقة الإجازة المرضية لتوقعها بنفسك. يقولها ثم يمد يده لي بورقة رسمية من المشفى، مع قلم حبر. أوقع الورقة وأنا أسأله: - أين هي عفاف؟ فيجاوبني: - في نوبتها. ويجلس جانبي على السرير قائلاً بصوت خفيض: - ماذا حدث يا أشرف؟ تقرير الأشعة يقول إنك تعرضت لضربة بأداة في ساقك! - وقعت من مكان مرتفع وارتطمت ساقي بكتلة إسمنتية، هذا هو ما حدث. - وهذا ما قالته لي عفاف أيضاً، وهو ما لا أصدقه. هل رأيتها؟ أمتأكد أنت أنها عفاف التي نعرف؟ - ماذا تعني؟ - أعني أن ثمة ما حدث في تلك الرحلة لكنكما لا تخبرانا به. - أعني.. هذا من حقك طبعاً أن تعترض على تفسيرنا، لكنك لم تكن معنا لذا... يقف قائلاً: - نعم أعرف، لكن كفاءة عفاف تأثرت وأراهن أنك كفاءتك أيضاً ستقل. وهنا دخل أبي يحمل بعضاً من المقبلات واجب استقبال المدير، إلا أن الأخير شكرنا مؤكداً على ضرورة ا

أبو علامة - الجزء الأول

صورة
  عقولنا خطيرة للغاية، يمكنها أن تجبرنا على الحياة في الجحيم، ويمكنها أن تعطينا أسئلة دون أجوبة، يمكنها ويمكنها. أن نرى الوهم ونصدقه؟ كله بسبب عقولنا. إنها تتحكم بنا! وإني أخاف عقلي، إذ أعتقد أني رأيت الوهم وصدقته بسبب عقلي. أول وهم صدقته، هو أني بصفتي طبيب يمكن أصبح شيئاً، يمكن أن أصير مجدي يعقوب القادم، يوماً ما سأكتشف تلك البكتيريا التي تهاجم خلايا السرطان وتوقف تفشيه في الجسد، وسيسمون البكتيريا على اسمي. حلم غير واقعي، أو كذبة وقحة، ويفوت الأوان على إدراك أن الأحلام كلها غير واقعية، لهذا تظل أحلاماً.  المعادلة سخيفة، وواضحة في ذات الوقت. المميز يكون مميزاً منذ البداية، تتناثر العلامات من حوله على أنه سيصبح مميزاً يوماً ما في المستقبل، أما العاديون، مثلي، ومثل الأكثرية العظمى من البشر، لم يولدوا من أجل يصبحوا مميزين، يمكنهم فقط أن يحلموا، وأن يحاولوا. حينما أجادل بهذا مع الأصدقاء يقولون إن رؤيتي للعالم أصبحت سخيفة، ولا أوافقهم.   مع طرقي لباب الثلاثينات بخوف، أدركت أن الأوان قد فات على الحلم، أو المحاولة حتى. طبيب الأعصاب الأعزب الانطوائي المثير للريبة، أرى النظرات وأسمع الهمسات، حس

انتهى الدرس

صورة
بين الحين والحين أحاول نشر قصة أو خواطر عادية ولا أجعل المدونة مرتعاً للعناتي على أولئك بسبب ما يحدث الآن، لكنني وبصراحتي الفجة أشعر بالحرج في أن أتكلم في شيء غير الذي يحدث الآن. أعلم أن عجلة الحياة يجب أن تسير ولا يجب أن نوقف حياتنا كلها بسبب هذا، لكن المرعب أننا نألف الأمر ولم يعد أحد يتكلم. ولأني صرت أقرف من كتابة اسمهم، ولأن قلمي فقد حتى قدرة الكتابة المعقولة، فإذا كتبت سأسب سباباً لا يليق بي لكنه بكل تأكيد يليق بهم، قررت أن أجلب أحدهم من الماضي ليتكلم عوضاً عني. هذه مقالة كُتبت قبل عقد وثلث تقريباً، للراحل العظيم -رحمه الله- د. أحمد خالد توفيق. تذكرتها اليوم وما أشبه اليوم بالبارحة، فعلى ما يبدو، موضوع الأطفال هذا هواية محببة لهم منذ زمن. ذكرى بحر البقر. سأحكي لك يا مريم قصة كالتي حكيتها أمس.. في سنك تحلو القصص و التحليق بجناحين شفافين في أنسام الخيال، ولست أنسي لمعة عينيك السوداوين الجميلتين وأنفاسك المتلاحقة وأنا أحكي لك عن سندريلا عندما اقتربت عقارب الساعة من الثانية عشرة فراحت تركض كالملسوعة هاربة من الحفل. كنت خائفة مذعورة، وبرغم أنني أكدت لك أن نهاية القصة سعيدة؛ فإن النهايا

هِباتٌ صغيرة

صورة
  لم يكن يدري السبب، وقد قضى سنيناً من عمره في التساؤل: لماذا أنا بالذات؟  ليس تساؤل مظاليم، بل تساؤل مُنعّمين. وكان هاجسه يخبره: هل أنا المختار؟ هل يجب عليّ فعل شيء معين بما ملكت؟ وقلبه يعنّفه: أرأيت ذو نِعم يسأل عنها بدلاً من الشكر!  هكذا، يقضي يومه بالشكر وينام راضياً. ذاكرته طويلة الأمد، ولا ينسى أبداً يوم شيّع أحبته لآخر مرة وهم يخرجون مودعين من غرفة التخدير بالمشفى. كان حينها يستعد لجراحة ضرورية في عينيه، وكان سعيداً أن ألم مخه وعينه سينتهي أخيراً، وينتهي أخيراً أخبروه، ولم يخبروه أنه سيفقد البصر. خافوا إن عرف رفض، وإن رفض مات، فأخذوا عنه قراراً لم يكن ليملك الشجاعة على أخذه لواحد منهم كما اعترف لنفسه فيما بعد وحينما علم بالحقيقة. حاولوا تبرير الأمر له بعد علمه، فقال شقيقه الأكبر: - الحياة لا زالت ممكنة، لا تيأس. وقال والده الذي قارب الكهولة: - الآن انس الأمر. عندي لك مفاجأة، وجدت زوجة هي لك ترضى، فما رأيك؟ وقالت أخته الصغيرة وآخر الحاضرين: - ثمة عظماء فقدوا أبصارهم، وما زادهم ذاك إلا إصراراً. ولكم كان القول قاسياً على روحه آنذاك! كان كثيراً ما يفكر في حكايته. كيف البارحة كان سيت

أكرهها

صورة
لا أحبها. لا أذكر كم مرة قلتها. إني لأكاد أفتح شباك النافذة وأصرخ خلالها "لا أحب السياسة! لا أحبها!"  لماذا؟ لأنها كالسلم. كلما صعدت درجة، وكلما تعمقت، كلما اكتشفت أن جل السوء في العالم بسببها. والوضع الآن يجعلها تسيطر على فكر المرء. إذا حاولتُ كتابة شيء ما لا أستطيع كتابة إلا كل ما هو مرتبط بالسياسة. حتى أفكار قصصي التي تراودني في الآونة الأخيرة كلها سياسية بحتة، حتى أحلامي -والله شهيد- جزء منها سياسي! هل ينسى أحد السياسة التي جلبت الدم على العراق قبل عقدين تقريباً! ذلك الجرح العميق الذي كان ظاهره جمل هادئة من رجل له مع الله حساب، تراه يتحدث واثقاً عن أسلحة الدمار الشامل في العراق، وعن سلامة وأمن المنطقة. الشهم يريد أن ينقذ شعباً من حاكمه الظالم، ويبحث عن سلامة منطقة تبعد عنهم آلافاً من الكيلومترات.  هذه كوميديا سوداء. الباطن كنا جميعاً نعرفه. لعبة لم تغب عن عقل طفل صغير. الباطن سياسة البحث عن النفط التي كلفت ملايين الأرواح العراقية. مع الخصم ربما مئات الآلاف فقط. صفقة مقبولة مقابل أطنان النفط التي خرجت من العراق آنذاك.  ثم تأتي قوة الإعلام. ثمة سر رهيب في موضوع استخدام الأط

خبز الشهادة

صورة
  تتصفح آخر الأخبار. تدعو لإخواننا وأخواتنا في غزة. تظن أنك قوي نفسياً لأنك تدري إن إخوانك أولئك في غزة شهداء قد أخذوا تذكرة مباشرة للجنة بإذن الله، وتدري أن الإقتصاد الإسرائيلي رغم دعم الشيطان الأكبر أمريكا في هبوط مستمر، وتدري أن هناك شيء هائل يقترب. سد يكاد أن ينهار، وانفجار رهيب سيصيب آل صهيون. تظن هذا ثم ترى صورة خبز عادي تماماً، ورغم ذلك لا تدري لماذا تحطمت كل قوتك.  ثمة قصة قصيرة تدعى خبز الفداء للكاتبة سميرة عزام. فيها يجد البطل نفسه مضطراً بين اختيارين. إما الموت جوعاً مع رفاقه، وإما أكل خبز لُوث بدماء الفتاة الرقيقة المناضلة التي يخفق قلبه بحبها. هو تنبؤ غريب لما يحدث اليوم. ذاك خبز مُدمى في غزة بعد قصف المخبز. الفارق أن خبز سميرة عزام كان فداءً لأرواح أشخاص كادوا يموتون جوعاً، أما خبز اليوم فهو شهادة على إبادة جماعية تحدث بحق أهل غزة أولاً وأهل فلسطين ثانياً. ولسوف يأتي يوم القيامة وينطق هذا الخبز ويخبر ما حدث. وسيضحك الشهداء ويبكي البغاة. ويلكم يا آل صهيون اليوم، ويا آل صهيون في كل زمان ومكان. صدقتم فالدم رخيص في الدنيا، لكن ثمن الفاتورة ليس اليوم.

الرجل الذي لا يعرف

صورة
  كان محمود الشناوي لا يعرف شيئاً. يوم ماتت ابنته الصغيرة ذات الأربعة بين يديه سألته امرأته باكية أن كيف حدث ذاك فأجاب أنه لا يعرف. قال لهما الأطباء أن سبب وفاتها سكتة دماغية حدثت فجأة دون سبب. محمود الشناوي رجل مستقيم. يعرف خالقه وله طريق معه. إذا مشى وإذا نام وإذا اختلى بنفسه شعر بعين تراقبه. وهو يدرك أنها ليست عين خلق بل عين خالق. يصلي ويستغفر ثم يلتمس التقوى في أفعاله وأقواله، حتى مع ظالميه. محمود الشناوي لا يعرف لماذا جاء للدنيا. كبر في دار أيتام وحينما سأل لماذا أنا هنا لا يخبروه فصار لا يعرف أن أمه قتلت أباه وتركته وهربت. وحينما وجدوه رضيعاً هزيلاً جانب جثة المغدور كان هادئاً. أرضعته أم سماح الجارة وهي تستغفر من شر إنس يترك الرضع للجوع، وكانت تسأل نفسها كيف جائع لا  يبكي! بل كيف رضيع لا يبكى! محمود الشناوي لم يبكِ قط في حياته ولا يعرف لماذا. لم يحب امرأته قط ولا يعرف لماذا رغم أنها كانت تعشقه في السر والعلن. أذنب في حقها مرات ولا يعرف لماذا. لمس نساء لسن له وليس لهن ولا يعرف لماذا. وتاب بعد الذنوب ولا يعرف لماذا. سلك بعد الهوى طريق الله كاملاً مكملاً مستقيماً دون اعوجاج ولا يعرف